سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

02‏/08‏/2010

أشباح الميناء المهجور/ الفصل الثامن

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الثامن )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
كان الشيخ سليمان يقرأ في الكتاب الذي يؤلفه زياد " الرد على أرسطو " بعد أن استأذن زياداً . أما زياد فكان ينشر الغسيلَ على الحبال ، ولما فرغ من عمله عاد إلى غرفته حيث وجد الشيخَ مستغرقاً في قراءته فلم يشأ أن يقطع عليه قراءته . توقف الشيخ عن القراءة ، وقال : _ إنه كتاب عظيم يا فيلسوف زياد ، هل ألَّفته وحدك ؟ . _ نعم يا شيخ ، وعلى أية حال فهذا الكتاب ما زال ناقصاً بحاجة إلى عدة فصول ، وأتوقع أن يصل عدد صفحاته إلى ستمائة صفحة . أما لقب فيلسوف فهو أكبر مني ، ولن أُصبح فيلسوفاً إلا إذا صنعتُ تلاميذ يتفوقون عليَّ ، فهذه أكبر نظرياتي الفلسفية . _ إنه كتاب ضخم ومهم ، لكنك تحتاج دار نشر تقبل أن تنشره . _ هذه هي المشكلة في كل الموضوع ، فأمة اقرأ لا تقرأ ، ودور النشر تستغل الكاتب حتى النخاع ، وهي تأخذ من المؤلف مالاً ولا تعطيه ، لكن الأمر يستحق العناء والمحاولة . قال الشيخ مغيِّراً الموضوع : _ قل لي يا زياد لماذا انضممتَ لجماعة الإخوان المسلمين . _ بدايةً يا شيخ يجب أن تعرف أني كافرٌ بالديمقراطية وكافر بالدستور ، ولا دستور إلا القرآن والسنة، لكننا في الجماعة نشارك في الانتخابات رغم أن الحكومة تزوِّرها لتأتيَ بالمرتزقة من الأعراب الرعاع الذي يخدمونها لقاء المال ، ونشارك في البرلمان المهزلة لئلا نترك المجال مفتوحاً للصوص الحكومة كي يسرقوا الشعب دون رقيب أو حساب . هذا كل ما في الأمر . _ هناك سؤال شخصي ما زال يرن في ذهني ، وهو لماذا لم تتزوج حتى الآن ؟ . ابتسم زياد ، وقال : _ بصراحة يا شيخ أجمل حب أنا خسرتُه ، ولستُ مستعداً أن أدخل تجربة احتمال فشلها أضعاف احتمال نجاحها . والمشكلة أن هناك عشرات النساء في رأسي ، وقد أضعتُ وقتي في الاختيار بينهن ، ومن يرد كل شيء يخسر كل شيء . كلهن ركضن ورائي، وكنتُ شريفاً في الحب والحرب . ولو أردتُ الخيانة لكنتُ الآن أشرب الشمبانيا مع أميرات أوروبا . أنا أكثر شخص ركضت وراءه النساءُ ، وأكثر شخص أضاع من بين يديه النساءَ . والمشكلة أن قلبي ليس معي ، إنه مع نساء دخلن في الشفق ولم يخرجن بعد ، فلم أعد أعرف مصير قلبي . إن المرأة التي أحبها بعنف أبتعد عنها نهائياً . أنا مُخْلِص لأشباح النساء اللواتي عَبَرْن في حياتي وطَوَيْنَ قلبي كسجادة الصلاة . وكل امرأة عبرت في ذاكرتي دمَّرت حياتي عن غير قصد ، ورحلتْ تاركةً كل آلام النزيف المنهمر من كل أجزائي. لكن المرأة الوحيدة التي مس جِلدُها جِلدي هي أمي، وإنني أعترف بأنني لا أشعر بالطمأنينة إلا مع أمي، ولا أتخيل نفسي قادراً على العيش مع امرأة غيرها . ما زال صوتها وهي توقظني لصلاة الفجر يرن في نخاع عظمي . هي الآن تحت التراب، رحمها الله ، وقد اختفى آثار قبرها تماماً بعد القصف الهستيري العنيف على المقبرة ، ولستُ أدري لماذا قصفوا تلك المقبرة أثناء الحرب . أنا لستُ متشائماً أو سوداوياً لكن زواجي قد يعيق حياتي الجهادية الثورية ، لذلك كنتُ أدعو عقب كل صلاة : اللهم حَرِّمْ جسدي على نار الدَّارين ونساءِ الدنيا . أضف إلى هذا الآية القرآنية الشريفة : ) سَيِّدَاً وَحَصُورَاً ( ، والحصور كما تعلم يا سيدي الشيخ هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك ، فقد مدح الله سيدنا يحيى عليه السلام لأنه لم يتزوج مع قدرته على ذلك ، كما عُطِفَت لفظة " حصوراً " على " سيداً " كأن عدم إتيان النساء مع القدرة على ذلك قرين السيادة والشرف. ومع هذا فأنا لستُ ضد الزواج إذا كان متوافقاً قلباً وقالباً مع الشريعة. وبالطبع فلا يوجد امرأة تنتظرك حتى المالانهاية. إن