أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل العشرون )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
في ظهيرة أحد الأيام كان زياد نائماً بعد أن أنهكه التعب. إنه يتشرب النوم مثل الإسفنج . لم يكن منامه سوى ظل نوارس قديمة تكتب اعترافات البحر على ورق البردي . تشظى منامه كما لو كان برميل نفط تتخبط فيه دلافين لا تاريخ لها سوى جثث مجهولة الهوية منسية تحت المطر .
لقد رأى في منامه سوزان اللويمي في البكيني تُدَخِّن الماريجوانا قرب بركة السباحة في أحد فنادق الخمس نجوم . لقد رأى المشهد كأنه بث حي ومباشر ، مترافِقاً مع نداء عميق وخفي قادماً من كل الجهات : (( لقد أَنْقَذَتْكَ هذه المرأة ، فاذهب وانقذها فوراً )) .
هبَّ من نومه مذعوراً ، وهو يتلفَّت حوله . ارتدى ثيابه بأسرع كبيرة ، وخرج من بيته دون أن يخبر أحداً عن وجهته . استقل سيارة تاكسي وطلب من السائق أن يوصله للفندق الذي رآه بالمنام .
كان زياد يعرف تلك الشابة ، فهي رئيسة مجلس الطلبة السابق الذي كان عضواً فيه رغم كل التزوير ومحاولات إقصائه . ويعرف كذلك أن والدها هو مدير المخابرات . شعر أن عليه إنقاذها . شيء يناديه من أقاصي أعماقه وأقاصي منامه يطلب منه ذلك بإلحاح ، لكنه لم يجد تفسيراً لعبارة " لقد أَنْقَذَتْكَ هذه المرأة " .
هل يمكن أن يكون ما رآه أضغاث أحلام ؟ . لقد فكَّر زياد بهذا الخاطر، ولكن سرعان ما طرده، لأنه كان يُلَبِّي نداء غريزياً في نخاع عظمه لم يجد تفسيراً منطقياً له.
دخل زياد إلى المسبح بعد أن دفع مبلغاً من المال . لقد أصبح الآن في فوهة اللهب المائي . حوله العراةُ من كل الأديان والأجناس . والكل ينظر إليه باستغراب بالغ لأنه لم يكن بملابس السباحة . إنه الوحيد الذي يرتدي ثياباً رسمية في هذا المكان. توجَّه إلى المكان الذي رآه في المنام ، فوجد سوزان جالسةً وهي شبه عارية لا يغطي جسدها سوى قطعتين ، وحولها أصدقاؤها وصديقاتها ، وقد كانت تُدَخِّن الماريجوانا . وما إن رأت زياد حتى ارتبكت ، ورمت المخدِّر في البركة بصورة ميكانيكية شبه تلقائية . بدا المشهد محتوياً على تلميذة خائفة من أستاذها المهيب . هذه هي خلاصة اللقاء العاصف الذي لم تتوقعه .
اقترب زياد منها ، وقال :
_ آنسة سوزان ، ارتدي ملابسك رجاءً ، لكي نخرج من هذا المكان الذي لا يناسبك .
وقفت سوزان منصاعة للأوامر بشكل غريب . فمن هذا الشخص الذي يلقي عليها الأوامر على الملأ وتستجيب له كأنها تخاف من العقاب ؟ . هذه اللبؤة الجامحة هل جرى ترويضها ببضع كلمات ؟ بهذه السهولة ؟ .
قال أصدقاؤها وقد انبهروا بأناقة هذا الشاب المنتصِب بكل ثقة وجدية :
_ من هذا الشاب يا سوزي ؟ .
لم تعرف سوزان ماذا تجيب في تلك اللحظات الحرجة ، لكن ذهنها أسعفها بكلام وهمي ، فقالت :
_ إنه ابن عمي ، ونحن في حكم المخطوبَيْن .
ومضت سوزان لتغيِّر ملابسها ، وظل زياد ينتظرها في الخارج . وبعد أن ذهبا قالت إحدى صديقاتها بحسد ممزوج بالطيبة :
_ إن سوزان لا تقع إلا واقفة ، وهي تعرف كيف تصطاد الرَّجل المناسب في الوقت المناسب .
خرج الاثنان من الفندق ، وقد لاحظ زياد أن سوزان في حالة غير طبيعية ، فتيقَّن من أنها كانت تتعاطى المخدرات ، خصوصاً بعد أن لاحظ ما رمته في البركة ، وأيضاً الآثار الظاهرة على وجهها وطريقة كلامها تدل على أنها كانت تتعاطى. وقد سبق لزياد أن أنقذ أحد أصدقائه من الإدمان ، فهو يعرف أعراض التعاطي بشكل مُجْمَل .
كان سائقها الخاص ينتظرها في سيارة المرسيدس ، وقد كان يمسك زجاجة ويسكي أحضرها من الفندق مجاناً بعد أن أخبرهم بأنه يعمل عند مدير المخابرات ، وأراهم هويته . إنه في حالة يُرْثَى لها ، فالسُّكْر أذهب عقله ، وجعله غير شاعر بما حوله .
