أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل التاسع عشر )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
كانت خولة تلعب أمام بيتها مع صغار الحارة من الجنسين ، فالأمور الأمنية ممتازة ، وليست كما كانت في السابق . بدت مندمجة في اللعب إلى حد التماهي مع خيالات الضحك الخارج من نخاع العظم دون تكلف . إنها تركض في الأرجاء مع أترابها ، وبينما هي تركض انقض على قدمها وحش معدني ، ونجم عن ذلك صوتٌ عظيم . لقد انفصل جزءٌ من كيانها عنها . فقد كان ذلك الوحش لغماً أرضياً . سقطت على الأرض والبكاء يمزق خاصرةَ المكان . فهي تبكي بكاءً مراً ممزوجاً مع الألم ، حيث فقدت رجلها اليمنى بكل بساطة . وصار الأطفال يتصايحون ، وهم يحيطون بها خائفين من منظر الدم والعضو المبتور . لم يملك الأطفال في تلك الساعة الرهيبة إلا أن يهربوا إلى بيوتهم بسرعة جنونية كأن حمماً بركانية تجري وراءهم . أما الناس فتجمهروا محاولين المساعدة ، ومتسائلين عن أهل هذه الطفلة . لكن أحدهم تعرَّف على هوية الطفلة ، وحملها إلى بيتها وهو يركض ، والناس يجرون وراءه ، دون أن يخطر على باله نقلها مباشرة إلى المستشفى .
سمع زياد صوتَ الانفجار المرعِب وهو يتناول الطعام. فالصوتُ كان قريباً جداً منه ، وخُيِّل إليه أن عظامه تناثرت وانفصلت عن بعضها البعض . وأيضاً سمع أهل الدار الصوتَ القريب . ترك زياد الطعامَ ، وخرج ليرى ما الذي حدث دون أن يغسل يديه ، وتبعته زوجته وأخته لتشاهدا ما الذي يحصل ، هل عادت الحرب أم لا ؟ ، إلا أنهما وقفتا على باب المنزل دون اقتحام الشارع . وكم كانت الصدمة مدوية حين رأى زياد خولة محمولة على الأكف ، وقادمة نحوه . هرع إليها ومنظر الدماء تزيده حرقةً وألماً ، فالطفلة بدت كالدجاجة المذبوحة التي تضيع تدريجياً ، وقال زياد مخاطباً الجمع :
_ نريد سيارة لإرسالها إلى المستشفى .
أدركت فايزة أن ابنتها قد أصابها مكروه ، فحاولت أن تركض نحوها ، إلا أن فاطمة منعتها قائلة :
_ أين ستلقين نفسك وسط كل هؤلاء الرِّجال ؟ .
وقامت فاطمة باحتضان فايزة التي بدت فاقدةً لتركيزها تماماً ، خوفاً من أن تقتحم جمهرةَ الرِّجال ، وما هي إلا أجزاء من الدقيقة حتى أُغْمِيَ على فايزة ، وسقطت على باب المنزل .
تطوَّع أحدهم بأخذها في سيارته الخاصة ، حمل زياد الطفلةَ بين ذراعيه فصارت كل ملابسه دماء ، إنها تنزف بشدة ، كأنما شرايينها تم إفراغها من محتواها بالكلية .
ركب الجميع في السيارة التي كانت تلتهم الطرقات التهاماً ، فسرعتها صارت جنوناً رسمياً مفعماً بالهستيريا ، وفي خضم هذا الطيران العنيف ، قال زياد :
_ لنأخذها إلى أحسن مستشفى في البلد .
رد صاحب السيارة بلهجة حانية :
_ ولكن المستشفيات الخاصة مُكْلِفة للغاية، وأنا أرى أن نأخذها لأي مستشفى حكومي .
_ المستشفيات الحكومية تزيد الإنسانَ مرضاً إلى مرضه .. لنأخذها إلى أكبر مستشفى ، والله يُسَهِّل الأمور .