لم تتقدم سوف يتقدم غيرك ، وسوف ترى حلمك الوحيد في أحضان قلب آخر أكثر جرأة منك . لم يستطع الشيخ إخفاء إعجابه بهذا التفصيل الدقيق الذي قام بشرحه وتأصيله زياد ، وأدرك أنه أمام رَجُل متبحر ويعرف ما يقول ، لذا لم يُعَلِّقْ على ما سمعه والتحف بالصمت الباهر . وفي الشارع كانت الصغيرة خولة تلعب كعادتها . ثيابها متسخة ، والغبار يحتل جسمها المغطى بثياب بسيطة اشترتها لها أمها في العيد قبل الماضي . وبينما هي منهمكة في اللعب توقفت فجأة كأن شيئاً في داخلها ألح عليها بالوقوف . إنه إحساس غامض لم تجد له تعليلاً . سرَّحت نظرها باتجاه جهة تتكاثر كأحلام الدبابيس الشمسية . رأت رجلاً ببزة عسكرية قادماً من أقاصي جرح الجهات . تجمدت البنت في موقعها الذي صار كأنه قبرها الكلسي الذي لن تخرج من دائرة نفوذه . كلما اقترب ذلك الجندي العائد من القتال تقلَّصت أعضاء البنت الصغيرة حجراً حجراً . بسطاره محتل من قبل الغبار ، والقبعة التي على رأسه كأنها تفاحة ذابلة في حديقة لم تجد أميرة تزورها أو تقطف الثمار الناضجة فاحتلها الذبول . حقيبته على ظهره مثل جبال جليد لا نهائية تلتهم خاصرةَ الموج . إنه يقترب لكن وجهه ما زال بعيداً عن مدارك البنت . تفاصيل الوجه غائبة لكنها تبزغ شيئاً فشيئاً مثل براعم نبات مجهول الهوية أو مجرد من جنسيته . ازداد الجندي اقتراباً وازدادت خفقات قلب الصغيرة بصورة زلزالية . _ إنه أبي ! . صاحت البنت في هذا الفضاء . لكن الأطفال ظلوا منشغلين في اللعب ذاهلين عن صراخها. وبفعل الصدمة لم يخطر على بال الصغيرة أن تذهب لترتميَ في أحضان أبيها . شعرت بخوف المفاجأة التي هبطت كالصاعقة ، فلم تتحمل هذه الصدمة ، وركضت البنت إلى بيتها كالمجنونة . قرعت الباب بشدة وبعد برهة فتحت لها أمها قائلةً : _ لماذا تطرقين البابَ هكذا ، هل جُننتِ ؟ . إن جدك نائم في الداخل . _ أبي ، إنه أبي . لم تفهم الأم ما معنى هذا الكلام ، فقالت : _ وما شأن أبيك بالموضوع ؟! . _ لقد عاد أبي ، لقد عاد . _ هل أنت متأكدة ؟ . _ لقد رأيتُه ، لقد عاد أبي . طار عقل الأم من الفرحة ، وطلبت من ابنتها إخبار عمها زياد بهذا النبأ . وأسرعت الأم إلى الداخل كالممسوسة لتخبر أهل الدار بمجيء زوجها العائد . أيقظت عمها بعنف غير مقصود وصوت متفجر عال لتخبره بالنبأ : _ استيقظ يا عمي ، لقد عاد زياد .. استيقظ . فتح عينيه مذهولاً كأنه غائب عن هذا العالَم، وهو لا يدري هل هو في حلم أم أنه مستيقظ ، وقال : _ هل أنا مستيقظ أم أحلم ؟ . _ إنك مستيقظ يا عمي ، لقد عاد بلال من الجيش . وعندما سمعت فاطمة هذه الضجة أسرعت ظناً منها أن أباها قد حصل له مكروه . أقبلت بوجه نصف ملوَّن نتيجة القلق والاضطراب على والدها ، لكن الطمأنينة تسرَّبت إليها حينما رأت والدها مستيقظاً بصحة جيدة ، وقبل أن تتفوه بأية كلمة باغتها أبوها بالكلام قائلاً : _ لقد عاد بلال يا فاطمة ، عاد أخوك من الجيش . اغرورقت عينا فاطمة بالدمع وكادت تجهش بالبكاء لولا أن أمسكت نفسها . وبدت مشاعرها للوهلة الأولى حيادية لأن المفاجأة جعلت منها قطعة خشب راسبة في قعر مجرة مسافرة إلى الغموض . قالت فاطمة : _ تعالي يا فايزة لِنُبَدِّل ثيابنا ، فليس جيداً أن يرانا بلال بثياب المنزل البالية . استحسنت فايزة الفكرة ، وذهبتا مسرعتين لإرتداء أجمل ما عندهما . وبالطبع كان أجمل ما عندهما ثياباً اشتراها لهما بلال في العيد ، كان ذلك قبل أربع سنوات . أما الصغيرة خولة فكانت تأكل الدرج بأسنانها . هكذا خُيِّل إلي من سرعتها الجنونية . طرقت البابَ طرقاً عنيفاً بكلتا يديها ، فارتبك الشيخ قليلاً وقال مخاطباً زياداً بصوت خفيض جداً يكاد يكون صمتاً من نوع آخر : _ إنها المخابرات . ارتبك زياد هو الآخر ، وطلب من الشيخ أن يختبأ تحت السرير ففعل الشيخ . ارتمى على الأرض ، ودس نفسه بصعوبة تحت السرير . وبصراحة لقد اتخذ زياد هذا القرار بسرعة واستجاب له الشيخ بسرعة دون تفكير عميق أو تخطيط . قال زياد : _ مَن بالباب ؟ . _ أنا خولة يا عمي . تنفس زياد الصعداء وطلب من الشيخ الخروج من تحت السرير ، فالأمر لا علاقة له بالمخابرات. خرج الشيخ وهو ينفض الغبار الكثيف والأوساخ التي علقت بثيابه . أما زياد فبدا عازماً على توبيخ الصغيرة بسبب طريقتها المرعِبة والمزعِجة في قرع الباب والتي جعلت قلبيهما يقفزان من مكانهما . فتح الباب وصرخ في وجه الصغيرة : _ لماذا تقرعين الباب هكذا ، هل أنتِ مجنونة ؟ . أثَّرت هذه الكلمات في نفسية الصغيرة ، فتهادى الدمع في الأحداق الصغيرة دون أن ينهمر . أشفق زياد على ابنة أخيه ، وقال : _ أنا آسف يا خولة ، ولكنك زرعتِ الرعب في قلبي . وكان زياد حذراً في استعمال المفرد وليس المثنى ، فقد قال قلبي ، ولم يقل قَلْبَيْنَا خوفاً من أن تشك الصغيرة بوجود أحد غير زياد في الغرفة. وستكون بالفعل مصيبة عظيمة إذا انكشف سر اختباء الشيخ في تلك الغرفة . قال زياد بعد أن اعتذر لابنة أخيه : _ ما الموضوع يا خولة ؟ . انتصرت خولة على رغبتها العارمة في البكاء ، وقالت : _ لقد عاد أبي من الجيش . انفجر زياد ضاحكاً من الفرح بصورة هستيرية . وانطلق حافي القدمين يجري كشخص هارب من وحوش الغاب . وخولة تحاول عبثاً أن تلحق به . وقد اكتشف في منتصف الطريق أنه حافي القدمين ، لكنه قرَّر أن يكمل مشواره وأن لا يعود ، فالأمر من وجهة نظره لا يحتمل التراجع . أما الشيخ فكان في الداخل مصاباً بالريبة نتيجة عدم فهم الموضوع ، فهو لم يستمع إلى الحوار الذي دار بين الصغيرة وعمها . ولم يملك إلا أن يغلق البابَ وينتظر قدوم زياد ليشرح له ما يحدث . ولم يكد بلال يصل إلى باب بيته حتى اشتبكت عيناه مع عيون أخيه زياد الحافي. توسط بينهما صمت رهيب كصمت بحارة ذاهبين إلى الطوفان وفي عيونهم ذكريات زوجاتهم وأبنائهم . أما خولة فكانت شبه مختبئة خلف عمها زياد تسترق النظر إلى أبيها كأنها خائفة منه ، أو كأنها أمام شخص غريب يرصد خطواتها ليقتنصها . هكذا بدت الأمور . لكن زياد فجَّر هذا الصمت المقيت بقفزة عابرة لأربع درجات واستقر به المقام في أحضان أخيه ، وصرخ بأعلى صوته : _ أخي بلال ، حمداً لله على السلامة يا حبيبي . ودخل الاثنان في عِناق حاسم معزولَيْن عن العالَم المحيط بهما . إنهما نورسان دخلا في عزلة البحر البعيد عن أصابع الرمل . صار الجسدان جسداً واحداً مغلَّفاً بذكريات الطفولة أيام كانا يذهبان مع أبيهما لصلاة الجمعة ويستمران في اللعب في المسجد وعيون المصلين تحاصرهم من كل الجهات . كانا طفلين صغيرين لا يفهمان معنى الصلاة ، وما إن يريا السجاد المفروش في هذا المدى المشرِق حتى يطيرا مثل سمكتين تركتا البحر إلى الأبد واستوطنتا الفضاءَ الشاسع . وعلى الرغم من تنبيه أبيهما لهما قبل الدخول إلى المسجد بضرورة الهدوء والتأدب إلا أنهما كانا يشعران بأنهما وردتان سابحتان في ملكوت الله خالق هذا المدى متحررتان من أتربة الروح وعناصر المذنَّبات الراحلة على الدوام . ذكريات الأزقة الفقيرة حيث العجائز يجلسن أمام أبواب بيوتهن وحيدات ، أذهانهن خالية إلا من التفكير بأبنائهن الذين هاجروا إلى أمريكا . لعبُ كرة القدم ، والحقيقة أنها لم تكن كرة قدم بالمعنى السائد لأنهما لم يكونا يملكان ثمن كرة قدم ، وإنما هي مجموعة من الجوارب البالية يجمعانها من هنا وهناك ويُكَوِّرانها على شكل كرة ، وينطلقان مع أطفال الحارة يلعبون وهم يظنون أنهم لن يفترقوا أبداً . وما دروا أن كل واحد منهم سيذهب في طريق ، وتصبح ضحكاتهم وثيابهم المتسخة جراء اللعب وأهدافهم في مرمى الخصم جزءاً من الذكريات الجريحة التي لا تعود . دخل زياد في عزلة البكاء اللازوردي الملتهِب، وصار يبكي بحرقة عنيفة ، فقال له بلال : _ لماذا تبكي ؟ . إن الرجال لا يبكون . وما إن أنهى بلال كلامه حتى دخل هو الآخر في البكاء بحرقة أكبر من حرقة بكاء أخيه . كانت الذكريات تمتص دموعهما حتى الرمق الأخير . أما خولة فلما شاهدت منظر البكاء استسلمتْ للبكاء بصوت عال ، وكأن هذا اللقاء الذي يُفترَض به أن يكون عرساً صار عيداً للدموع . انفض العِناق بسبب بكاء الصغيرة. نظر إليها أبوها بعينين حالمتين نخرتهما الدموع : _ تعالي يا خولة . أحست خولة أنها أمام طوفان من الذكريات وآلام البعاد ، لكنها برغم هذا انطلقت كالسهم إلى أحضان أبيها ، واختبأت بين ذراعيه كحمامة تُغمِد أحلامها في عشها الحالم البعيد عن أيدي الصيادين . إنها يمامة تسكن في عشقها اللاسع وتتمنى أن لا تفارق تلك الأحضان الدافئة . قبَّلها أبوها وحَمَلها وألقى بها عالياً ثم التقطها . تناثرت دموعها في الفضاء وهي تضحك من كل قلبها . ألقاها مرتين أو ثلاث مرات والتقطها ، وهي تزداد ضحكاً وبهجة . صاروا يُجَفِّفون دموعهم قبل الدخول إلى البيت . والعجيب أن أحداً لم يخرج لاستقبالهم ، ولكن التعجب سوف يزول إذا علمت أن العجوز كان يُرَتِّب الغرفة لكي يجدها بلال في أحسن هيئة . أما المرأتان فكانتا مشغولتين في ارتداء أفضل ما لديهما ، وهما يتناوبتان على الوقوف أمام المرآة لتبدوَ الهيئة في أفضل حال . وهذا الذي أدى إلى عدم خروج أحد من البيت لاستقبال الجندي العائد من الحرب . قُرع الجرس فتأججت حالة الطوارئ في البيت الذي صار أشبه بخلية نحل رغم قلة السكان. مضى الوالد إلى فتح الباب . وما إن فتحه حتى التقت نظراته بنظرات ابنه في لحظة اصطدام عنيفة . ألقى بلال بنفسه في أحضان أبيه ، وتركا الصمت يقول تعاليم الشوق نيابةً عنهما ، أما هما فالتحفا بالذكريات الساكتة دون أن ينبسا ببنت شفة . وصار الوالد يتحسس وجه ابنه كأنه يريد أن يطمئن على صحته ، ويتأكد من عودة ابنه ، وأن هذا حقيقة واقعة وليس حلماً . وعاد الوالد إلى لغته أخيراً وهو يصارع ملح دموعه ببقايا أشواقه اليابسة مثل عروقه المتحجرة ، وقال بنبرة الرافض للدمع : _ أهلاً وسهلاً بك في بيتك يا بلال . _ كيف حالك يا أبي ؟ وكيف صحتك ؟ . _ أنا بخير ، ولا ينقصنا إلا وجودك معنا . والحمد لله أن رجعت سالماً . وأردف قائلاً بعد أن لاحظ دموعاً يابسة في عينيه : _ ادخلْ سَلِّمْ على زوجتك وأختك ، ودعك من الدموع ، فنحن في عرس ولسنا في مأتم . ومضى بلال إلى الداخل في حين أن الأب لم يتمالك نفسه فغرق في بكاء شرس لكنه حاول جاهداً أن يُخرِس صوتَ الدموع لئلا يحس به بلال . خرجت المرأتان من الغرفة وهما في أحسن هيئة . كانت رائحة العطر تفوح من زوجته . وبالتأكيد فهو عطر محلي الصنع يفي بالغرض وليس أجنبياً، فهي غير قادرة على شراء العطور الأجنبية . دخل الزوجان في العِناق ، والمرأة تبكي في أحضان زوجها لكي تتم جدارية البكائيات في هذا الموسم الذي يبدو وكأنه موسم البكاء الأكيد . وتحاشى الزوجان أن يُقَبِّلا بعضهما البعض بسبب وجود أخته . وبعد العِناق قالت لزوجها : _ حمداً لله على السلامة ، لقد اشتقنا إليك يا بلال . واختارت فايزة لفظة الجمع " اشتقنا " ولم تختر لفظة " اشتقتُ " مع أنها كانت تود لو اختارت اللفظة بالمفرَد ، لكنها خجلت من وجود فاطمة التي يبدو أن وجودها كان سبباً في إضفاء البرودة على اللقاء والخروج من حميمية القبلات والاحتضان العنيف. كان قلبه يضحك لأنه عاد إلى شم رائحة زوجته ، ففي المعركة لن تشم رائحة زوجتك التي تحبها . ما أصعب أن تدخل في القتال عارياً من رائحة زوجتك وذكريات عائلتك . هذه الخواطر داهمته سريعاً وفرضت عليه حصاراً لذيذاً كان يود لو يدوم أطول وقت ممكن . وعانق فاطمة ببرودة خفية لم تلاحظها أخته ، وربما ذلك راجع إلى أنه استنزف مخزون المشاعر الذي لديه بعد حفلة العِناق والأحضان الدافئة التي امتصت مشاعره