أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الحادي عشر )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
وفي أعماق المساء السحيقة قرب الهدوء المخيف ، كان بلال غاطساً في أمواج النوم ومنقوعاً في وديان السبات . إنه يحتل مساحة السرير هو وسلاحه ، فطريقة نومه العبثية مستولية على مساحة السرير . دخلت زوجته الغرفة منهكة بعد يوم شاق على جميع المستويات استنزفها حتى الرمق الأخير . فتحتْ خزانةَ ملابسها ، وتجولَّت ببصرها على ثيابها . أمسكت قميص نومها الأحمر الشفاف الذي اشترته قبل الحرب بعد أن اقترضت ثمنه من إحدى صديقاتها. أرادت أن تتزين لزوجها الغاطس في عالَم آخر ، ولكن الفرحة لم تكتمل . فما إن اشترته لتنال رضا زوجها حتى نشبت الحرب وذهب زوجها إلى الجبهة . وظلت متمسكة بالأمل ، بأنه سيعود يوماً ما وتلبسه أمامه. وها قد عاد لكنه غطس في وادي النوم، فلا فائدة من ارتدائه في هذا الوقت . أعادته إلى الخزانة وقد حاصرها شعور الجنود المهزومين . لقد هُزِمت مرة ثانية ، وأخفقت في إنجاز مشروعها . اختارت ملابس قديمة للنوم موجودة لديها منذ زواجها . ذهبت لتنام على السرير لكنها لم تجد لها مكاناً، فزوجها النائم تنتشر أعضاؤه في كل مكان . قررت أن تنام على الأرض بعد أن حاصرتها المتاعب من كل الجهات . وبالطبع فهي ليست في يومها ، ومن لم يكن في يومه فلا بد أن يعانيَ . بسطت الفِراشَ على الأرض ، ووضعت وسادة خشنة بعض الشيء لأنها لم تجد غيرها ، وأحضرت لِحَافاً خفيفاً ، وغطست هي الأخرى في السبات العميق الحاسم ، في حين أن ابنتها كانت تنام في غرفة عمتها .
توغل بلال في كابوس فظيع ، فقد رأى في منامه كأنه في أرض المعركة ، والطائرات تقصف كل ما تراه . أصوات المدافع والرصاص في كل مكان . رائحة البارود تنبعث من نخاع العظم ، من قلب التراب . إنه مُحاصَر في عزلة العجاج . الجميع ضد الجميع، والكل يطلق النار على الكل. جثث الجنود ملقاة على الأرض، ويتم تفتيش القتلى ، ويؤخذ منهم كل شيء ذي قيمة ، فالجنود يتم تجريدهم من ساعات اليد ، ومن ملابسهم وأسلحتهم ، وبساطيرهم ، ولا يُترَكون إلا بملابسهم الداخلية .
تفجر العَرَق من جبينه كأن بئر عَرَق تم اكتشافه في رأسه ، وسال على خدوده كاللهب . بدأ العرق يتساقط على الوسادة. إن المعركة حمي وطيسها كأنها موضوعة في مقلاة على نار الخنادق والأخاديد .
خرج من دائرة المنام ودخل في هستيريا الواقع. امتدت يده إلى الرَّشاش النائم في حضنه . أحكم سطوته على الزناد ، وصعد من نومه كالمجنون ، وبدأ يطلق النار حقيقةً لا مناماً على الحائط المقابل له . إن الرصاص المتلاحق نخر الحائط بصورة عنيفة ، والصوت العالي المتدفق كالطوفان جعل أهل العمارة يستيقظون فزعين ذاهلين عن أنفسهم . والذي تلقى الصدمة الكبرى زوجته النائمة في نفس الغرفة فقد استيقظت وشَعْرها منفوش كنخاع الهذيان الحتمي ، ووجهها دخل في كومة ألوان ، فقد كان أسود مخلوطاً بالصفرة ، كأن الأنين يتفجر من خدودها . أما القشعريرة فسيطرت عليها ، بحيث لم تستطع الوقوف ، وتسمرت في فراشها ، والرجفة ابتلعتها حتى الثمالة . لم تكن تعرف ماذا حصل ، ظنَّت للوهلة الأولى أن الحرب قد عادت ، وأن هذا صوت القصف مثلما كان أيام الحرب الماضية . ألقت نظراتها في تفاصيل المكان ، فلمحت زوجها على السرير يمسك الرَّشاش . الرشاش يلمع في هذا المدى المفتوح على الضياع ، والمضاء بلون اللمبة الصغيرة . لأول مرة تخاف من زوجها وترتعب من قسمات وجهه المنزوية خلف لمعة الرَّشاش الغريبة . رأته وحشاً مُفزِعاً لدرجة أنها خافت أن تذهب إليه ، أو أن تقوم من فراشها ، ولم تملك في تلك الساعة الرهيبة إلا أن تستسلم لفيضانات النحيب الذي صوته كأنه أزيز الرَّصاص . إنها تبكي وتبكي ، وزوجها ذاهلٌ عنها كأنه في عالَم آخر ، يحدِّق في آثار الرصاص على الحائط . وفي زحمة العدم وازدحام الفراغ بالأضداد أخذ أهل الدار يقرعون الباب بشدة ، العجوز خضر وابنته فاطمة والصغيرة خولة ، كلهم يقرعون الباب في آن واحد بشكل مُرعِب ، وفاطمة تصرخ وتبكي :
_ افتحوا يا جماعة ، افتحوا . ماذا حدث ؟ .