أدخلت فاطمةُ زوجةَ أخيها إلى البيت وهي تجرها جراً . ثم أحضرت الماء ، وقامت بسكبه على وجهها مرات عديدة حتى استعادت وعيها . وراحت تُخَفِّف عنها ، فتارة تخبرها بأن زياداً سيقوم بالواجب ، وتارة تقول إنها مسألة بسيطة لا تدعو للقلق . أما فايزة فظهرت وكأنها في حالة احتضار شاملة ، فقد ارتمت على الأرض ، وزرعت بصرَها في السقف المتآكل . أما فاطمة فقامت بنزع حجاب فايزة تماماً لكي يدخل الهواء إلى رأسها في هذه الحالة الكارثية . إنه مشهد تراجيدي لن تجده في الأفلام السينمائية ولا الروايات الموغلة في السوداوية .
أسرع زياد المصبوغ باللون الأحمر إلى داخل المستشفى حاملاً الطفلة بين يديه ، وصاحب السيارة يركض وراءه . وعند الاستقبال رفضوا السماح بدخول الطفلة النازفة قبل أخذ البيانات ، ودفع قيمة التأمين المالية . وكان الذي يلقي هذه التعليمات امرأة في أوائل الثلاثينات تضع على وجهها عدة أطنان من المكياج ، وقد بدت كالدمية في مسرح العرائس . والعجيب أن منظر الدماء لم يؤثر فيها بتاتاً ، فهي تتكلم بهدوء أعصاب مرعِب ، وتلقي الأوامر يمنة ويسرة ، والعلكة في فمها .
وهذا الهدوء الكارثي جعل زياداً يُصاب بكل أنواع الاكتئاب والألم ، فقال :
_ هذه الطفلة تموت ، وتضيع من بين أيدينا .. أرجوكم أدخلوها إلى غرفة العمليات ، وأنا مستعد لكل شيء .
ردَّت المسؤولة وهي تمط كلامَها مطاً ، وتتكسر في قولها كأنها في غرفة نومها ، وتخلط العربية والإنجليزية مع أنها لا تتقن اللغتين :
_ يا أستاذ ، هذه تعليمات الإدارة ، وأنا مجرد موظفة .
لم يملك زياد في ذلك الموقف إلا أن يُعليَ صوتَه إلى درجة ما فوق الصراخ ، وكان يهدف من وراء هذا العمل أن يجمع المسؤولين لينقذوا البنت التي تضيع بكل بساطة. وبالفعل كان له ما أراد، واجتمع المسؤولون الذين كان موقفهم أكثر رعباً من موقف تلك الموظفة الصغيرة ، فقد قال كبيرهم :
_ يا أُستاذ ، نحن مستشفى خاص ، يعني بالعربي الفصيح مستشفى تجاري . يجب أن تدفع أولاً، ثم بعد ذلك نقوم بعلاج المريضة وفق أحدث التقنيات والأجهزة والكوادر الطبية ... ولا أحدٌ ضربك على يدك لتأتيَ إلى مستشفى خاص ، فالمستشفيات الحكومية تملأ البلد ، خذها إلى أي واحد منهم ، ولا داعي أن تنظر إلى من هم فوقك .
أحس زياد بلطمة قاسية استوطنت خدَّه، وشعر أن أحداً رشقه بماء بارد بشكل مفاجئ . في تلك اللحظة فقط عرف ما هو الفرق الحقيقي بين الفقير والغني . لم يدخل زياد في جدال طويل ، فحمل البنت إلى السيارة ، وصاحبها يجري وراءه كالعادة ، وانطلقا إلى أقرب مستشفى حكومي .
