أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الخامس عشر )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
كانت الأحداث تمر بصورة متسارعة جداً في ذلك البيت الصغير الوادع ، بيت خضر الزاوي . فبلال صار مجنوناً رسمياً ، وقد أُودِع في أحد مستشفيات العاصمة الخاصة بهذه الحالات . وحالته تسوء أكثر فأكثر ، وستزداد سوءاً لأن مستشفيات البلاد غير مؤهَّلة لاستيعاب مثل هذه الحالات، فهناك نقص حاد بالمعدات والأدوية، ونقص في الكفاءات البشرية الممتازة ، حيث هاجر الأطباء المعروفون إلى أوروبا وأمريكا بعد أن تلقوا عروضاً مغرية . ولم يبق في مستشفيات البلاد سوى الأطباء الأقل كفاءة . حتى الأطباء المتمكِّنون الذين ظلوا هنا ، وهم فئة نادرة جداً ، فهم بحاجة إلى أجهزة متطورة، ورواتب مجزية ، ومستوى معيشي أفضل من هذا المستوى البائس ، إلا أن جهودهم ذهبت أدراج الرياح . ففي هذه البلاد الداخلة في حرب عبثية والخارجة من حرب فوضوية لا مستقبل إلا للحكومة التي تسرق الشعب في وضح النهار ومن دار في فلكها ، ولأهلِ التمثيل والغناء والرقص . فهؤلاء وحدهم هم الذين يستفيدون مالياً في هذه البلاد ، أما أهل العلم والثقافة فبالكاد يجدون قوت يومهم . ومن استطاع منهم أن يغادر البلاد غادرها بسرعة ، ومن لم يتمكن من ذلك فهو ما زال يغذ الخطى إلى الهجرة من هذا المكان الذي صار بالنسبة للكثيرين مقبرة لا نهائية .
وقام العجوز خضر بمراجعة المحكمة من أجل فسخ عقد الزواج بين ابنه بلال وبين زوجته ، فهو فاقد لقواه العقلية ، ولا يستطيع أن يقوم بواجباته الزوجية والحياتية تجاه أسرته والمجتمع. ومن الواضح أن العجوز خضر يحضِّر لشيء في ذهنه، فخطوة فسخ عقد الزواج لا أدري كيف خطرت على باله. كما أن فايزة لم تعارض هذه الخطوة ، فليس واجباً على المرأة أن تنتظر رجلاً لا يأتي ، وليس فرضاً على المرأة أن تعيش حياتها خاضعة لرحى ذكريات زوجها السابق الذي فقد معنى الزوج الحامل لكافة الأعباء. وعلى أية حال مضى على هذه الوقائع فترة ليست بالقصيرة.
وفي يوم من الأيام قال العجوز خضر لابنه زياد على انفراد :
_ اسمع يا زياد ، هذه فايزة التي كانت زوجة أخيك ، هي الآن بلا زوج . وأنتَ تعرف الموضوع كاملاً ، وأنا أرى أن تتزوجها لتحافظ عليها ، وعلى ابنتنا خولة ، فليس لها أحدٌ في هذا المكان سوانا .
هبطت هذه الكلمات على رأس زياد كالمطرقة الحديدية ، وبلع ريقه لأنه لم يعرف ماذا يفعل في تلك الساعة ، فالصدمة كان مفاجئة ومباغتة وشرسة ، لكنه تمالك نفسه ، وقال :
_ ولكن فايزة مثل أختي ، وهي زوجة أخي ، ولم أفكِّر فيها كزوجة في أية مرحلة من حياتي .
_ افهمني يا زياد ، فايزة كانت زوجة لأخيك ، وهي الآن لم تعد كذلك ، ودعك من كلمات " مثل أختي " ، وغيرها من الكلمات التي لا معنى لها في الوقت الحالي ... إن لم تتزوجها فسوف تضيع المرأة هي وابنتها ، فالأولى أن نجمع لحمنا بدلاً من أن يظل ضائعاً تائهاً بلا صاحب .