حتى الرمق الأخير . ولكن على أية حال كان العِناق يفي بالغرض ، ولم ينس بلال أن يسأل أخته عن أحوالها وأحوال خطيبها . واختلطت المشاعر في نفسية فاطمة حينما تذكرت أن خطيبها لم يبعث لها رسائل منذ مدة طويلة ، فقالت لأخيها كإجابة عن استفساره : _ الحمد لله ، أنا في أحسن حال ، وبالنسبة لخطيبي أنس فقد انقطعت رسائله منذ مدة طويلة ، لكنني أشعر أنه في أحسن حال هو الآخر . قال بلال مخففاً عن أخته : _ لا تقلقي، كلها أيام وستشاهدين خطيبك واقفاً أمامك ، وسوف تَمَلِّين منه من كثرة ما ستشاهدينه . _ مستحيل أن أَمَلَّ من أنس . وداهمتها ممالكُ البكاء فانسحبت مسرعةً إلى حجرتها. أراد أخوها أن يلحق بها ليخفف عنها ، لكن زوجته اعترضته قائلةً : _ دعها تبكي ، فهي تحب خطيبها بعنف ، والحب لا يكون حباً إلا إذا غسلته الدموعُ البريئة . تعجَّب بلال من كلامها الفلسفي الشاعري ، وقال مازحاً : _ يبدو أنك صرتِ شاعرةً في فترة غيابي . أنا أُقاتِل على الجبهة ، وأنتِ تكتبين القصائد ! . _ لا تُضَخِّم المسألة . فأنا لستُ شاعرة ولكن لدي مجموعة خواطر ستعجبك كتبتُها خصيصاً لك . _ سوف أقرأها الآن . _ ليس الآن ولكن بعد أن تستحم وترتاح من التعب وتُغَيِّر ملابسك المتسخة . ودخل بلال غرفته وهو ينتعل بسطاره القذر ، ولم ترد زوجته أن تطلب منه خلع ذلك البسطار لأنه لا تريد أن تستقبله بالأوامر والتعليمات ، لذا تركته على راحته ، يتصرف وفق الطريقة التي يحبها . كم مضى على مغادرته هذه الغرفة التي كان يفتقدها طوال المدة التي قضاها على الجبهة ؟ . هنا يغيب الزمان في وحشة المكان ويستقيل مكان الألم من زمان الوحدة . هؤلاء العساكر لا يقيسون أعمارهم بالسنوات بل بالطلقات والقنابل والرتب العسكرية ، فالزمن عندهم ليس حفلة ذكريات صامتة بل معركة لا يملكون إلا أن يخوضوها . إنه يستنشق رائحة المكان الذاهب إلى تداعيات الحطام والخراب. رائحة خشب السرير الكالح. مذاق تموجات الخزانة القديمة المتكسِّرة . الأشكال الملوَّنة على السجاد البالي . دهان الحيطان المقشَّرة . آثار حذائه الخشن على السجاد الذي تعبت زوجته من كثرة ما تُنَظِّفه . إنه يبتلع ذكريات روائح الأشياء وأشكالها ومذاقها ويُخَزِّنها في جمجمته طوابير من الأحزان الشقيقة. كم كان بوده لو يستطيع تجديد هذا المكان المثقَل بالفاقة والحرمان . يريد أن يدهن الحيطان بلون رومانسي أكثر ينسيه روائح البارود وأشكال المدافع وقذائف الطائرات والخنادق المغبرَّة . يشتهي إحضار خزانة جديدة في ذكرى زواجهما. ولكن متى ذكرى زواجهما ؟ . لقد نسيها ! . نعم نسيها . هو نفسه لا يُصَدِّق ذلك . صعقته المفاجأةُ ، ولم يكن يتخيل في يوم من الأيام أن ذكرى زواجهما ستذهب إلى أرشيف الذاكرة المنسية تماماً كما تذهب مُخلَّفات الجيش إلى المستودعات المهجورة، وتذهب المعلومات السرية إلى الأرشيف حيث الغبار يتزلج على سطوح الملفات المتآكلة . لقد انتصر عليكَ النسيان يا بلال، أيها المقاتِل على كل الجبهات في الحروب الفوضوية التي لا معنى لها ، حروب يقتل فيها الأخُ أخاه ، لقد خسرتَ المعركتين : معركة الذاكرة الحديدية ومعركة الظلال اليابسة . تكالبت عليه هذه الخواطر واقتحمت جسده المنقوع في تواريخ البارود والرصاص والذخيرة الحية والخنادق والراتب الشهري . وصار يردد في ذهنه عبارة: لقد خسرتَ المعركتين ، كأنه يريد أن يُلَخِّص رحلته إلى اللاعودة، ففي الحقيقة هو لم يرجع ، وإنما بقي في المعركة تحت القصف الهستيري الشرس . والذي رجع منه هو شبحه ليُضاف إلى أشباح هذا الميناء المهجور . سيكون شبحاً مُرَقَّماً ، حيث الدمع والعَرَق والبنادق والبساطير والثياب الخشنة والرتب العسكرية التي لا تحمي من الموت ولا تدل الأحياء على مكان قبرك ، إن كان لك قبر أصلاً . كانت زوجته تُجَهِّز ثيابه الجديدة ، أما هو فصار ينزع ملابسه . حاولت زوجته مساعدته في خلع ملابسه لكنه رفض ذلك بإصرار ، مما أثار تعجب زوجته التي لم تقف كثيراً عند هذا الأمر ، ورفض كذلك أن يترك الرَّشاش . حمله معه إلى داخل الحمَّام برفقة الثياب الجديدة . تعجَّبت زوجته أيما تعجب من إصراره على أخذ الرَّشاش معه أثناء استحمامه ، لكنها أقنعت نفسها بأنه راجع من المعركة ، وربما لم يتخلص بعد من عادات القتال وطقوسه . دخل بلال الحمَّام مثلما يدخل الفاتحون ذكرياتِ أشجار الغابات الشاهدة الوحيدة على موت أشياء الجندي . وضع الرَّشاش قريباً منه في وضع يمكنه من مشاهدته طوال فترة الاستحمام ، ووضع ثيابه الجديدة قريباً من الرَّشاش . خلع بسطاره الذي ترك آثاراً تشبه آثار دب قطبي جريح هائم على وجهه في الغابات . اقتحم عزلةَ الماء الذي كان ينزل على جِلده كالقذائف . إنه يشعر بذلك ، ومهما حاولتُ وصف شعوره فلن أنجح . أحس أنه في معركة جديدة وعليه أن يُثبِت وجوده . يتصارع مع الماء والصابون بعنف بالغ . هكذا بدا المشهد معركة جديدة أو استراحة محارِب تَسبق الموتَ الأكيد . على أية حال ما زال يعتبر الاستحمام معركةً جديدة ، وقرَّر أن يخوضها وحيداً . إنه يكشط الخلايا الميتة بعنف بالغ يترك آثار احمرار على جِلده. فكَّر لو يكشط كل جسده لأنه صار ميتاً كامل المزايا حسب تفكيره . وفي زحمة عراكه مع الماء والصابون شعر أنه يخسر معركته وأن الكفة تميل لصالح خصمه . فكَّر بإحضار الرَّشاش لكنه أعرض عن تلك الفكرة خوفاً عليه إذا مسَّه الماء . لقد صار غريب الأطوار حقاً ، فهذه الخواطر يفكِّر فيها بجدية منقطعة النظير . فإحضار الرَّشاش كانت فكرة حقيقية يزرعها في صدره ، ولم تكن خاطراً عابراً يزول مع آثار النسيان. كان يحس أن الرَّشاش هو المنقِذ له والأمل المتواري خلف غابات الحزن والبارود والموت ، لذا صارت علاقته بسلاحه علاقة هستيرية ، وما دخوله الحمَّام بالسلاح إلا صورة لمدى الرعب الذي يشعر به ، ومدى الوساوس التي تداهمه من كل الجهات وتُحكِم حصارها عليه . إنه دخل في هستيريا مرضية ووسواس قهري يدفعه لمعانقة سلاحه في كل الحالات وإبقائه قريباً منه ليشعر بالطمأنينة ، حتى لو كانت تلك طمأنينة كاذبة . أنهى الاستحمام وارتدى ثيابه الجديدة . حمل الرَّشاش معه ، وخرج من تلك المعركة غير عالِم هل هو منتصر أم مهزوم . المهم أن يكون سلاحه بحوزته . وقد ترك المشهد خلفه مثيراً للقرف ، فالأوساخ السوداء التي كانت تحتل جِلده طوال فترة الحرب ارتسمت في هذه اللوحة الكئيبة . وبسطاره الذي يخترق هواءَ المكان يزيد المشهد بؤساً وقذارة . وملابسه العسكرية المنقوعة في تاريخ طويل من العَرَق والخلايا الميتة والأوساخ هي الأخرى تزيد المكان وحشةً . إن على زوجته مهمة ثقيلة في تنظيف المكان ، وهي التي قضت فترةً طويلة في تنظيفه سابقاً استعداداً لقدوم زوجها في أية لحظة . إنه الانتظار الشرس ، وقد ذهب أدراج الرياح مع كل هذه الأوساخ التي يعج بها المكان السوداوي واقعياً وذهنياً . خرج بلال للاجتماع بأسرته حاملاً الرشاش معه . كان الطعام ينتظره على الطاولة ذات الأرجل القصيرة . جلس على الأرض ، ووضع الرشاش إلى جانبه . واستعد لدخول معركة الطعام بعد معركة الماء والصابون . تعجَّب الجميع من إصراره على الاحتفاظ بسلاحه في هذا المكان ، فقال له أبوه : _ لماذا تحمل معك الرَّشاش أينما تذهب ، اتركه في غرفتك لكي تستمتع بالطعام . _ الأعداء قد يأتون في أية لحظة ، قد يقفزون من النافذة ، أو يقتحمون الباب، أو ينزلون من السقف . يجب أن أظل منتبهاً . حاول الجميع كتمان ضحكاتهم المجلجلة في دواخلهم ، فهذا الكلام بالنسبة إليهم غير منطقي ومثير للسخرية والضحك ، حتى إن أهل الدار ظنوه يمزح للوهلة الأولى ، لكن طريقة كلامه تدل على أنه في أعلى درجات الجدية والوعي . وغاص في الطعام بعد التسمية . منظره وهو