كان الوجوم في داخل الغرفة يسيطر على كل شيء ، والصراخ في خارجها يسيطر على كل شيء . مسح بلال العرق عن جبينه لكنه كان منقوعاً في العرق ، فثيابه مبتلة كأنها مغسولة للتو ، وجسمه ينتفض كالنورس المربوط على سكة حديد مزدحمة .
نهضت زوجته وهي تتلفت حولها خائفة من كل شيء . في ساعة النحس هذه كل شيء ضد كل شيء . أسرعت إلى القبض على مفتاح الباب المزروع في جسد الباب . يده ترتعش كأن أصابعها مزرعة باركنسون وغابات قشعريرة . أدارت المفتاح ، والخوف يمتص لمعان أظافرها. لحظة فتحها للباب كانت من أصعب لحظات حياتها على الإطلاق، هكذا يتحول المفتاح إلى المنقِذ. وأخيراً استطاعت فتح الباب.
وما إن فُتِح الباب حتى ألقت بنفسها في أحضان فاطمة، وحضنتْ ابنتها التي كانت تحدِّق في وجوه أهلها كأنها غريبة سقطت في منفى وحيد ، أو سجينة هبطت في زنزانة انفرادية . لم تكن البنت تفهم ما الذي يجري ، ولم تتقن في تلك الساعة غير البكاء .
دخل العجوز خضر إلى الغرفة ، وأشعل النور ، فرأى ابنه متسمِّراً على السرير حاضناً رشاشه في حالة يرثى لها ، فلون وجه بلال في تلك اللحظة كلون وجه حفار قبور مخصَّصة للجن،ولمعانُ عيونه كالومض في عيون ذئب يطلع من ضباب الذاكرة.
اقترب العجوز من ابنه ، وصار يمسح العرق عن جبينه ، وقال :
_ بسم الله الرحمن الرحيم. اسم الله عليك يا ابني . ماذا حدث معك يا بلال؟.
أدرك بلال أن ما رآه كان كابوساً لا حقيقة له على أرض الواقع، وأدرك حجم الكارثة التي اقترفها بعد أن رآى آثار الرصاص على الحائط . وفي لحظة أدق من سيف الحلم انفجر بلال باكياً ، وارتمى في أحضان أبيه كالطفل الذي عاد من جنازة أمه ، ولم يجد حضناً دافئاً غير حضن أبيه . وفي زحمة الدموع وتكاثر الشهيق الحارق بدأ العجوز يبكي هو الآخر . إنه مشهد رهيب بالغ الصعوبة ، وبعد أن رُسِم على أرض الواقع دخلت فاطمة وفايزة والصغيرة خولة في البكاء متأثِّرات بالمشهد . لقد تحول المنزل إلى غابة دموع في لحظة واحدة ، غابة تمحو كل تواريخ الحلم ، لكنها غير قادرة على محو آثار الرصاص المغروسة في رئة الحائط كالضياع .
قال العجوز خضر لابنته فاطمة :
_ أحضري كوب ماء لأخيك بسرعة .
ركضت فاطمة باتجاه المطبخ كالهاربة من وحوش غابات الحلم ، وأحضرت كوب ماء . وكلما اقتربت من رؤية وجه أخيها ازداد خوفها وتسارع دقات قلبها المضمحل . أمسك العجوز خضر كوب الماء ، وقرَّبه من فم ابنه الذي راح يلتهم الماء التهاماً كأنه قضى حياته في الصحاري، ولم ير ماءً قبل هذه اللحظة . شرب الماء كله حتى آخر قطرة ، فقال له أبوه :
_ قل الحمد لله يا بلال .
قال بلال وقد أسند رأسه إلى الوسادة بعد أن ثبَّتها على رأس السرير الخشبية :
_ الحمد لله رب العالمين .
فقد كان في زحمة هدأة جسده المرتعش ناسياً موقعَ فمه،وشبه غائب عن الوعي.
قال له أبوه :
_ ماذا حصل يا بلال ؟ .