ظهرت الشوارع كأنها كهوف خفافيش . لأول مرة يشعر زياد بظلمة هذه الشوارع التي طالما مشى فيها . شيء غريب كان يغلي في صدره ، ويحيل أحاسيسه إلى بركان مكبوت ، واستمر يحادث نفسه طوال مدة الطريق ، وهو يحضن الطفلة بكلتا يديه لأنه لا يريد أن تنزل أية قطرة دم.وكان يقول في نفسه في تلك اللحظات الرهيبة :
_ لقد أصبحت دولتنا إقطاعيةً ، مَن يملك المال يستحق الحياة ، ومن لا يملك فليذهب إلى ألف داهية .
دخلوا المستشفى الحكومي ، واستغاثوا بالأطباء والممرِّضين لتقديم المساعدة اللازمة . قامت إحدى الممرضات بتعقيم الجروح ، ولف الضمادات اللازمة في إحدى الغرف ، فقال لها زياد بحسن نية :
_ سوف يقوم بالأطباء بهذا العمل حينما تَدخل غرفة العمليات الآن ! .
كادت الممرضة تنفجر من الضحك، إلا أنها أمسكت نفسها في اللحظة الأخيرة لأن الوضع لا يحتمل الضحك ، وقالت :
_ هذه الطفلة لن تدخل غرفة العمليات قبل أسبوع على الأقل ، فكل غرف العمليات محجوزة .
قال زياد وقد انهار فعلياً :
_ أرجوك يا أُختي افعلي أي شيء ، أنا مستعد لبيع ملابسي ، مستعد أن أرهن نفسي .. واللهِ العظيم سأحضر لكم المال الذي تريدونه ولكن أدخلوها غرفة العمليات فكفاها عذاباً .
_ صدقني يا أستإذ إنا أُقدِّر مشاعرك ، ولكن الأمر أكبر مني ومنك ، وغرف العمليات محجوزة لحالات أكثر خطورة من هذه الحالة ، ولكني أعدك أن ندخلها في أسرع وقت .
أيقن زياد في قرارة نفسه أن البنت ستموت لا محالة ، إلا أنه في اللحظة الأخيرة استشعر عظمة الله ، فتوجَّه إليه بالدعاء سراً راجياً منه أن ينقذ هذه البريئة من هذا الكابوس .
وترك الطفلةَ مع الممرضة ، وذهب لتعبئة كافة البيانات، والتوقيع على الأوراق اللازمة . ودفع كل ما في جيبه ، وأيضاً صاحب السيارة دفع كل ما في جيبه من أجل الضمان المالي المبدئي .
وعاد الاثنان كالمقاتلين العائدين من المعركة مهزومين ، يعودون إلى اللاشيء ، إلى حيث لا مكان ولا زمان . شكر زياد صاحبَ السيارة ، ووعده بأن يعيد له ماله في أسرع وقت ، لكن صاحب السيارة أخبره بأن المبلغ هدية من أخ لأخيه ، ورغم هذا ظل زياد مصراً على إرجاع المبلغ في أقرب فرصة .
دخل زياد بيته بثيابه الحمراء التي تشبه ثياب المحكومين بالإعدام . إن منظره حزين كحزن الشمس لحظة الغروب الساقط في البحر. أسرع إليه أهل الدار كلهم مرة واحدة ، وكلهم يسألونه في نفس الوقت عن مصير الصغيرة . وتداخل الكلام فلم يفهم شيئاً مما يُقال .
حاول زياد تهدئة الجميع ، فقال :
_ يا جماعة، الطفلة بخير، لقد تعرضت لحادث بسيط، وهي الآن تتلقى العلاج، وسنزورها في الأيام المقبلة .
قالت فايزة وقد صار وجهها مزرعةً للألوان المتضارِبة ، والهواجسِ القلقة :
_ ولماذا لا نزورها الآن ؟ .
_ إنها تتلقى العلاج في هذا الوقت ، وسوف يستمر علاجها بضعة أيام ، ولا نريد تعطيل الأطباء ، وزيارتنا لن تأتيَ بنتيجة لأننا لن نتمكن من رؤيتها ، وصَدِّقوني لا يوجد أي مبرر للقلق، فخولة جزء مني، وأنا الأب الروحي لها ، ولن أَرميَها بأي حال من الأحوال ، وأُديرَ ظهري لها . ورغم كل هذا فسأذهب كل يوم إلى المستشفى لأتأكد من حالتها .