_ وهل هي موافقة على هذا الزواج ؟ .
_ أنا وأختك وفاطمة سنقوم بإقناعها بالحسنى ، المهم هل أنت موافق ؟ .
نظر زياد إلى المسألة نظرة إنسانية ، فمن المستحيل أن تظل فايزة وابنتها تحت مساعدة فلان ، وصدقة فلان . فالزواج منها سوف يضمن استمرارية هذه الأسرة دون تفككها ، ومن هذا المنطلق وافق زياد على الزواج ليس رغبةً في الزواج ، ولكن رغبة في الحفاظ على هذه الأسرة ، وصيانتها من الضياع الحتمي .
وبعد هذه الجرعة من التفكير قال زياد :
_ أنا موافق على هذا الزواج إذا وافقت فايزة.
وفي المساء قام العجوز خضر بإعلام فاطمة بالأمر وكلَّفها بإقناع فايزة بضرورة الموافقة على الزواج حفاظاً على هذه الأسرة الصغيرة المنكوبة . وبعد جهد جهيد وافقت فايزة لنفس السبب الذي من أجله وافق زياد .
وحضر المأذون إلى البيت ، وكتب الكتاب بكل هدوء . وقد اتفقوا على عدم الرقص والغناء، وبدون إقامة عرس احتراماً لبلال الذي يعاني في مستشفى الأمراض العقلية . واقتصر الحضور على عدة أشخاص من الأقارب والجيران ضمن دائرة ضيقة جداً .
لقد تم الأمر بسرعة غير طبيعية . وأنا شخصياً لستُ أدري كيف تسارعت الأحداث بهذه الصورة السريعة ، كأن الأمر عملية صهر مراحل أو حرق خطوات كاملة بلمسة واحدة . بطرفة عين دخل هذان الاثنان قفص الزوجية ، وهما يحملان تاريخ أحزانهما فوق أكتافهما .
وفي مكان آخر كان النحيب يتدفق من ألواح صدر راحيل ، ويطلع من أحزان الأسمنت في جدران غرفتها. فما إن علمت بالموضوع حتى دخلت غرفتها، وأغلقت على نفسها الباب ، وسلَّمت نفسها بالكلية للدمع الملتهب . كان متعلقة بقشة الأمل ، فربما يأتي زياد يوماً ما لخطبتها ، وانتشالها من هذه المقبرة التي كانت تشعر بكل تفاصيل شواهد القبور فيها . هذا هو تصورها لبيتها الذي صار مدفنها كما تشعر في أعماق أعماقها .
وفي زحمة الدمع المفترِس قالت في نفسها :
_ لا تضحكي على نفسك يا راحيل، فزياد لم يحبك في يوم من الأيام، وهل هو غبي إلى درجة أن يحب امرأة جاهلة وعمياء مثلك ؟! . إنه كان يشفق عليك مثلما يشفق على المتسولين على أبواب المساجد أو الكنائس . لقد صنعتِ وهماً وعشتِ فيه ، وها هي لحظة الحقيقة قد جاءت ، فلتبكي حتى الصباح، لن يعبأ بك أحد. لقد ذهب إلى ليلة الدخلة ، وأنتِ ذهبتِ إلى ليلة الحزن والبكاء .
وارتفع منسوب بكائها في سد الرجفة الأسمنتية . أعضاؤها دخلت في هواجس الرجفة . ذاكرتها تخلع ذاكرتها وتغيب كالموتى العراة ، كشاب تركته صديقته فأخذ يقرأ التوراة أمام الموقدة دون أن يفهم شيئاً ، كالثلج يتساقط كالدم على حواف النوافذ . في جسدها أحطاب الحزن، وفي يديها أكوام الزرنيخ الحي . اختبأتْ تحت اللحاف كقطة مبلولة باليورانيوم المشع، واستسلمت لنعاس يطلع من سجاد الغرفة.