أطرق بلال برهة كأنه ينتشل ذكرياته من قعر بئر مفتوحة من الجهتين ، وبدأ يسرد المنام الذي رآه بالتفصيل ، وكيف أنه تفاعل مع الأحداث بصورة عفوية . أخذ أبوه يُهَوِّن عليه ، وقال مخاطباً نساء الدار :
_ اذهبن للنوم في غرفة فاطمة ، وأنا سأنام مع بلال هذه الليلة .
ولم تكد المرأتان والطفلة يذهبن إلى النوم حتى قُرِع جرس الباب قرعاً متواصلاً، فقال الأب :
_ اذهبن إلى النوم ، وأنا سأفتح الباب .
كان زياد هو القادم من طوايا العتمة ، وهو في حالة مزرية ، أشعث الرأس ، حافي القدمين ، ثيابه مبتلة . وكان قد سمع إطلاق النار المتواصل فظن أن الحرب اندلعت من جديد ، وقرَّر الاطمئنان على أهله ، إلا أن ثيابه كانت على حبل الغسيل مبتلة . وهذا ما جعله يتأخر بعض الشيء .
قال الأب :
_ أغلق الباب ، وتعال إلى غرفة أخيك ، سوف ننام عنده هذه الليلة .
أدرك زياد أن خطباً كارثياً قد حصل، وما إن دخل زياد الغرفة حتى هجم على أخيه معانِقاً إياه ليطمئن على صحته ، وبعد العِناق اللازوردي فهم القصة كاملةً ، فأخذ يواسي أخاه ويخفف عنه . وأخبرهما بأنه سيذهب لإغلاق باب غرفته على السطح وسيأتي إليهما فوراً . وبالفعل ذهب وأخبر الشيخ الذي كان قلقاً على غيابه بأنه سينام هذه المرة في بيت أهله ، فلا مبرر للقلق .
كانت مريانا قد سمعت إطلاق النار يرن في أذنيها فقامت من نومها فزعة ، وقد ظنت أن الحرب قد عادت ، أما زوجها فظل مستغرقاً في النوم السحيق فلم يسمع شيئاً . أخذت مريانا توقظه قائلة :
_ يعقوب ، استيقظ يا يعقوب . استيقظ، يبدو أن الحرب قد عادت. استيقظ يا رجل .
فتح يعقوب إحدى عينيه اللتين غلَّفهما القذى وهو في حالة نصف نائم ونصف مستيقظ ، وقال :
_ ماذا حصل ؟ .
_ سمعتُ إطلاق نار ، يبدو أن الحرب قد عادت .
_ عادت أم لم تعد ، ما شأني أنا ؟ . غداً سنموت ونرتاح من هذه الحياة ، والآن أريد أن أنام .
تضايقت لما سمعتْ هذا الكلام ، وما زاد حنقها عودة زوجها إلى النوم بكل بساطة، وكأن موضوع الحرب صار روتينياً من فرط ما مرت به البلاد من حروب. قامت من نومها لتطمئن على ابنتها ، وارتدت شيئاً تستر به جسمها .
كانت راحيل قد سمعت صوت الرصاص فاستيقظت فزعة والخوف يشنقها في ميدان فارغ غارق في أعماق الوحدة والوحشة . إنها وحيدة في ضوضاء العمى ، ومنزوية في أعماق الانطفاء الشامل . إنها لا ترى شيئاً ببصرها ، وبصيرتُها كومة قش على مسلات الأعاصير . اقتحمت عزلة عينيها المطفأتين في زحمة هذا الضجيج الأعمى .
فتحت مريانا الباب دون أن تطرقه ، وقالت :
_ راحيل ، هل أنت مستيقظة ؟ .
جاء صوت ركيك من أعماق الرمال المنبوذة اختزله ضبابُ الروح المرتعش :
_ نعم .
وأردفت قائلة :
_ هل اندلعت الحرب ؟ .
هرعت الأم نحو ابنتها ، وحضنتها فشعرت بالرجفة تسري في جسد ابنتها ، فقالت :
_ لا تقلقي يا راحيل ، فهذا صوت عابر جاء من هنا أو هناك. والحرب ذهبت ولن تعود .
ونامت الأم في تلك الليلة في غرفة ابنتها بعد أن امتصتا جرعةً كبيرة من الطمأنينة بسبب غياب صوت الرصاص نهائياً ، وعودة الهدوء العارم إلى رئة هذا الليل . وأدركتا أن صوت الرصاص كان حادثاً عابراً بسبب سرعة غيابه عن جسد الليل ، واختفائه في هذا الظلام العميق . فلو كانت هناك حرب لاستمرت أصوات الأسلحة بصورة أطول بكثير مما حصل .