يأكل يثير الشفقة ، فمن يراه يقول إنه عائش في سنوات ضوئية لا نهائية من المجاعات والحرمان . وقد كنتُ أتوقع أن الجيش يعتني بصحة الجنود وغذائهم . وهذا الخاطر داهم والدَه ، فقال مخاطباً ابنه : _ يبدو أنهم لم يكونوا يُطعمونكم في الجيش . _ نحن الجنود نموت جائعين من أجل أن يشبع القادة النائمون في غرف العمليات، إننا مجرد جنود لا قيمة لنا ، نُقاتِل في حرب لا تعنينا ، لكي يجنيَ الأرباحَ الأغنياءُ . وأردف قائلاً : _ صَدِّقْني يا أبي ، وصَدِّقُوني يا جماعة، لقد كنا نقاتِل في المعركة وكأننا صائمون نحلم برؤية الطعام أو الماء، في حين أن القادة النائمين في غرف العمليات كان يأتيهم أشهى أنواع الطعام في المروحيات ، وهم لا شأن لهم بالقتال . نحن الذين نموت مثل الكلاب الجائعة ، ولا أحد يسأل عنا . المهم أن يظل رئيس الدولة نائماً مع زوجاته أو عشيقاته في القصر الجمهوري، وأن يظل مسؤولو الدولة في قصورهم ومزارعهم. أثار هذا الكلام عاصفة غبارية مظلمة من الاستياء والحزن . تناثر في أرجاء أرواحهم شعور بأن هذا المقبرة اللانهائية التي تسميها وسائل الإعلام التابعة للحكومة وطناً ما هي إلا مشروع استثماري لكي تسرق الحكومةُ الشعبَ . ساد إحساس بالرعب في الأرجاء ، إحساس ينفيك ويخرجك من نفسك ليشعرك بأنك شخص غير مرغوب فيه في بيتك الذي لبناته من عظامك النخرة . كان الجميع باستثناء بلال الذي يغرق في الطعام إلى شحمة أذنيه يغوصون في مأساة فظيعة . هذا الوطن الذي يدافعون عنه صار مرزعة أبقار لمسؤولي الحكومة ، فالفقراء الذين يقاتِلون ليظل الأغنياء في قصورهم ومنتجعاتهم السياحية خارج البلاد . فما إن بدأت الحرب حتى هَرَب الأغنياء إلى أمريكا وأوروبا بعد أن هَرَّبوا أرصدتهم إلى الخارج قبل مدة ، وجَهَّزوا أمورهم للعيش هناك بعد أن تناهى إلى مسامعهم بأن الحرب على الأبواب ، فكلهم على علاقات وثيقة بصناع القرار في الدولة الذين تصلهم المعلومات بدقة ، أما الفقراء مثل عائلة خضر الزاوي فهم وقود الحرب المنسيون ، وعليهم تدور رحى الحرب ، على أجسادهم النحيلة وعيونهم الغائرة في أكوام قش مندثرة . هذه الأحاسيس زُرِعت في رؤوسهم في ساعة نحس مستمرة ، كأن هذا الميناء المهجور ألقى في رؤوسهم كلهم هذه الكومة من الخواطر . يريدون أن يقولوا ما يحسون به لكنهم تركوا مهمة القول لعيونهم الخرساء المحدِّقة في عيون بعضهم البعض. نثر بلال كل هذه الخواطر الصاعقة في جماجمهم ، وغاص في الطعام وحيداً طريداً منفياً بين شفرات الزمان وخناجر المكان . أما زوجته فايزة فبعد أن شبعت من رؤيته نسبياً وتجوَّلت في مأساة الجميع التي نثرها زوجُها كأشياء الطوفان تذكَّرت أن تذهب لتنظيف الحمَّام بعد استحمام زوجها ، فانسحبت بهدوء دون أن تشعر أحداً . فالجميع كانوا مشغولين بهواجسهم وأحزانهم ومستقبلهم الذي مضى. اقتحمت فايزة وحشة الحمَّام القذر . كانت الأوساخ مختلطة مع فقاعات الصابون المبعثرة في المكان . (( أتمنى لو تُنَظِّفَ المكان بعد الاستحمام يا بلال )) ، قالت في نفسها . لكنها تراجعت بعد أن اخترعت عذراً لزوجها ، فهو عائد للتو من الجيش ، ولا بد أنه مُتعَب لدرجة لا تسمح له بتنظيف المكان . هكذا ابتكرت عذراً له ، لكنها تذكرتْ أنه لم يُنَظِّف المكان بعد الاستحمام منذ تزوَّجا ، وأنه يترك لها مهمة التنظيف . (( نحن النساء نعيش في بيوتنا خادمات لا أكثر ولا أقل ))، قالت في نفسها . وانطلقت لتنظيف المكان بعد أن شمَّرت عن ساعديها ، ورفعت ثيابها إلى حد الركبتين ، وأيقنت أن ثيابها الجديدة في خطر . وفي الحقيقة لم تكن ثيابها جديدة بالمفهوم المتعارف عليه ، لكنها أفضل الموجود ، لذا فقد كانت حريصة على عدم اتساخها . إنها تنظف المكان برفق ودون حماس أو تهور . فرغ بلال من الأكل . نظر إلى أخيه زياد قائلاً : _ كيف حال دراستك الجامعية ؟ ألا تريد أن تتخرج لتساعد أباك ؟ . _ الحمد لله ، الدراسة على أحسن حال. وأتوقع في الأيام المقبلة أن أجد وظيفة مع الدراسة، فأنا موعود بعمل في العاصمة. سأدرس وأشتغل في نفس الوقت مثلما كنتُ أفعل قبل الحرب . في واقع الأمر لم تكن الدراسة على أحسن حال ، فأستاذه الليبرالي العلماني يحتكر تدريس إحدى المواد الدراسية، وقد اتخذ موقفاً من زياد ، فلا أمل له بالنجاح عند ذلك الدكتور . وبالنسبة للعمل المنشود فهناك اتصالات بينه وبين مفكِّرين قرَّروا إنشاء مجلة تُعنَى بالفلسفة الإسلامية، ويريدونه للعمل معهم . وبالمناسبة فزياد معتاد على العمل والدراسة في آن معاً ، فقبل الحرب كان يعمل في سوبر ماركت بدوام مسائي. فالفلسفة في هذه البلاد لا تُطعِم خبزاً . وقد قدَّمت له جماعة الإخوان المسلمين مساعدات مالية لعلمها بوضعه المعيشي الصعب ، لكنه رفض تلك المساعدات لأنه لم يُرِد أن يبدوَ انضمامه للجماعة من أجل تحقيق مردود مالي أو ما شابه ، وانطلق إلى التفتيش وحيداً عن مصدر للرزق بعيداً عن دعم الجماعة المتاح له . قالت فاطمة والحماسة تلسع جبهتها : _ أخبرنا عن يومياتك في الحرب وأهم القصص التي حدثت معك . كانت ترمي من وراء سؤالها إلى العيش في مجتمع الحرب الذي تقرأ عنه في الكتب والروايات التي كانت تستعيرها من المكتبة العامة في البلدة قبل أن تبيعها الحكومةُ لأحد رجال الأعمال الذي قام بتحويلها إلى مطعم سياحي مستغلاً موقع البلدة . أرادت فاطمة أن تحصل على خبرة الحرب والمعاناة والحكايات المثيرة التي لا تنتهي ، وتُنسَج حول الجنود والحرب والتضحيات . لكن والدها قطع عليها الطريق وشطب كل ما كانت ترمي إليه بجرة قلم قائلاً : _ دعك منها يا بلال، هؤلاء البنات لا هم عندهن سوى القصص والحكايات. ثم وجَّه كلامه لابنته قائلاً : _ أخوك راجع من المعركة مُتعَباً ، وغير قادر على الكلام والقصص . وهذه الحرب لا نريد أن نتذكرها ولا أن نرويَ قصصها . الله لا يعيدها . ثم التفت إلى ابنه بلال قائلاً : _ بعد الأكل اذهب ونم لكي يرتاح جسمك من هذا التعب المقرِف . قال بلال بعد أن فرغ تماماً من الأكل : _ اعذروني يا جماعة فأنا بصراحة محتاج إلى النوم لمدة قرون كي أستعيد نشاطي. وهبَّ واقفاً حاملاً الرَّشاش معه . لم يشأ والده أن يتحدث معه بخصوص الرشاش وضرورة وضعه في مكان منعزِل وأن لا يحمله معه أينما ذهب . لم يرد الوالد أن يضغط عليه خاصة بعدما اصطدم بإصرار ابنه الغريب على الاحتفاظ بسلاحه . توجه بلال إلى غرفة نومه وارتمى على السرير مثل كيس الطحين الغامض الذي نسيه صاحبه في محطة القطارات المهجورة ، ووضع سلاحه إلى جانبه حاضناً إياه . وبعد فترة بالغة القصر بدأ الشخير يغزو ذرات الأكسجين المخنوقة في المكان. وزوجته المسكينة أَتَمَّت تنظيفَ الحمَّام على أحسن وجه، وما إن خرجت منه حتى وقعت عيناها على زوجها المتكوِّم كجثة السُّبات . أشفقت عليه واغرورقت عيناها بالدمع الخفيف ، وذهبت إليه لتضع على جسمه غطاء قطنياً خفيفاً جاءها كهدية يوم زواجها . لم تعد تذكر مصدره بالضبط، لكن نزيف الذكريات انهمر عليها لحظة تغطيتها لزوجها المثقَل بالذكريات والوساوس والتعب . اصطدمت عيناها بمنظر الرَّشاش النائم مع زوجها والذي يحتل مكانها ، فتساءلت في نفسها بتعجب : _ هل ستظل ورائي ورائي أينما أذهب ؟ . وبالطبع كانت تخاطب قطعة السلاح التي تحتل مكانها بدون خجل أو اعتذار . شعرت للوهلة الأولى أن احتفاظ زوجها بالسلاح أخذ منحى هستيرياً لا يُطاق ، فمن غير المعقول أن يأخذه معه أينما ذهب . هكذا كانت تفكر . لقد نشبت عداوة شرسة بينها وبين قطعة السلاح تلك . هل يُعقَل أنها تغار من قطعة السلاح ؟. لستُ أدري بالضبط لكن منظر السلاح وهو في أحضان زوجها لا يشي بالارتياح أو الاسترخاء أو الهدنة مع عناصر جسمها وذكريات روحها المخنوقة جراء هذا المنظر.