ولما رأى زياد المشهد أنزله من السيارة ، وقال لسوزان :
_ هل تريدين هذا السكير أن يوصلك إلى البيت ، إنه سيوصلك إلى الموت .
أخذ السائق يترنح في الطريق ، وهو يشتم زياداً وسوزان معاً ، وعلى الرغم من محاولته التهجم على زياد إلا أن زياداً رد الاعتداء ، ووكَّل به أحد موظفي الاستقبال في الفندق لإيقاظه،بعد أن ناوله زياد خمسة دولارات بدل التعب في إيقاظ هذا السكير .
قاد زياد السيارة بنفسه وإلى جانبه سوزان التي خُيِّل إليها أنها في يوم زفافها ، أو أنها في حلم غريب يمر حاملاً على ظهره كل التناقضات . وبالطبع فهي غير مصدقة ما يحدث. تجري الأحداث بسرعة أكبر من قدرتها على التقاط موقف محدد، وبعد أن تنفست بعمق قالت :
_ من أنتَ حتى تفعل هذا ؟! ، من تظن نفسك ؟ ، لستَ زوجي ولا أبي .
_ أنا أقرب إليك من زوجك وأبيك .
وقعت صدمة الجواب على عيونها كصخرة سفلية ظهرت على السطح بفعل زلزال قديم مر على هذه الأرض . ذُهِلت من ثقل الجواب الذي خلع قلبها من بين ضلوعها ، وقد أحس زياد بأنه تسرع جداً في جوابه ، وارتكب إثماً قد يُكَلِّفه غالياً، فهو لم يفكر في تلك العبارة التي جاءت كرد فعل عاجل بلا تخطيط مسبق ، ولقد ندم على تلك العبارة أشد الندم ، واستغفر ربه في قرارة نفسه لأنه اعتقد أنه تجاوز حدوده بصورة كارثية. أما سوزان فظلت تردد هذه العبارة في نفسها كأنها تريد أن تمتصها حتى الرمق الأخير . تلك العبارة كانت أكبر مداعبة لأنوثتها منذ وُلِدَت . لقد فتحت أمامها نافذةً من حضور الذاكرة في ظل هذا الهوس الذي تحياه كالموتى .
وتابع زياد كلامه قائلاً :
_ آنسة سوزان هل أنتِ مدمنة على المخدَّرات ؟ ، أرجوك لا تكذبي عليَّ .
كانت إجابة سوزان ستأخذ طابع الكذب ، إلا أنها تراجعت في اللحظات الأخيرة ، وقالت بكل صدق :
_ لستُ مدمنةً ، فأنا مسيطرة على نفسي ، ولا أتعاطى غير الماريجوانا بصورة مخفَّفة ، لأنها ببساطة المتوفرة بين يديَّ ، وأبي هو الذي يحتكرها في هذه البلاد ، ورغم أنها ممنوعة ويُعاقِب عليها القانون ، إلا أن أبي فوق القانون يلعب به كيفما يشاء ، ويصوغه بشكل يضمن مصالحه الشخصية هو وشركاؤه الحيتان من كبار رجال الدولة . وقد نصحتُه كثيراً ، ولكن هذه التجارة صارت تمشي في دمه .
قال زياد بصوت دافئ كأنه يخاطب ذاته الأخرى :
_ بالله عليك يا سوزان أن تبتعدي عن الماريجوانا ، وكل أنواع المخدَّرات من الآن فصاعداً .
هزَّت رأسها كناية عن موافقتها على هذا الكلام دون أن تنبس ببنت شفة .
تذكرت سوزان ذلك القرب من الله عندما صلَّت الفجر في تلك الليلة العجيبة التي رأت فيها زياداً في المنام . ارتبطت في ذهنها علاقة ما بين صلاة الفجر وزياد ، مع أنها لم تقدر على اكتشاف تلك العلاقة . وفي خضم هذه الانبعاثات الضوئية في ذهنها قالت بصورة صاعقة ومباغِتة :
_ أستاذ زياد ، أنا أعرف أنك من الإخوان المسلمين ولديك علم بالأمور الشرعية ، وأعرف أنك الذي تقود المظاهرات في الجامعة ، وتلقي الخطابات النارية بكل فصاحة . فهل تستطيع أن تُدَرِّسنا أمور الدِّين أنا وقريباتي في منزلنا ؟ ، فنحن مُسْلِمات بالاسم فقط .
تفاجأ زياد بهذا السؤال المباغِت ، واستمر في قيادة السيارة بدون أن يتكلم ، وبعد ثلاث دقائق من الصمت قال :
_ أنا مستعد لذلك ، اكتبي لي رقم هاتفك ، وسأتصل بك لنحدد المواعيد بالضبط .
كانت الدقائق الثلاث ملأى بالمخزون الذهني في عقل زياد ، فقد أيقن أن هؤلاء الفتيات بحاجة إلى مساعدة لأنهن ضائعات في محيط من الذئاب البشرية ، وعليه أن يمد لهن يد العون . استقر في رأسه هذه المعاني فقرر أن يساعدهن بلا تأخير .