ونظر إلى زوجته فايزة قائلاً :
_ أعرف يا فايزة أن مشاعرك كأم تسيطر على حواسك، ولكن عليك أن تثقي بي يا فايزة ، سوف أظل معها ، وعندما يحين الوقت المناسب لزيارتك لها فسوف آخذك معي ، وآخذ كل الأسرة .
كان العجوز خضر الزاوي يستمع إلى كلام ابنه مثل التلميذ الذي يستمع لكلام الأستاذ . لقد وقع العجوز تحت سطوة شيخوخة الصمت ، فلم يظهر قادراً على المناقشة ، كما أنه لم يظهر قادراً على مواصلة الوقوف ، فقرر الجلوس على الفِرَاش الأرضي ، وأخرج مسبحته من جيبه ، وصار يذكر الله بصوت ممتزج بالهمس ، وعيناه تدوران في أرجاء المكان .
وفي زحمة القلق وفوضى الألم والحزن الأخرس لم يطلب أي شخص من زياد أن يذهب ليغتسل أو يُغَيِّر ملابسه ، فاتخذ هذه الخطوة بنفسه ، وانسحب من المكان . وفي الحمَّام غيَّر ملابسه ، واغتسل على وجه السرعة .
وبعد خروجه صلى ركعتين، ثم استقر على سجادة الصلاة ليقرأ وِرْده القرآني. وقامت المرأتان بقراءة القرآن في غرفة فاطمة دون أن يَطلب منهما أحدٌ فعل ذلك . فهناك قناعة في هذا البيت بأن المصائب التي تنزل عليهم واحدةً تلو الأخرى لن يرفعها إلا اللهُ ، ولن ينقذهم سوى اللجوء إليه . هذه هي القاعدة التي يسير عليها الجميع في هذا المنزل .
وفي المساء سلَّم زياد نفسه لأحلام اليقظة . لقد تكوَّر حول فكرة محددة تدور في رأسه كالفراشة التي تحمل على جناحيها أباريق الماء المكسورة . وقد عزم أن يُنَفِّذها في الصباح بأسرع وقت ممكن .
أخذ زياد مجموعة ضخمة من الأوراق ووضعها في كيس . إن تلك الأوراق عبارة عن كتابه " الرد على أرسطو " . ولكن أين سيأخذ هذا الكتاب في هذا الوقت الصعب ؟ .
ذهب إلى الجامعة ، إلى مكتب الدكتور وائل عمَّاش . كان يعرف هدفه بعناية فائقة فلم يُعَرِّج على أي مكان آخر ، ويعرف كذلك مواعيد تواجد الدكتور في مكتبه . دخل عليه وهو يحمل ذلك الكيس ، وما إن رآه الدكتورُ حتى أحس بأنه يرى وحشاً منقرِضاً منذ ملايين السنين قد عاد للتو .
قال الدكتور وهو يسحب الكلمات سحباً بطيئاً ليلعب بأعصاب زياد أطول وقت ممكن :
_ لا ترجوني يا أستاذ زياد لكي أُعيدك إلى الجامعة ، لقد قلتُ كلمتي والرَّجل لا يعود في كلمته ، حتى لو قَبَّلْتَ حذائي ، واعتذرتَ لي .
ضحك زياد ضحكة خفيفة استخفافاً بهذا الكلام ، وقال :
_ دَعْكَ يا دكتور من موضوع الأحذية لأنه ليس من مستوانا العلمي ، وأنا لم أُخْطِئ لكي أعتذر ... ودعني أكن صريحاً معك ، فأنا أريد أن أعرض عليك كتاباً قمتُ بتأليفه ، وبصراحة أكثر أنا أعرف أنك مفكِّر وروائي ومرشَّح لجائزة نوبل في الآداب ، وأنا أمر في ضائقة مالية خانقة وظروف عائلية صعبة، وإذا أردتَ شراء هذا الكتاب ، فسوف أتنازل لك عنه بكل هدوء وسرية .
