سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

15‏/08‏/2010

أشباح الميناء المهجور/ الفصل السادس عشر

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل السادس عشر )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
مرت الأيام ، وعادت الجامعات إلى فتح أبوابها . وكان زياد مؤمناً بأنه صار الآن مسؤولاً عن أُسرتين : أسرته الكبرى المكوَّنة من أبيه وأخته ، وأسرته الصغرى المكوَّنة من زوجته وطفلتها. وعليه أن يبحث عن عمل آخر يضمن له مستوى أعلى من الدَّخل. صحيحٌ أنه يدرس ويعمل، لكنه بحاجة إلى عمل ذي مستوى أعلى. كما أن عليه أن يجمع بين الدراسة والعمل والحياة الأُسرية ، مما سيزيد الضغط عليه إلى درجة شديدة للغاية . كانت الجامعة في هذا اليوم الذي جاء بعد انقطاع طويل بسبب الحرب التي طالت أجزاءً كبيرة من المؤسسات التعليمية المختلفة . فهنا لا يتم التمييز بين مدني وعسكري . الكل ضد الكل . الحكومة ضد الشعب ، والشعب ضد الحكومة . والدول المجاورة تتنازع فيما بينها على اللاشيء . وللأسف فالنظام السياسي سعيد بهذه اللعبة غير النظيفة ، لأنه يستثمرها لإطالة عمر حكمه ، وتحقيق مكاسب ذاتية ونفوذ أكبر وأوسع ، مما يجعل الحكومة مطمئنة للغاية ، فلن يتفرغ أحدٌ ويحاسبها عن سرقة الشعب، وتضييع البلاد. فالكل مشغول بالكل، والحكومة تلعب على كل الحبال . رجع الطلاب إلى الجامعة . كل طالب انقطع عن لقاء صديقته عاد ليلتقيَ بها في زوايا الجامعة ، ويضحك عليها بكلمتين ، وهي سعيدة لأنها تسمع هذا الكلام من كل طالب تجلس معه ، وتبيع نفسها له مجاناً . وعاد المخبِرون إلى أوساط الطلاب لينقلوا أخبار الحركات الطلابية إلى السلطات الأمنية ، فهذه الجامعة هي أهم جامعة في البلاد على الإطلاق، وهي المعقل الرئيسي لجماعة الإخوان المسلمين، على الرغم من وجود ضئيل للحركات القومية واليسارية . كما أن الجامعة خارجة للتو من انتخابات مجلس الطلبة . وما إن انتهت الانتخابات حتى اندلعت الحرب ، مما أدى إلى تأخر إعلان النتائج . وعلى أية حال كان انقطاع الدراسة فرصة ممتازة بالنسبة للحكومة للقيام بتزوير الانتخابات على أوسع نطاق دون أية رقابة . وبالفعل تم تزوير الانتخابات ، فأُعطيت الغالبية الساحقة من المقاعد للطلاب الموالين لسياسة الحكومة ، أما الإخوان المسلمون فلم يحصلوا إلا على مقعدين فقط مع أنهم فازوا بغالبية مجلس الطلبة، إلا أن الحكومة تفعل ما تشاء دون النظر إلى صناديق الاقتراع، فالأوراق في الصناديق تم إحراقها ، ولم ينظر إليها أحد نهائياً . فقد كانت العملية الانتخابية إجراء شكلياً أمام وسائل الإعلام لتعكس الصورة الحسنة عن البلاد ، وهذا كله من أجل ذر الرماد في العيون لا أكثر ولا أقل . إذ إن أسماء الفائزين معروفة مسبقاً . كانت التعليمات الرسمية أن يقوم الدكاترة بإلقاء المحاضرات من أول يوم دون تأخير ، في محاولة لكسب الوقت بعد أن ضاع جزء كبير من أيام الدراسة أثناء الحرب . كان الدكتور وائل عمَّاش يلقي محاضرة ، ويبث فيها أفكاره العلمانية والليبيرالية . والكل يستمع ، ولا يحرِّك ساكناً ، فغالبية الطلاب مشغولون بإرسال الرسائل إلى أصدقائهم وصديقاتهم عبر الهاتف الخلوي ، وغير معنيين بالمحاضرة من قريب أو بعيد . وبعد مضي عشر دقائق من وقت المحاضرة دخل زياد متأخراً ، وقد استأذن الدكتور بالدخول معتذراً من التأخر ، فأذن له الدكتور على مضض . وفي الواقع كان زياد يحترم المواعيد ، لكن أحد مسؤولي الجامعة طلبه لأمر ما ، وهذا سبب تأخيره . إن الطلاب في تلك القاعة خليط عجيب ومتناقض إلى درجة صاعقة . فزياد يتزعم الحركة الإسلامية في الجامعة ، وهاني يتزعم الحركة الشيوعية ، بالإضافة إلى القوميين ، والليبيراليين الذين كان الدكتور وائل يضع لهم أعلى العلامات الوهمية ، ويساعدهم في الأبحاث والامتحانات . وكان الدكتور وائل متفقاً مع أحد الطلاب الليبيراليين أن يسأله سؤالاً محدَّداً معروفاً لدى الطرفين أثناء المحاضرة ، ليقوم الدكتور بزرع فكره العلماني الليبيرالي من خلال هذا السؤال. وهذا ما حدث فعلاً ، ففي فترة التوقف عن المحاضرة قال الدكتور : _ هل يوجد أي سؤال ؟ . رفع الطالب المتَّفِق مع الدكتور يده ، وقال بعد أن أَذِن له الدكتور : _ ما الموقف التنويري من المرأة ؟ . جهَّز الدكتور نفسه للجواب كأنه يُحضِّر الإجابة مع علمه المسبق بهذا السؤال الذي لقَّنه لطالبه ، وقال الدكتور : _ يجب أن تكون المرأة متحررة من كل شيء ، لأن هذا معنى وجودها . فينبغي أن تتحرر من الدِّين فهو يقيدها ، وأن تتحرر من الحجاب لأنه حجاب على العقل وليس على الرأس. كما أنه يحق لها أن تمارس حياتها كما تشتهي، وليس واجباً عليها أن تكتفي برجل واحد فيكون زوجها وسجانها في نفس الوقت ، فهذا اضطهاد للمرأة . وعلى الأنثى إذا أرادت أن تكون أنثى أن تكشف جسمها لهذا الأفق الرحب لكي تتنفس بكل هدوء . وأنا دائماً أقول إن أقصر طريق لقلب المرأة هو شهوتها الجنسية، والمرأة مجرد وعاء ، إنها مثل علبة السردين ، تُفتَح ويُؤْكَل ما فيها، وتُلقَى من يد إلى يد ما دام أن هذا برضاها ، وفي اعتقادي هذه هي الحرية الحقيقية من أجل مواكبة المشروع الغربي التنويري دون تقاليد شرقية قديمة من العصر الحجري . كان هذا الكلام هو المنطلق الذي يعتنقه الدكتور ، ويركض في دنيا الكلام مستنداً إليه . وقد ساد القاعةَ وجومٌ فظيع ، فلم يجرؤ أحد على مناقشة الدكتور خوفاً من أن يرسب في المادة، فالذي يتكلم لن ينجح في المادة مطلقاً،حتى لو أعادها ألف مرة ، والمشكلة أن الدكتور يحتكر تدريس هذه المادة ، ولا تفلت من قبضته . لكن واحداً ، وواحداً فقط تجرأ على الكلام . نهض زياد متيقِّناً بأن هذه المادة لن ينجح فيها أبداً . لكنه آمن بأن عليه أن يقف هذا الموقف حتى لو كلَّفه حياته ، وقال بنبرة هادئة دون أن ينتظر إذناً بالكلام : _ يبدو يا دكتور أن الويسكي الذي تشربه مع صديقك السفير الأمريكي قد جعلك غبياً ووقحاً وكافراً ، ولستُ أدري هل تنطبق نظرتك السادية للمرأة على أمك وأختك وزوجتك ... وأرجو أن ترجع إلى الإسلام قبل موتك ، وإلا فجهِّز نفسك للبكاء السرمدي في قعر جهنم مع الذين اشْتَرَوْكَ بأموالهم . سقطت هذه الكلمات كحجارة النيازك على رأس الدكتور، ودارت به الأرض بصورة بالغة الشراسة، وتغير لونُ وجهه الذي راح يضمحل ويضمحل ، لكنه رغم هذا تمالك أعصابه ، وقال متصنعاً الابتسامة الصفراء : _ لو سمحتَ يا أستاذ زياد ، غادر القاعة بسرعة ، وأرجو أن تبحث لك عن جامعة أخرى خارج هذه البلاد كلها ، لأنه منذ اليوم لن تقبلك أي جامعة في هذا البلد . ضحك زياد ، وقد تعمَّد أن يكون صوت ضحكته عالياً ، وقال : _ إن الجامعة التي تستوعب شخصاً تافهاً مثلك لا يُشَرِّفني أن أنتميَ إليها، وإن الدولة التي تحترم شخصاً مثلك ، لا يُشَرِّفني أن أحمل جواز سفرها ... لا تُصَدِّق أنك مفكِّر أو عالِم، فأنا أعرف الكتب الأجنبية التي تسرق منها كلماتك وأفكارك. وغادر القاعة بخطى ثابتة بينما علا همس الطلاب شيئاً فشيئاً ، وراح الضجيج يملأ أرجاء المكان ، وشاعت البلبلة بين أوساط الطلاب ، فقال الدكتور محاولاً السيطرة على القاعة : _ هدوء .. هدوء، ومن أراد أن يخرج مع زياد فله ذلك،ولكن عليه أن يبحث عن جامعة خارج البلاد . خاف الطلاب من هذا الكلام رغم أن غالبيتهم الساحقة كانت متضامنة مع ما قاله زياد، ولكن أحداً لم يجرؤ على المجاهرة بهذا التضامن. وفي فوهة ازدحام دبابيس الصمت الرهيب خرجت فتاة رقيقة اسمها سوزان من وسط الجموع صارخةً في قاعة الموتى : _ ما قاله زياد صحيح ، وأنا أوافقه الرأي ، وسأخرج من هذه المقبرة المجنونة . وشقَّت الصفوف مغادرة القاعة، وخرجت بكل هدوء ، حتى إنها أغلقت الباب وراءها برفق . قال الدكتور : _ هذان الشخصان قضيا على مستقبلهما تماماً . رفع أحد الطلاب يده طالباً الحديث ، وبعد أن أَذِنَ له الدكتورُ قال : _ اسمح لي أن أقول يا دكتور إن هذه الطالبة سوزان معن اللويمي، ووالدها هو مدير المخابرات . ضحك الدكتور ضحكة نابعة من أعماق نفسه الغميقة قائلاً : _ لا مشكلة حتى لو كانت ابنة رئيس الدولة نفسه . تعجَّب الطلاب من جرأة الأستاذ وخوضه في هذه المسائل.