سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

11‏/08‏/2010

أشباح الميناء المهجور/ الفصل الرابع عشر

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الرابع عشر )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
كانت ديالا تتلوى من الألم وهي نائمة على السرير في طور المخاض ، فهي على وشك الولادة ، فقد حملت سِفَاحاً من صديقها هاني . ولم تجرؤ على الذهاب إلى المستشفى خوفاً من أن يسألوها عن والد الطفل ، فَيُكْتَشَف أمرها ، وتصبح فضيحة لا أول لها ولا آخر . وقد طلبت من جارتها أم وهدان المساعدة والوقوف إلى جانبها . وبالطبع فقد فهمت جارتها الموضوع لكنها لم ترد أن تفضحها . أما ديالا فقد تركت العمل في عيادة الطبيب بعدما لاحظت أن بطنها راح يكبر شيئاً فشيئاً ، لذا اعتزلت في بيتها ، ولم تكن تخرج إلا للضرورة القصوى من أجل شراء حاجيات لا مفر منها . وهي تحرص على أن تخفيَ شخصيتها قدر المستطاع . وقد فكرت بالقيام بالإجهاض ، لكنها لم تكن جريئة بما يكفي للقيام بذلك العمل . فاستسلمت لقَدَرِها حاملةً ذَنْبها العظيم على كتفيها . قامت أم وهدان بتسخين الماء ، ووضعه في وعاء بلاستيكي . أما ديالا فقد كان صراخها يمزِّق ذراتِ الأسمنت في الحيطان المتكاثرة كالجراد الحكومي . بدأت تأكل في نفسها والألم يسلخ حبالها الصوتية . أسنانها انطبقت على شفتيها بحيث بدأ الدم يسيل من شفتيها. أما أم وهدان فبدت مرتبكة ، فتارة تمسح العَرَق عن جبين ديالا، وتارة تمسح الدم المبسوط على الشفتين بمنديل . وتارة تتكلم بكلمات من شأنها تخفيف العذاب الذي تعانيه هذه المرأة . واشتدت ساعة المخاض ، وتغير لون وجه ديالا الذي انزاح نحو وجوه الموتى . حاولت أم وهدان سحب الطفل من تلك البقعة السحيقة ، وكرَّرت المحاولة إلى ما لانهاية، والألم يتضاعف إلى درجة التشظي والحطام . وبعد عشرة دقائق تقريباً خرج الطفل باكياً . أما ديالا فقد كان العرق يبني أبراجه على وجهها المغمور بالتعب والصفرة والانهيار . جسدها يرتعش كما لو كان ضفدعاً في بركة زئبق جليدي . وعيونها تنهمر بالدموع ، وهي تبكي بحرقة شديدة . والطفل يبكي بحرقة شديدة . لكن أم وهدان ظهر على وجهها علامات الابتسام والسرور ، وقالت : _ مبارك يا ديالا ، الله رزقك بولد مثل القمر . ووضعت أم وهدان الطفل في طشت الماء الساخن، وراحت تسكب الماء عليه، ثم أحاطته بقطعة قماش استدارت على جسده الطري حد التماهي مع اللاشيء . ثم أعطته لأمه لكي تراه وتحضنه . وضعته الأم إلى جانبها على السرير ، بينما ذهبت أم وهدان لإحضار شيء ما تسقيه للوالدة. أحضرت لها كوباً من اليانسون، وطلبت من ديالا أن تشربه بهدوء . أحست ديالا أن روحها تخرج مع كل جرعة يانسون تسقط في حلقها . وعلا بكاء الطفل أكثر وأكثر ، فأحضرت له أم وهدان ماءً وسكراً ، وصارت تسكب هذا الخليط في فمه بملعقة صغيرة . وبعد ساعتين تقريباً أخذت ديالا ترضعه بعد أن طلبت منها أم وهدان فعل ذلك . كان شعور ديالا غريباً ، شعرت أن هناك كائناً يمتص جزءاً من كيانها، كائناً خارجاً منها داخلاً فيها. وقد