تفاجأ الدكتور بهذا الكلام العجيب ، وأطرق برهة قبل أن يقول :
_ أرني الكتاب .
أذهله العنوان " الرد على أرسطو " ، وشده إلى تصفحه . أظن أنه قرأ أول خمس عشرة صفحة ، فأُعْجِب جداً بهذا الأسلوب الجذاب ، والأفكار الجديدة ، وقال متحمساً لفكرة لشراء الكتاب :
_ اسمع يا زياد ، صحيحٌ أنني أكرهك وأحتقرك ، ولكني مذ رأيتُك أيقنتُ أنك غير عادي ... وأود أن أقول إنك محظوظ ، فاسمك بعد يومين سَيُعَمَّم على كل جامعات البلاد ، فلا تستطيع دخول أية واحدة .
وأردف قائلاً :
_ على أية حال لنعد إلى موضوعنا ، سأدفع لك خمسة آلاف دولار بشرط أن تكتب ورقةً بخط يدك تُثْبِت أنني أنا مؤلف الكتاب ، وأن لا علاقة لك به من قريب أو بعيد .
راح يكتب تلك الورقة وفوق كتفيه كل ذكريات دماء ابنة أخيه، وحاجتها إلى عملية جراحية قد تكون مُكْلفة ، وأجرة البيت التي لم يدفعوها منذ وقت بعيد ، وملابس أخته التي تلبسها ليل نهار ، ولا تجرؤ على التفكير في شراء فستان جديد مثل كل الفتيات ، وزوجته التي تكتم حزنَها في قلبها ، وتُخَزِّن بؤسَها في عيونها ، ووالده الذي يطمح أن يذهب إلى الحج لكنه لا يملك مالاً .
أنهى كتابة الورقة محتوية على كل ما يريده الدكتور ، ووقَّع في أسفل الصفحة ، وما إن رفع رأسَه حتى هبطت دمعةٌ مِلحية على حِبر إحدى الكلمات . مسحها بطرف كُمِّه ، ثم أعطى الورقة للدكتور الذي قرأها بعناية فائقة متأكداً من دلالة كل كلمة خوفاً من حدوث مشاكل مستقبلية .
فتح الدكتور درج مكتبه، وأخرج خمسة آلاف دولار كانت جاهزة دون عَد، وأعطاها لزياد . لأول مرة يدرك زياد أن اللون الأخضر في هذه الأوراق له لمعة خاصة خادشة كأنها دبابيس في قميص الريح . في تلك اللحظة شعر أن بينه وبين اللون الأخضر عداوة غير منطقية ، وعلى الرغم من أنه حاول طرد هذا الهاجس ، إلا أن اللون الأخضر ظل يطارده ، وشكَّل عقدةً في منشار أحزانه التي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ .
وعندما خرج من بوابة الجامعة أيقن أنه لن يعود إلى هذا المكان مرة أخرى ، وأن جامعات وطنه صارت حراماً عليه. لقد صارت مُخَصَّصة لبشر آخرين يحملون لون جِلده ، ولكنهم مستعدون لتغيير جِلدهم إذا تغيرت بوصلة الشمس المزوَّرة .
لأول مرة يحمل مبلغاً كبيراً في جيبه حسب مقياسه الشخصي . وكلما مشى في الشوارع الموبوءة تحسَّس جيبه ليطمئن على وجود المال . عرَّج على محل الصرافة ، وقام بتحويل المبلغ إلى العملة المحلية . وقبل أن يعود إلى بيته اشترى بعض الفواكه والخضراوات ، فلا بد أن هذا الأمر سيفرحهم ، ويخفف عنهم .