وفي واقع الأمر كان الدكتور واثقاً مما يقول ، فهو صديق مقرَّب جداً من السفير الأمريكي ، وعلى صلة وثيقة بمراكز صنع القرار في أمريكا ، لذا كان يتكلم بكل ثقة لأنه يستند إلى قوة خارجية عملاقة تحميه ، والحكومة تعرف هذا جيداً ، فلا تجرؤ على الاقتراب منه ، خوفاً من أن تتدهور العلاقة بين البلد وأمريكا ، فيضيع القمحُ والمساعداتُ المالية وباقي الامتيازات . فالمسؤولون الحكوميون لا يقدرون على رفض أوامر السفير الأمريكي نهائياً، فهو يتجول في طول البلاد وعرضها ، ويتدخل في كل القضايا صغيرها وكبيرها ، ولا أحد من رجالات الدولة يقدر أن يعترض على أفعاله ، لأنه الحاكم الفعلي لهذه البلاد . ذهب زياد إلى كافتيريا الجامعة ، وطلب قهوة لكي يستعيد تركيزه ويقظته . وبينما هو في خضم شربه للقهوة أخذ يفكِّر في مستقبله الدراسي الذي انتهى فعلياً، فهو يعلم تماماً أنه لن يحصل على الشهادة نهائياً من أي جامعة في هذه البلاد . لذا أخذ يفكِّرأن يترك الحياة الدراسية بشكل قطعي ، لأن وجوده صار كعدمه . ومهما فعل لن يحصل على الشهادة ، فالدكتور وائل عمَّاش سوف يستخدم كل نفوذه لتدمير مستقبل هذا الشاب. أخذت الوساوس والخواطر تهاجم زياداً من كل صوب وحدب . لقد وصل إلى ذروة التعب النهائي ، ولم يملك إلا أن يقول في نفسه : _ حسبنا الله ونعم الوكيل ... لا حول ولا قوة إلا بالله . قرَّر زياد أن يترك الدراسة بعد إعلان نتائج الانتخابات ليطمئن على حركته الطلابية التي يقودها . وبعد أربعة أيام قامت إدارة الجامعة بإعلان النتائج التي جاءت صاعقةً بشكل مخيف. فالتزوير بلغ أشده ، وأُسْقِط الإسلاميون عمداً ، مما جعلهم يُنظِّمون مظاهرة عارمة في ساحات الجامعة ، ولم يكونوا وحدهم ، بل شارك في تلك المظاهرات عدد كبير من الطلاب من شتى التوجهات ، فقد رفض غالبية الطلاب الانتخابات لاقتناعهم بحدوث التزوير على أوسع نقاط وبصورة مكشوفة جداً. لم يستطع حرس الجامعة قمع تلك المظاهرات ، فاستدعت إدارة الجامعة عدداً كبيراً من رجال الأمن لقمع المظاهرة، وقد استخدموا أكثر الأساليب وحشية مثل المياه الساخنة ، وإطلاق الكلاب البوليسية ، وإطلاق الرصاص المطاطي ، حتى إن الأمر وصل إلى إطلاق الرصاص الحي مما أودى بحياة بعض الطلاب ، ناهيك عن الجرحى والمصابين . كان الأمر يشبه ما حدث في جامعة ( كنت ) الأمريكية ، حيث قام الطلاب بالعصيان بسبب ذهاب أمريكا إلى حرب فيتنام ، مما أدى إلى دخول قوات الأمن ، وسحق الطلاب بلا هوادة . انتشرت الدماء في ساحات الجامعة ، وعلا الصراخ في كل الأمكنة ، وراحت سيارات الإسعاف تحاول إنقاذ ما يُمكِن إنقاذه . وحدثت عملية اعتقال واسعة للطلاب، وكان زياد ممن اعْتُقِل ، وعدد كبير من الطلاب ، ونسبة كبيرة منهم كانوا غائبين عن الجامعة في يوم الأحداث . حل المساء ولم يعد زياد إلى منزله . قلقت زوجته عليه لكن والده طمأنها بقوله: _ ربما وجد عملاً جديداً في المساء ، فلا داعي للقلق . هدأت زوجته بعد هذا الكلام لعلمها بأن زياداً كان يبحث عن عمل في الفترة الأخيرة ، وربما وجده . لكن مسألة غيابه طالت يومين دون اتصال هاتفي أو أي خبر من ناحيته . وهذا ساهم في إقحام زوجته في دائرة الشكوك ، وعدم الطمأنينة . ودخل أهل البيت كلهم في دوامة عنيفة ، فالأمر صار يدعو للريبة ، ولكنْ ماذا عساهم أن يفعلوا ؟ . أين سيبحثون عنه ؟ . فالعجوز خضر الزاوي صحته لا تساعده على الحركة ، وفاطمة وفايزة لا تستطيعان أن تدورا في الشوارع غير الآمنة ، وعلى أقسام الشرطة التي تقتلها البيروقراطية وبطء اتخاذ الإجراءات ، والمستشفيات التي ستكون مشغولة في إعادة ترميم أبنيتها بعد انتهاء الحرب التي أكلت اليابس قبل الأخضر. فهما لا تقدران على البحث عن إبرة داخل كومة قش شاسعة مفتقدة للأمن وحرية الحركة ، ولا تملكان أن تسألا عن هذا الرَّجل الذي اختفى فجأة دون خبر ، كأنه طيف اختفى فجأة من هذا العالَم . ولم يملك الجميع إلا الانتظار ، وتحت أرجلهم جمرات القلق والشك والحيرة . فربما يكون قد تأخر لأمر ما ، أين سيذهب ؟ . هذا كل شيء قدروا على فعله . إنه الانتظار ، مجرد انتظار حلم قد يعود ، وقد لا يعود . كانت غرفة التحقيق في مبنى المخابرات مظلمة ، وليس فيها سوى ضوء خافت معلَّق في وسط السقف . وكان زياد في فوهة البركان ، ومركز المدفع ، باعتبار أنه زعيم التيار الإسلامي في الجامعة ، فبدأ التحقيق معه بشكل صارم ، والذي قاد التحقيق مسؤولان كبيران في قسم الحركات الإسلامية في المخابرات ، في حين أن بعض مسؤولي الحكومة كان يتابعون سير التحقيق من وراء جدار زجاجي ، بحيث يَرَوْن ما يجري داخل الغرفة ولا يُرَوْن . كان التحقيق شكلياً لا طائل منه ، فالتهم جاهزة ، ولا محاكم ولا منظمات حقوق إنسان ، ولا منظمات حقوق حيوان، ولا يُسْمَح بالمحامين مطلقاً. وبعد جولة كلام صورية أُودع زياد في الزنزانة الانفرادية ، وَوُضِع رفاقه في زنازين أخرى . حيث بدأ التعذيب فوراً ودون تأخير ، وقد طال الجميع دون استثناء . وعلت الأصوات المتألمة في فضاء السجن قادمة من كل الجهات . حدثت الأمور بسرعة جنونية لا مثيل لها ، وإنني لأتعجب من إجراء ذاك التحقيق الذي لا يسمن ولا يغني من جوع . إذ إن التعذيب بدأ فوراً ، حيث كانت كل التفاصيل جاهزة ومُعَدَّة بعناية فائقة وبترتيب مسبق . صار ظهر زياد كأنه خنادق مفتوحة على كل احتمالات الجرذان ، وأفاعي الصحراء، والحشرات، وكل الدواب . إنه مُشَقَّق بشكل يبعث على الحرقة والألم ، ولم يكن لوحده في هذا العذاب الشرس ، فكل إخوانه كانوا يعانون مثله أو أكثر . وعذابه هو حصته من عذابات إخوانه الطلاب الذين يستقبلون حياتهم الجامعية في سجون التعذيب ، حيث أجسادهم الغضة ، وعيونهم المنتمية إلى حركة السوط الخيالية والواقعية ، وشتى أساليب قهر إنسانية الحلم وإذلال الجسد الترابي وتعذيب فضاءات الذاكرة . لم يستطع السجناء أن يناموا في تلك اللحظات العصيبة، فالألم يمتص رغبة النوم مثلما تمتص الشمس قطرات الندى على حبال الغسيل. وقطعان الألم الرهيب تحرث ذاكرة جلودهم المشققة . إنها الرجفة تنزلق كالثلوج المتَّسخة على أصابع الرمل المتكوِّم كتوابيت الغزاة ، كلهم يغرقون في رعشة الوخز ، ورعشة الوخز تغرق في مفاتيح أقفاصهم الصدرية . والسجن في ذواتهم هو دينامية الفلسفة المحدِّدة لوجود الإنسان خارج الإنسان. فالمشاعر الوحيدة تتكاثر كقطعان غزلان على وشك أن تُصْطَاد. والقضبان الحديدية كأنها صحاري جليدية تنفث الثلوجَ الحلزونية ، والأحزانَ اللولبية . لقد تكدَّست حواسهم في زوايا القشعريرة ، والرجفة تقضم ما تبقى من جلودهم . كانت سوزان تتقلب في سريرها، بعد أن هاجمها الأرقُ البرمائي. ذهنها مشغول بدرجة هستيرية ، فهي لم تستطع التخلص من التفكير بذاك الشاب الذي ضحَّى بمستقبله الدراسي كله من أجل الدفاع عن المرأة ، ومحاربة النظرة الدونية لها والتي يمثلها الدكتور وائل. هل هذا معقول ؟. لقد شطب كل مستقبله الدراسي ، ووقف تلك الوقفة المذهلة ، ورد على الدكتور بكل صلابة وتماسك . هذه هي الهواجس التي انتزعت النومَ من رأسها. وفي واقع الأمر لم تستطع سوزان إخفاء إعجابها بذاك الشاب الذي تعرف أن اسمه زياد ، وهو في مجلس الطلبة . هذا كل ما تعرفه عنه . فزياد لا يقيم علاقات مع الطالبات نهائياً ، ويحاول أن يبتعد عنهن قدر المستطاع . وكل نشاطه في الجامعة الذي قد يستلزم كلاماً مع الطالبات يتخذ طابعاً رسمياً للغاية