بدا شعور الأمومة صاعقاً ومتفجراً لدرجة مفاجئة حد الانبهار. واستسلم وليدها للنوم بعد أن امتص كمياتٍ كبيرة من لبن أمه كأنه خارج من كل مجاعات أفريقيا . قالت أم وهدان : _ اسمعي يا ديالا أنا مثل أختك الكبيرة ، ومن واجبي أن أنصحك . إن هذا الطفل من علاقة غير شرعية ، فتوبي واستغفري ، وباب التوبة مفتوح . وحاولي أن تخبري والد الطفل فربما يقبل بالزواج منك ، ويستر عليك . _ صدِّقيني يا أم وهدان أنني نادمة على هذه الحياة التي عشتها مثل الحيوانات ، وهذه هي النتيجة المؤلمة ، طفل يبحث عن أب قد يعترف به وقد لا يعترف . وقد عدتُ لصوابي ، ولكن هناك كارثة عظيمة على رأسي ، فوالد الطفل ليس مُسْلِماً ، وجواز المسلمة من غير المسلم لا يجوز ، ولا تعترف به المحاكم . _ اذهبي إليه وحاولي أن تهديَه للإسلام ، فربما يستجيب لك ويرق قلبه خصوصاً إذا رأى الطفل . وبعد أسبوع تقريباً اتصلت ديالا بهاني بعد محاولات فاشلة عديدة ، وقد اتصلت بالخمَّارة ، وللأسف فقد صارت الخمارة هي عنوان سكنه الدائم . استقبل والده المكالمة ، وذهب لمناداة ابنه الغارق في تلك الغرفة المضمحلة ، وأخبره بأن ديالا على الخط. لم يستطع هاني إخفاء امتعاضه واشمئزازه ، لكنه تحامل على نفسه وذهب إلى الهاتف متسائلاً في نفسه ما الذي ذكَّرها بي بعد هذه المدة ؟ . قال هاني بصوت أجش مباغِت ومثير للتوتر : _ ألو ، ماذا تريدين يا ديالا ؟ . تسلَّل صوتها الذابل عبر سماعة الهاتف كاحتضار قطة اختصرت كل مستقبلها السياسي في ماء للشرب ، وقالت بكل ذبول وانهيار : _ هاني ، كنتُ أود أن أقول لك إنني أنجبتُ ابناً من علاقتنا السابقة . انفجر ضاحكاً كأنه سمع كومة نكات دفعة واحدة، وقال باستخفاف مبالَغ فيه: _ أنجبتِ أم لم تنجبي ، ما شأني بالموضوع ؟ . أنت مجرد امرأة لعبتُ بها في فترة من الفترات ثم قرفتُ منها فرميتُها ، وانتهى الأمر . ابحثي عن غيري لتضحكي عليه يا حلوة . كانت ديالا تصارع رغبة أسطورية في البكاء والنحيب ، ولكن حياتها المتمردة انبعثت من رحم هزيمتها وانهيارها ، فقالت وقد تشنَّجت عظامها : _ اسمع يا هاني ، الحق عليَّ لأني سلمتُ نفسي لشخصٍ حقير مثلك ، ولكنك لن تلعب بي مرة ثانية ، وسوف أَرفع عليك دعوى في المحكمة ، وأطالب بإجراء فحص للحمض النووي لأثبت نسب الطفل . ارتبك هاني لما رأى المسألة قد أخذت هذا المنحى التصعيدي الخطير ، وقال محاولاً لملمة الموقف : _ لا تأخذي الموضوع بهذه الجدية يا ديالا ، فقد كنتُ أمزح معك . وعلى أية حال سأمر عليك بعد ساعتين لنحل هذا الموضوع بيننا . خرج هاني من الخمَّارة دون أن يتفوه بكلمة واحدة مع والده الذي كان يقدِّم الطلبات للزبائن ، وقد تعجَّب والده من هذا التصرف . أما هاني فكان يسير على غير هدى ، يفكِّر في هذا الأمر ، وكيف يمكن له أن يتهرَّب منه بدون خسائر ، أو بأقل خسائر ممكنة . ومشى هاني على رصيف الميناء وعيناه تعانقان كل رمال الشطآن الموحشة ، وغرق في التفكير واتخاذ قرار حيال هذا الموضوع المباغِت . وبعد مدة من التفكير توصل إلى فكرة شيطانية لم يعرف كيف خطرت على ذهنه ، فابتسم بشكل مخيف ينبئ عن مخيلته المرعبة ، وأفكاره الجهنمية . أجرى اتصالاً بالهاتف الخلوي مع أمين عام الحزب الذي ينتمي إليه ، واستمرت المكالمة ربع ساعة تقريباً . وبعدها ازداد ابتسام هاني بشكل رهيب ، وصار يضحك من كل قلبه ، والناس ينظرون إليه باستهجان وتعجب . وصل إلى بيت ديالا . قرع الجرس ففتحت له الباب ، ودعته للدخول . دخل بخطى وئيدة ، وجلس على أحد الكراسي . وبعد ذلك أحضرت ديالا الطفلَ ليراه . أمسك الطفل باشمئزاز خفي ، وراح يتفرَّس في ملامحه الطرية مستخدماً عينيه الخشبيتين . ولما رأت ديالا ذلك المشهد قالت : _ انظر يا هاني إنه يشبهك ، هذا هو ابنك ... لماذا لا تدخل في الإسلام ، ونعيش معاً في ظل هذه الأسرة ؟ . كان هاني يكره الإسلام ، لكن كرهه ممزوج بالتناقض ، فقد قال في إحدى مقالاته القديمة إن الإسلام هو الدِّين الوحيد الذي يُنَزِّه الخالقَ ، لكن الحزب الشيوعي هدَّد بإيقاف الصرف على دراسته الجامعية إذا لم يسحب هذا الكلام ، فاضطر إلى التراجع عنه . لكنه في هذا الموقف أراد أن يجاريَ ديالا ، فقال لها وكلامه يقطر كذباً وخبثاً : _ هذا ما كنتُ أُفكِّر به ، وسوف أدرس الموضوع لكي نكوِّن أسرة صالحة . تهلَّلت أساريرها لما سمعت هذا الكلام الذي أنعشها ، وأخرجها من حفر الاكتئاب بلمسة واحدة . وهي لم تتوقع أن يرد عليها بهذا الرد السريع الهادئ . وقد صدَّقت حيلته وأكاذيبه ، واقتنعت بها إلى درجة رافضة لأدنى شك . قال هاني بمكر ودهاء : _ سآخذ ابني معي لكي أُرِيه لأسرتي لكي يعلموا أن فرداً جديداً انضم إلى عائلتنا . فرحتْ بهذا النبأ ، لكنها قالت : _ سوف ألبس ثيابي وآتي معك . _ لا تتعبي نفسك ، فأنت خارجة من ولادة صعبة . سوف أُريه لأسرتي ثم أُحْضِره إليك فوراً . _ ولكنه بحاجة إلى رضاعة ، وسوف يظل يبكي إن لم أُرضعه . _ جهِّزي له حليباً صناعياً ، وضعيه في عبوة بلاستيكية ، ولن يبكيَ . كما أن الأمر لن يستمر أكثر من ساعة ، وهذا لن يؤثِّر على صحته . _ إذاً ، اذهب واشترِ عبوة بلاستيكية بينما سأجهِّز الحليب . وبالفعل تم الأمر كما هو مخطَّط له ، فقد اقتنعت ديالا بهذه الفكرة ، فهي لا تريد رفض الموضوع خوفاً من فقدان هذا الرَّجل الذي تعتقد أنه صار أهلاً للثقة . وغادر هاني المنزل حاملاً الطفل الذي بدا صامتاً بعد أن أخذ يمص الحليب مصاً أنساه كل الدنيا التي حوله . ركب هاني سيارة التاكسي ، ونزل مقابل فيلا الدكتور عبد السلام الدومي . قرع الجرس ، ففتح له الدكتورُ الباب بنفسه على الرغم من وجود خادمين في الفيلا . لكن الدكتور فتح له الباب لعلمه بأن القادم هو هاني ، إذ إنهما نسَّقا هذا الموعد على الهاتف في آخر مكالمة أجرياها . صعد الرَّجلان إلى الطابق العلوي بخفة اللصوص وهدوء رجال المخابرات . ودخلا إلى المكتب . وأغلق الدكتور الباب بالمفتاح . وبعد أن جلسا قال الدكتور وقد أشار إلى الطفل : _ أهذا هو طفلك ؟ . قال هاني وقد أظهر وجه الطفل بصورة تُبرِز ملامحه : _ نعم يا دكتور . _ أنتَ تعلم يا هاني أنني وزوجتي لا نُنجِب ، وكما اتَّفقتُ معك على الهاتف ، أنا مستعد أن أشتريَ هذا الطفل منك بالسعر الذي تريده ، وثق بأن أحداً لن يعلم بالموضوع ... كم السعر الذي تريده ؟ . _ ادفع أي مبلغ تريده يا دكتور ، لن نختلف على هذا الأمر . _ سأدفع لك عشرة آلاف دولار أمريكي ، هل هذا مناسب ؟ . ابتسم هاني ابتسامة الرضى ، حيث إنه لم يتوقع حصوله على مثل هذا المبلغ ، فقال وهو يهز رأسه موافقاً بحماس : _ أنا موافق يا دكتور . وأخرج الدكتور دفتر الشيكات ، وكتب شيكاً بالقيمة المطلوبة ، بينما كان هاني يبلع ريقه ، كأن يستعد لالتهام هذا الشيك . ثم أخذ الشيك ، ووضعه في جيبه بحرص مبالغ فيه ، وقال بعد أن ازدادت عيناه جحوظاً : _ ولكن يا دكتور أخشى أن تُفْضَح العملية ، ونضيع أنا وأنتَ . انفجر الدكتور ضاحكاً بصوت مجلجل ، ثم قال : _ اطمئن فلن يكشف الأمرَ أحدٌ ، فزوجتي في ألمانيا تجري عملية جراحية ، وسنسجِّل الطفل باسمنا ، وكأنها قد أنجبته في الخارج ، وبالطبع فالأمر يتم بالتنسيق مع أصدقائي المتنفِّذين في الدولة . فدولتنا فاسدة حتى النخاع ، وهذا أكثر شيء يفيدنا في هذه المرحلة . انبعثت في أوصال هاني طمأنينة لا نهائية ، ثم سلَّم الطفل للدكتور ، وألقى التحية مغادراً دون أن يشرب شيئاً . كان يمشي في الطريق شاعراً بأنه على وشك الطيران . يتحسس الشيك بكل نشوة وعنفوان ، لكنه أدرك أن البنوك مغلقة في هذا الوقت ، وأن عليه الانتظار إلى الغد لكي يصرفه . لم يشكِّل هذا الأمر أي مشكلة بالنسبة إليه ، فالأيام كلها تتشابه عند هاني . كل أيامه متواليات اكتئاب وخمر ومخدَّرات ، لذا فهو أصلاً لم يكن يشعر بأي معنى لدوران الأيام ، وحركة النهار والليل . طالت غيبة هاني أكثر من ثلاث ساعات ، وبدأ الشك يتسلل إلى نفسية ديالا التي راحت تغرق أكثر فأكثر في الاضطراب. اتَّصلت بالخمارة فلم يجب أحد . ومن المحال أن تُغلَق الخمارة في مثل هذا الوقت . اتصلت بالهاتف الخلوي لهاني فوجدته مغلقاً . صارت تفقد أعصابها شيئاً فشيئاً . هل عليها أن تذهب بنفسها إلى الخمَّارة أو إلى مكان سكنه ؟. لم تعرف إجابة عن هذا السؤال . أخذت تذرع المكان عرضاً وطولاً ، في محاولة منها لنشر الهدوء في أوصالها . ثم ذهبت إلى غرفة نومها ، وارتدت ملابسها، وخرجت على غير هدى، كأن دمها عقيدة الأرصفة ، ووجهها المضمحل دستور لكل محاولات الانتحار التي لا تفضي إلا لمزيد من الانتحار بلا طائل . وصلت الخمارة فرأتها مفتوحة . دخلتْ فإذا بالعجوز الأرمني يُرَتِّب زجاجات الخمر. ألقت عليه التحية فرد عليها متسائلاً عن سبب غيابها كل هذه المدة الطويلة. وفي الحقيقة لم تكن تملك ذهناً نقياً لكي تدخل في محادثة من أي نوع، لذا سألت عن هاني بدون فواصل من الكلام، فأرشدها العجوز إلى مكان هاني المعتاد ، وهو تلك الغرفة المنحوسة اللعينة . دخلت عليه بلا استئذان ، وقد كان يلعب بأصابع قدميه البارزة نتيجة جواربه الممزَّقة . قالت له ديالا وهي تجيل بصرها في المكان لعلها تلمح أي أثر لطفلها : _ أين الطفل ؟ . رد هاني باستهزاء كأنه لا يعرف شيئاً عن الموضوع : _ أي طفل ؟ . جحظت عينا ديالا بكل معنى التوحش، وهجمت على هاني ، وأحكمت يديها حول عنقه ، وهي تصرخ : _ أين ذهبتَ بالطفل أيها الوغد ؟ . خلَّص هاني نفسه من يديها ، ثم قال باستخفاف متعمد : _ أنا لا أعرف عماذا تتحدثين ، كما أنني لا أعرف من أنتِ . جُنَّ جنون ديالا ، وهجمت عليه بأسنانها وأظافرها كالقطة التي توحَّشت نتيجة فقدانها لابنها. وبالأظافر الحادة في يديها خمشت جزءاً كبير من خدوده، وهو يصيح محاولاً إبعادها عنه بكل طاقته ، وأخيراً نجح في إسقاطها أرضاً . وبسبب الصراخ المتعالي أتى هاكوب مسرعاً ، فلما رأى مشهد خدود ابنه وهي تقطر دماً ، ومشهد ديالا وهي ساقطة على الأرض تنتحب ، أُصيب بالخوف والدهشة وعدم الفهم ، وقال متسائلاً : _ ما الذي حصل ؟ . قال هاني وهو يمسح دمه بمناديل ورقية أخرجها من جيبه : _ هذه المرأة المتوحشة التافهة تزعم أن لها ابناً ، وأنني أخذتُه منها . التفت الخمَّار هاكوب إلى ديالا، وأشفق عليها ظناً منه أنها فقدت قواها العقلية، إذ إنه لا يعرف شيئاً عن الموضوع ، ولم ير طفلاً مع هاني مطلقاً ، ثم قال : _ اسمعي يا ديالا ، لكل شيء حدود ، ومسألة الطفل غير معقولة ، فلا داعي أن تتخيلي أحلاماً ، وتعيشي في الأوهام . كما أن هذه الخمَّارة مكان محترم يرتاده بشر محترمون !، ونحن لا ينقصنا جنون وفضائح وصراخ، فرجاءً غادري هذا المكان ولا تعودي إليه ، وأنصحك أن تراجعي طبيباً نفسياً ، فربما كان لديه دواء لحالتك . شعرت ديالا بحاجتها لمغادرة هذا المكان ، فالأمر لن يأتيَ بنتيجة مطلقاً ، إذ إنه لا يوجد أي إثبات على أن هاني قد أخذ الطفل . وكل جهودها بلا معنى ، وبلا نتيجة . حَمَلَت نفسها ، وغادرت المكان دون أن تنبس ببنت شفة ، فلو استمرت في كلامها فسوف يتجمع عليها كل الناس ، وتصبح فضيحتها في كل الآفاق ، لذا كان خروجها صامتاً إلى درجة الجنون الأخرس . وفي الطريق بدأت عيناها تنهمران دموعاً وألماً كأنه وخز دبابيس لا نهائية . ومضت إلى الشاطئ، إلى تلك البقعة التي فرَّطت فيها ببكارتها ، وحصل ما حصل . لقد مضى وقت طويل على تلك الحادثة المؤلمة . جلست وأعضاؤها ترتجف مثل مزارع الباركنسون والسيانيد واليود البحري. وقد كان صوت بكائها عالياً جداً لدرجة هستيرية . فكَّرت أن تملأ جيوبها بالحجارة وتلقيَ نفسها في البحر لكل تصير طعاماً للأسماك ، ولكيلا يعرف قبرَها أحدٌ سوى رمال البحر والشعاب المرجانية . لكنها أعرضت عن فكرة الانتحار بعد أن أقنعت نفسها بأنها إذا خسرت الدنيا، فلا داعي أن تخسر الآخرة أيضاً . واختارت النحيب كطريق وحيدة تعبِّر من خلالها عن ألمها وحزنها وضياعها ، ففي قمة الحزن الصاعق يبدأ الحزنُ يغيب تدريجياً ، وفي ذروة تدفق ملح الدموع ، ينتهي الملحُ نهائياً ، ويصبح الحزن وهمياً بلا جدوى ، حيث يصير إجراء روتينياً. وبينما هي تغطس في فوهة بركان الدمع المحترِق ، لمحت شخصاً يمشي على الشاطئ . وبالطبع كان ذلك الشخص أسعد ، حيث اقترب منها شيئاً فشيئاً . ولم تشعر ديالا بأية رهبة أو خوف من هذا القادم من طوايا المجهول، فملابسه الرثة الممزَّقة ، وملامحه الوادعة البسيطة ، وجسمه المنكمش على ذاتية حلمه المسحوق . كل هذه المظاهر ساهمت في جعل ديالا تشفق عليه . قال أسعد وجبهته تغرق في كل مستنقعات الأكسجين الغائب : _ لا تبكي يا أختي لأن البحر لا يحب النساء الباكيات . كلنا سنعود إلى البحر يوماً ما . علينا أن ندَّخر دموعنا ليوم آخر ، حيث تموت الفراشات ، ونحصل على نصيبنا من الألم والحزن وذكريات البنات اللواتي باعهن أهلهن لمن دفع أكثر . تعجَّبت ديالا من هذا الكلام الصادر عن شخص يوحي منظره بأنه عديم القيمة، فقالت بكل تعجب : _ من أنتَ يا أسعد ؟ . _ أنا صوتُ منادٍ في البرية ، أعدوا طريق الرَّب ، واجعلوا سبله مستقيمة . لستُ شاعراً لأن الشعراء قتلوا قطتي، أنا مجرد شبح ، رقمُ شبحٍ ضمن أرقام أشباح هذا الميناء الذي سيبلعه الطوفان لا محالة . ألغيتُ النظريةَ النسبية لأن طاقة ضريحي هي النظرية النسبية. يا وطني المقبرة. اقتلني وانْهِ لعبة المطارَدة. لا أخضع لشروطك، ولا تخضع لشروطي . نحن قتيلان لأن اللصوص سرقوا الحياة من وجهينا . إن الطوفان قادم ، لا بد أن يأتيَ . وأردف قائلاً : _ أنا العالَم الأول ، وأنتِ العالَم الثاني، وباقي العالم هو العالم الثالث . أنا رجل غبي ، والأغبى مني هي المرأة التي تحبني، فأنا شخصياً لا أحب نفسي . كل الأشباح صدى ، ولن أتزوج الصدى خوفاً من أن يكشف تفاصيل احتضاري ، سأظل لغزاً عصياً على مخيلة القمح . لكنني الحاكم والمحكمة والمحاكمة والحُكْم . ومضى إلى حيث اللابداية واللانهاية ، بعد أن ترك في ذهنية ديالا تعجباً صادماً، فلم تعد تفكِّر في مصيبتها ، بل صارت تفكِّر في هذا الكلام الذي صدر من شخص جاءها فجأة . من أين أتى ؟ . هي لا تعرف . أين سيمضي ؟ . إنها لا تعرف . ألقى هذه الكلمات ، وانطلق بكل هدوء . إنه يمشي حافياً على الرمال . إنها تغرق في مساحات التداعي اللاواعي . سرَّحت نظرها من ذكريات الموج الذي كان يجلد الشاطئَ بقسوة، وراحت تراقب خطوات ذلك الرَّجل أسعد ، وهو يبتعد أكثر فأكثر حتى غاب، ودخل في كل أحزان الضباب الجاثم على القلوب الكسيرة . ثم استسلمت لجرعة جديدة من البكاء اللاسع . لم يغادر ذاكرتها صورةُ وليدها ، إلا أن الصدمة الشاملة جعلت منها كياناً أخرس ، فمن شدة هذا الإعصار الذي ضرب كيانها ، لم تقدر إلا على الصمت العميق ، لأن الديناصورات كانت تقضم كبدها بكل بساطة . ولا يوجد أُم تستطيع نسيان طفلها بهذه السهولة ، لكن ديالا غرقت في قاع الجنون والهستيريا الصامتة ، فلم تعد تعرف ما وظيفة لسانها أو ذاكرتها ، فالأمور تحاصرها من كل الجهات . وما سكوتها إلا غصن في شجرة الانطفاء الشامل . لقد تقمصتْ برودةَ أجساد الموتى في الثلاجات بكل حرفية . إن شيئاً خرج منها وضاع بكل سهولة . وجَّهت سمعها باتجاه بوصلة عقلها المشوَّش ، وأدركت أنها لو طالبت بطفلها فربما تخسر نفسها بالإضافة إلى طفلها ، وتكون المصيبة مصيبتين . لن يستمع إليها أحدٌ في هذا المكان لأنها لا تملك أي وثيقة تُثبِت بها حقها ، إنها وحيدة في فوهة الوحدة المتوحشة ، ولن ينقذها أي مخلوق في هذا الوطن القاسي ، ولن تنفعها ملامح الوجوه القاسية المحيطة بها من كل الجوانب .