وبعد مضي عشرة أيام تقريباً عادت خولة إلى بيتها برفقة أهلها الذين أحضروها من المستشفى . ولكنها لم تعد مثل باقي أطفال الحي ، فإحدى رجليها صناعية. كانت تمشي بصعوبة بالغة، وقد أدركت منذ اللحظات الأولى لدخول هذا الجسم الغريب إلى جسدها بلا استئذان ليصبح عضواً شقيقاً لباقي الأعضاء رغم الاختلافات أن حياتها اتخذت مساراً جديداً بالكلية . والعجيب أن الطفلة لم تكن تبكي ، بل أمها التي كانت تبكي طول الطريق بصوت هامس ، رغم أنها تُقاتِل نفسها لوأد البكاء .
دخلت الصغيرة المنزل برجلها اليمنى الصناعية . صارت عرجاء تخطو على البلاط المشقَّق ، وثقل جسدها لا يتوزع بالتساوي على القدمين . تفاجأت الصغيرة بالزينة التي تملأ المكان ، فقالت ببساطة الطفولة وعفوية المشهد موجهة كلامها إلى فاطمة :
_ هل ستتزوجين يا عمتي ؟ .
ضحكت فاطمة ، بينما تكفل العجوز خضر الزاوي بالقول :
_ لقد قامت عمتك بتزيين المكان فرحاً بقدومك .
وأخرج زياد قالباً من الحلوى موضوعاً في علبة كرتونية ، وعبوة بلاستيكية كبيرة من العصير ، وقال :
_ خذي هذه الأشياء يا فايزة ، وقومي أنتِ وفاطمة بتجهيز الحفلة المخصصة لخولة التي نحبها كلنا .
كان الجميع يريد إضفاء جو من البهجة على نفسية خولة الطالعة من تجربة قاسية للغاية سترافقها رغماً عنها طوال حياتها . ولم يريدوا أن يُشْعِروها بأنها صارت عبئاً عليهم ، أو أنها صارت فتاة ذات إعاقة وتستحق الشفقة والإحسان من الآخرين .
وفي المطبخ ، حيث يتم تجهيز الحلوى والعصير ، انفجرت فايزة باكيةً، وصارت تنتحب بصورة عنيفة للغاية . حاولت فاطمة تهدئتها والتخفيف عنها قائلةً :
_ اصبري يا فايزة ، أنتِ امرأة مؤمنة ، والبنت إذا رأتكِ في هذه الحالة فلا بد أن تسوء حالتها ، وتنهار نفسياً .
بدأت فايزة تكافح دموعها بشتى الوسائل ، ثم قالت وقد هدأت قليلاً :
_ سوف تظل معاقة مدى الحياة ، والناس ينظرون إليها على أنها نصف إنسان، أو إنسان من الدرجة الثانية .
_ لا درجة ثانية ولا درجة عاشرة ، غداً تصبح من أحسن الناس، فدعكِ من الدموع، وقومي بتشجيعها ، ولا تشعريها بأنها ناقصة أو مريضة.
وتمت الحفلة على أحسن ما يرام كما لو كانت حفلة عيد ميلاد ، وهي بالفعل كانت ميلاداً جديداً لهذه البنت التي لا تملك إلا أن تقف على رجليها. إن صمودها في هذا الوقت العصيب يُحَيِّرني ، فهي لم تذرف أي دمعة منذ أدخلوا تلك الرِّجْلَ الصناعية في جسدها الغض .
أما فاطمة فقد كانت في مزاج رائق بسبب استلامها رسالة من خطيبها أنس الذي وكَّل والده بإتمام كافة إجراءات الزواج ، ومن ثم سفرها إلى خطيبها . وقد حثَّها على مراسلته من خلال الإنترنت بعد أن وضع عنوان بريده الإلكتروني ، فالرسائل الورقية بطيئة جداً إذا ما قيست بالإنترنت.هذا ما قاله في رسالته الأخيرة. وقد انتظرت فاطمة الوقت المناسب لتخبر أهلها بالموضوع حتى يتم على أحسن حال .