دون التطرق لمواضيع شخصية . واستطاعت سوزان النوم بعد معاناة شرسة مع الأرق الذي لم يغادرها إلا في وقت متأخر. دخلت في ذاكرة المنام، حيث الماضي يصير مستقبلاً، والمستقبل يرحل ويغيب مثل كل شيء يرحل ويغيب. رأت سوزان في منامها وجه زياد خلف أسوار لانهائية وعارياً من كل قُبَل الرياح ، وجاءها هاتفٌ من مكان سحيق من وديان منامها : (( قولي لأبيك أن ينقذ هذا البريء ورفاقه من السجن لئلا تحملوا دمَ هذا النَّقي زياد الزاوي والآخرين )) . أفاقت من نومها مذعورة، وهي تتصبب عرقاً. هل هذه أضغاث أحلام أم كلام حقيقي ؟ . لم تستطع في تلك اللحظة أن تحدِّد المسألة بدقة لكنها قرَّرت أن تتخذ إجراءً ما حيال هذا الأمر الذي لم تتعود عليه . لقد رأت وجهه ، كما هو ، بكل الملامح والتفاصيل الصغيرة . نهضت من سريرها ، وارتدت ثياباً ساترة لجسدها . وذهبت إلى غرفة أبيها. فتحت البابَ بهدوء ، فوجدت أباها غارقاً في الشخير . ترددت بعض الشيء ، هل توقظه أم لا . وفي النهاية قرَّرت إيقاظه . اقتربت منه ، ووضعت يدها على جسده بحنو ، وهي تقول بصوت خفيض قريب إلى الهمس : _ أبي .. أبي . وقامت بتكريرها عدة مرات ، وهي تهز جسد أبيها ، لكن والدها كان غاطساً في قيعان النوم ، إذ إنه في الليلة الماضية كان يسكر مع بعض مسؤولي الحكومة المتنفِّذين ، ورجع إلى البيت مترنحاً ، وقد قام السائق وبعض الحراس الشخصيين بإيصاله إلى غرفة نومه التي لم يقدر على الوصول إليها بمفرده . فشلت كل محاولات سوزان في إيقاظ والدها الذي كان يحمل أطناناً من السُّكْر والنوم على كتفيه. أُصيبت بخيبة أمل عارمة، وأجَّلت الموضوع إلى الصباح، فسوف يكون والدها قد شبع من النوم ، وفرصة إيقاظه ستكون أكبر . عادت سوزان إلى غرفتها ، ولم تقدر على النوم في تلك الليلة المرعبة ، فالأرق سيطر على كل مقاطع حياتها ، وتفاصيل جسدها المختبئ داخل سجن قميص نومها الرقيق . بقيتْ مستيقظة حتى الفجر ، وسمعتْ صوت الأذان ينبعث من مئذنة المسجد القريب. شعرت برعدة لذيذة تسري في عظامها. كان الأذان قريباً جداً منها. لأول مرة تستشعر هذا القرب الذي أدهشها . وراحت روحها تسبح في كلمات الأذان. إنه إحساس جديد لم تتعود عليه . كانت متوحدة مع كينونة أفكارها ، مع عتمة غرفتها ، فهي لا تحب أن تشعل الضوء عندما تكون في سريرها ، مع أشجار حديقة القصر الذي تعيش فيه . إنها الأغصان تهتز من أثر النسيم العابر في الأرجاء . كانت تلاحظ ذلك من خلال النافذة العارية من الستائر . فكَّرت أن تنهض وتتوضأ وتُصَلِّيَ الفجر ، لكنها غير معتادة على الصلاة . انتصرت على شهواتها في تلك اللحظة ، فقامت وتوضَّأت في حمَّام غرفتها . وتهيَّأت للصلاة ، لكنها لم تعرف ماذا تلبس في ذلك الموقف ، فكل ثيابها قصيرة وضيقة وشفافة . فتحت خزانة ملابسها فراعها منظر ثيابها الفاضحة . لأول مرة تستشعر مأزقها الوجودي من خلال ثيابها التي بدت غريبة إلى حد بعيد . قرَّرت أن تستعير ثياباً للصلاة من الخادمة . وبالفعل ذهبت إلى الخادمة ، واستعارت منها ثياباً ساترة للجسم من أجل الصلاة ، وكم كانت دهشة الخادمة كبيرة في تلك اللحظة . قالت سوزان للخادمة باستحياء بالغ : _ بصراحة أريد أن أسألك سؤالاً ، وأنا في منتهى الخجل منه . _ لا تقلقي يا سيدتي ، أنا مستعدة للإجابة إن كنتُ أملك الجواب . _ كم عدد ركعات صلاة الفجر ؟ . في حقيقة الأمر كانت سوزان لا تعرف كم عدد ركعات صلاة الفجر ، وهذا الأمر المضحك المبكي جعلها تشعر بصغرها وضآلتها وجهلها الفظيع . فهي تعرف أسماء المطربين والممثلين في الشرق والغرب ، وتستمع إلى الأغاني العربية والإنجليزية، وتفهم كلماتِها دون جهد ، لكنها لم تعرف على وجه الدقة كم عدد ركعات صلاة الفجر . أشفقت الخادمةُ عليها ، ولم تضحك على جهلها لعلمها بأن سوزان خرجت من رحم ثقافة أجنبية ، فقد قضت كل حياتها في مدارس أجنبية ، حتى دراستها الجامعية قضتها في أمريكا ، لكنها تعلَّمت تعاطي المخدرات هناك، مما جعل والدها يُعيدها إلى البلاد لتدرس في إحدى الجامعات المحلية . قالت الخادمة : _ عليك أن تُصَلِّيَ ركعتين سُنَّة ، ومن ثم تُصَلِّين ركعتي الفرض . كانت سوزان تعرف كيفية الصلاة عموماً ، حيث تعلَّمتها من أمها المطلَّقة . وبالمناسبة فأمها سيدة متدينة طلبت الطلاق من زوجها لأنها ترى أن ماله حرام، وقد رفضت أن تعيش من مال حرام كما تعتقد ، وهذا قادها إلى الطلاق والزواج من رجل آخر بسيط من عوام الناس . وانطلقت أشعة الشمس تقتحم عزلةَ صمت الأسمنت في حيطان الأبنية . وقرَّرت سوزان عندئذ أن تذهب إلى أبيها لتوقظه . وبعد محاولات حثيثة ومضنية فتح أبوها عينيه بتثاقل بالغ مندمج مع تعجب فظيع لأن ليس من عادة ابنته أن توقظه ، وقال بارتباك وقلق : _ ما الذي حصل ؟ ، هل هناك انقلاب عسكري ؟! . كان عقله مطبوعاً على ألواح الانقلابات العسكرية والمظاهرات والعصيان المدني والتمرد وكل هذه المظاهر باعتباره مدير مخابرات ، وعقله المخابراتي يأبى أن يفارقه ، حتى وهو مستيقظ للتو . قالت سوزان في محاولة منها لتهدئة أبيها : _ لا يوجد شيء من هذا القبيل ، ولكنْ هناك موضوع هام أود أن أخبرك به لم يجعلني أنام طوال الليل . رد بسذاجة : _ إذا كنتِ تتحدثين عن عريس ، فلا بد أن يكون مليونيراً ، وابن عائلة كبيرة في البلد ، وإذا كان كذلك فأنا مستعد أن أقابله هو وعائلته . قرفت سوزان من هذا التشعب الجنوني في الحديث ، وقالت مبتسمة : _ لا يوجد عريس ولا عروس... فأرجوك أن تسمعني يا أبي حتى أخبرك بكامل القصة . وسردتْ عليه قصة المنام بحذافيرها ، وضغطت على أبيها لكي يستخدم نفوذه وينهيَ الموضوعَ . وخضع الأب لرغبة ابنته التي لم يكن يملك أن يغضبها ، فهي ابنته المدلَّلة التي يكون كلامها أوامر بالنسبة إليه . صحيحٌ أنه مدير مخابرات وصاحب نشأة عسكرية صارمة منذ طفولته ، ويحمل أوسمة كثيرة جداً مع أنه لم يشارك في أية حرب ، إلا أنه كالريشة الذابلة أمام إعصار ابنته الهادر . وطلب الأب من ابنته العودة إلى غرفتها، ووعدها أن يجريَ الاتصالات اللازمة فوراً. وبدأت الاتصالات على أعلى مستوى ، وفهم مدير المخابرات القصة كاملةً، وقال للمسؤول عن السجن بلهجة صارمة : _ أَخْرِج هذا الشاب زياد الزاوي ، وكل رفاقه الذين اعْتُقِلوا معه . رد المسؤول عن السجن بلهجة كسيرة وصوت خفيض : _ ولكنْ يا سَيِّدي هؤلاء يُرَوِّجون أن الانتخابات مزورة ، وهذا تشويه لصورة دولتنا الديمقراطية ، وهم يُشَكِّلون خطراً على النظام . غضب مدير المخابرات غضباً شديداً لأنه لم يتعود أن يناقشه أحد ويطيل معه في الكلام ، فقال غاضباً : _ الله يخزيك أنتَ ودولتك الديمقراطية ! . فتزوير الانتخابات في دولتنا من الرأس حتى القاع ، وكل دول العالَم تُزَوِّر الانتخابات ، وأمريكا شخصياً تعرف الموضوع وموافقة عليه ، فاترك هؤلاء الشباب يقولون ما يريدون لكي يقول العالَم عنا إننا دولة فيها حرية تعبير . أما الخطر على النظام فلا يوجد خطر ولا بطيخ ، وأنا هنا من يُحدِّد الخطر وغير الخطر .. مفهوم يا حبيبي ؟ . قال مسؤول السجن والارتعاشة تتلاعب به : _ مفهوم يا سَيِّدي ، واعتبر أن الشباب قد خرجوا الآن . وأغلق مدير المخابرات الهاتف ، ثم نهض من سريره ، وأحضر زجاجة ويسكي من الثلاجة الصغيرة في زاوية غرفته ، وراح يشرب غير شاعر بالعالَم كله . والعجيب أنه يشرب قبل الإفطار . وقد حذَّره الأطباء من أن حياته ستكون كارثية إذا ظل متعلِّقاً بالخمور ، لكنه يرفض أوامر كل الأطباء ، ويظل يردد في نفسه : _ أنا طبيب نفسي ، وأعرف ماذا ينفعني وماذا يضرني ، وسأُداوي نفسي بالتي كانت هي الداء ، وأنا أشرب لأقتل نفسي وأرتاح من هذه الحياة المقرِفة . تفاجأ السجناء بتغير معاملة السجانين نحو النقيض تماماً ، فقد صار السجانون لطفاء ، وأصحاب نكتة ، ويتعاملون مع الآخرين باحترام وشفافية . وهذا الأمر العجيب جعل السجناء يؤمنون بحدوث شيء غير طبيعي . فمن المحال تبدل هذه الطبائع المتوحشة في هذا الوقت القصير إلا إذا حدث أمر جلل. ولم يتوقف السجناء عند هذا الأمر كثيراً، المهم أنهم قد خرجوا سالمين ، وأُفْرِج عنهم مع تقديم الاعتذار لهم من هيئة السجن . وودَّع السجناء بعضهم البعض عند بوابة السجن ، وافترقوا ، حيث ذهب كل واحد إلى طريقه . وبسبب حجم السعادة الغامرة التي هبطت عليهم نسوا جزءاً كبيراً من آلامهم البدنية جراء التعذيب ، على الرغم من وجود آثار مؤلمة ، وتعيق حركتهم ، إلا أن شوقهم العنيف إلى عائلاتهم جعلهم يتحملون كل هذه الآلام ويمضون إلى بيوتهم . كان زياد يمشي وحيداً ، فلا يوجد أي زميل في الدراسة يسكن في منطقته ، وكان يتساءل في نفسه : _ هل أصبحت دولتنا طاهرة تحترم حقوق الإنسان وتعامل البشر كبشر ؟! . ورغم أنه ألقى في قاع نفسه هذا السؤال إلا أنه فشل في الإجابة عنه . فهذه الدولة ليس من السهل أن تتغير بهذه البساطة . ماذا عن عشرات الآلاف من السجناء بلا تهمة ؟ . ماذا عن المدنيين الذي يُساقون إلى المحاكم العسكرية وكل ذنبهم أنهم بدون ذنب ؟ . بصراحة ، هذه الدولة لا يوثق فيها . هذا ما توصل إليه زياد بعد مناوشات فكرية مع ذاته المنشطرة . وأخيراً رن جرس منزل العجوز خضر . أسرعت فايزة إلى الباب إيماناً منها بأن هذا القادم هو زوجها ، وهي تعيش على الأمل مثل كل النساء ، على أمل عودة الرجال الغائبين . وما إن فتحت الباب حتى اصطدمت عيناها بعيون زوجها المتعبتين في لحظة صادمة وعنيفة . لم تتمالك نفسها ، فقزت في أحضانه بكل تلقائية . ولم يملك زياد في تلك اللحظة إلا أن يُطَوِّقها بكلتا ذراعيه رغم ازدياد شعوره بالألم القادم من التعذيب . لأول مرة يشم رائحة أسطنبول من خلال جسدها المتموِّج ، وفي لحظة خاطفة مر كل تاريخ الدولة العثمانية في ذاكرته ، كل التركيات حفيدات محمد الفاتح عَبَرْنَ في مخيلته كالومض الخارج على قوانين الجرح ، هكذا تختزل الأمكنةَ روائحُ أجساد النساء ، فتصير المرأة مكاناً حاضراً وموازِياً للمكان الغائب . دخل الاثنان إلى البيت ، وتجمع أهل الدار الذين عانقوا زياداً ، حتى الصغيرة خولة قفزت بين أحضان زياد ، وهي تقول بكل براءة الطفولة المستلَبة : _ أين كنتَ يا بابا ؟ . ولكم كانت مفاجأة زياد كبيرة وعاصفة عندما سمع لفظة " بابا " تنطلق من فم ابنة أخيه . لقد أنسته هذه الكلمة السريعة كل تواريخ النزيف العابر في أوصاله . فالطفلة يبدو أن تقبَّلت فكرة الأب الثاني ، ربما لكون عمها شخصاً قريباً منها ، حيث إنه كان على الدوام يحضر لها الحلوى والعصير ، ويطالبها بتنظيف أسنانها بعد الأكل، لدرجة أنه اشترى لها فرشاة أسنان زرقاء صغيرة ، ومعجون أسنان للأطفال بنكهة النعنع . وبعد أن جلسوا جميعاً في غرفة المعيشة ، راح زياد يسرد عليهم ما جرى لئلا يحرق قلوبَهم بلوعة الانتظار والفضول القاتل ، فلم يُرِدْ أن يقتلهم مرتين ، في غيابه المفاجئ ، وحضوره العاصف . وقد تعمَّد أن يخفيَ موضوعَ التعذيب لئلا يزدادوا ألماً وحزناً . وبعد سرد قصة الاعتقال قال العجوز خضر : _ اسمع كلامي يا بني ، هذه الحكومة ظالمة ، ابتعد عنها ، ودعك من قصص تزوير الانتخابات ومواجهة الدولة ، وانتبه إلى عائلتك التي تنتظرك كل يوم، واترك السياسة للشخصيات الكبيرة المدعومة . وتابع يقول : _ وهل أخذوا منك المعلومات التي يريدونها ؟ . _ لو طلبوا مني معلومات عن حذاء جارتنا اليهودية فلن أُعطيَهم إياها ، فكيف إذا طلبوا معلومات عن إخواننا ؟ . يا جماعة ، إن عماد الفايد ضحَّى بحياته من أجل ساقطة مدمنة على المكياج وحبوب منع الحمل ، فلماذا لا نُضَحِّي بحياتنا من أجل خالقنا ؟! . وفي هذا الإطار انصبت كلمات زوجته وأخته ، أما الصغيرة خولة فلم تكن تفهم تفاصيل هذا الكلام، وكل الذي فهمته أن هذا الشيء المسمى بالحكومة شرير ويؤذي عمها الطيب الذي هو بمثابة أبيها ، وهي بالطبع لا تحب أي شيء يؤذي أحبابها . هذا هو شعورها الطفولي حول كل الكلام الذي دار ، وقد تساءلت بكل بساطة : _ ولماذا تقوم الحكومة بإيذاء الناس ؟ . وما إن سمع جدها هذا الكلام حتى انتهرها قائلاً بحدة بالغة : _ هذا الكلام أكبر منك ، ولا أريد أن أسمعه منك مرة ثانية ، مفهوم ؟ . هزَّت رأسها بالموافقة ، وكبرياء الدموع الغامضة تتهادى في أقاصي عينيها . فهي بنت حساسة جداً ، وأصغر كلمة تؤثر في مشاعرها لمدة طويلة ، وليس من السهل أن تنسى أي خدش في عواطفها الرقيقة . وقال جدها بصوت خادش : _ هذا ما كان ينقصنا ، طفلة تتحدث في السياسة ، فعلاً بنات آخر زمن . تأثرت خولة إلى درجة كبيرة ، وسلَّمت نفسها لبدايات البكاء التي تزحف مثل مطر أيلول . ولقد لاحظ زياد هذا الموقف فحضنها بكلتا يديه ، وضمها إلى صدره، حيث امتزجت دموعها الناعمة بعظام قفصه الصدري ، وقال : _ يا أبي ، هذه بنت صغيرة ، قد تقول أشياء لا تدرك معناها . غداً تكبر ، وتفهم لماذا حكومتنا تؤذي الناس . غمرت الفرحة فايزة حتى رأسها ، فمشهد احتضان زياد لابنتها جعلها تزداد طمأنينة بأن هذا الرَّجل هو الذي سيلم شعث هذه الأسرة الصغيرة التي فقدت رأسها في ظروف غير طبيعية . وبعد برهة تفرَّق الجمع ، وذهب زياد وزوجته إلى غرفة النوم، في حين خرجت الصغيرة لإكمال مسيرة اللعب مع الأطفال الذين وُلِدوا في هذا المكان البائس ، وهم يُفَتِّشون عن مستقبل قد يأتي وقد لا يأتي . وأُغْلِق باب غرفة النوم . وأصبح الزوجان في فوهة نسيم هذه الغرفة الشاهدة على ولادة انصهارهما في حلم واحد . قالت فايزة وجبهتها تتفجر شظايا ضوء غامض : _ زياد ، أريدك أن تحضنني مثلما حضنتَ خولة . ورد زياد رداً غريباً بعض الشيء ، فقال : _ ولماذا لا تحضنيني أنتِ ؟ . _ لأن الرَّجل هو الذي يحضن زوجته . وبعد أن سمع زياد هذا الكلام حضنها بشدة ، وأدخلها في ذاكرة أضلاعه ، وأطبق أجفانه عليها . ها هو جسدها يلتهب في فوهة بركان المشاعر والشهوة العارمة ، لكن شيئاً لم يكن في الحسبان طرأ عليه ، إذ إن الألم عاوده بشكل رهيب ، لدرجة أن تَوَجَّع بصوتٍ عال ، مما أفزع زوجته ، فقالت والقلق يشويها على نار هادئة : _ ماذا هناك يا زياد ؟ . ابتعد زياد عنها قليلاً ، وقال : _ بصراحة ، أنا تعرضتُ للتعذيب في السجن ، وما زال ظهري يؤلمني . انتفضت فايزة كاللبؤة التي تستشعر خطراً قادماً من جهة ما لكنها غير قادرة على تحديده ، وقالت : _ الله يكسر أيديهم . _ دعكِ من الدعاء عليهم ، الله يهدينا ويهديهم . _ اخلع ملابسك وتمدَّد على السرير ريثما أُحْضِر قطناً طبياً مما تبقى في خزانة الإسعاف الحائطية ، ومُطَهِّرَ الجروح . خضع لرغبة زوجته دون مناقشة ، وقد كانت تقرحات الجروح تلسع جسمَه لسعاً مؤلماً كأن إبر نحل قد استوطنت في أنحاء لحمه الهش جراء التعذيب . ولما رأت التشققات في ظهر زوجها هالها المنظر العنيف، وأشفقت على زوجها، وقالت : _ ابتعد عن الحكومة يا زياد ، هذه حكومة مجرمة لا ضمير لها .. هذه السياسة ستقضي على مستقبلنا ، نحن الذين ليس لنا أحدٌ يدافع عنا . وبدأت تسكب السائل المطهِّر على قطعة القطن ، وتمسح به أماكن الجروح في ظهر زوجها الذي كلما لمست جلده هذه المادة ازداد ألماً وحرقةً ، ولولا الحياء من زوجته لعلا صوته بالصراخ كالطفل الصغير . وبعد انتهاء العملية ارتدى ثيابه بمساعدة زوجته ، واستلقى على السرير من أجل النوم ، لكنه لم يتمكن من النوم على ظهره ، فنام على بطنه ، وقامت زوجته بتغطيته . استسلم للنوم سريعاً على الرغم من آلامه ، إذ إن التعب المسكوب في جسمه كان أكبر بكثير من الألم . وذهبت فايزة لعمل بعض الحاجيات ، فقد تذكَّرت أن عليها جلي الصحون ، لأنها قد تقاسمت عمل البيت مع فاطمة ، وفاطمة قامت بتكنيس البيت ، مما جعل جلي الصحون من اختصاص فايزة في هذه المرحلة .