وفي منزل العجوز خضر، وفي تلك الغرفة التي كانت يوماً ما غرفة بلال، استقر العروسان في قلب فوهة ليلة الدخلة . أُغلِق الباب مثل كل الذكريات التي تُغلَق على جراح النهايات الشرسة . أحس زياد لأول مرة في تاريخه أنه أخذ مكان أخيه. بدا شعوره ممزوجاً بالدهشة والرغبة والحزن والتشويش . لقد نسي كل تاريخه فجأة وبدون مبررات . لقد نسي تطبيق آداب الزفاف في الشريعة التي كان يُعَلِّمها للآخرين . كان حجم التشويش والتشتيت الذهني في أوجه ، فتخيَّلَ أنه يُهَاجَم من كل الجهات ، وأن عليه أن يواجِه كل الجهات .
نظر إلى فايزة نصف نظرة ثم أطرق إلى الأرض ، فلم يشأ أن يحدِّق في وجه زوجته . هجمت عليه الذكريات من كل جهات الألم . هذا الليل كأنه لا يريد أن ينتهيَ، كأن جزيئات الليل قد رُبِطَت بحجارة بئر مهجورة تركها البدو الرُّحَّل نهائياً.
جلس الزوجان عند حافة السرير الذي كان مرتَّباً بعناية فائقة . تركا الصمتَ يتوسطهما بحذر بالغ .
قالت فايزة بصوت خفيض أقرب إلى السكوت :
_ هل تحبني يا زياد ؟ .
_ بكل تأكيد ، فأنت الآن زوجتي .
_ هل كنتَ تحبني عندما كنتُ زوجةً لأخيك ؟ .
صُدِم بهذا السؤال ، وبلع ريقه باضطراب بالغ . فهو لم يتوقع هذا السؤال حتى في الأحلام ، وقرَّر أن لا يجيب عليه ، لذا التحف الصمتَ الشاسع. لكن فايزة يبدو أنها مصرة على هذا السؤال بشكل غريب ، فقالت :
_ أستحلفُك بالله إلا أن تخبرني .
تضايق زياد من هذا الكلام ، فهو لا يحب أن يستحلفه أحدٌ بالله ، ولكنه عندما رأى هذا الإصرار غير الطبيعي قرَّر أن يجيب بصراحة ، فقال :
_ صدقيني يا فايزة أنا أحبك في كل مراحل حياتك ، قبل أن أراك ، وبعد أن رأيتُك ، ولكني أحب روحك ولا أفكِّر في تفاصيل جسدك . فأنا لم أفكِّر فيك كزوجة ، ولم أُرِد أن أُدمِّر حياتك مع أخي ، أو أن ألعب بقلبك الطاهر ، فابتعدتُ عنك لكي أنساك نهائياً، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ليس منا من خبَّب امرأةً على زوجها )).
وأردف قائلاً :
_ أنا أعرف أننا اجتمعنا في ظروف غريبة بعض الشيء، خصوصاً أن هذا الأمر قد جاء بعد مرض أخي بلال ، وبصراحة لقد اتخذتُ قراراً بعدم الزواج ، فأنا لا أريد زوجةً ولا أولاداً ، لا أريد أي شيء يربطني بكوكب الأرض بهذه الأرض اليباب... دعيني أكن معك صريحاً يا فايزة ، وأنا أعلم أن الكلام الذي سأقوله محال أن يقوله رجل عاقل لامرأته في ليلة الدخلة ، ولكني سأقوله . إن أي امرأة في هذا العالَم تعتبر الجنس إحدى أهم أولويات وجودها ، أما أنا فالجنس يأتي في الأولوية ما بعد المئة في ذهني ، وهذا أبعد الزواجَ عن دائرة تفكيري . وأنا مؤمن أن المرأة كائن جنسي جامح وشرس وصعب المراس. وربما ساهمت الفلسفة في توجيهي إلى هذا المسار، فقد سئل الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي عن عدم زواجه فأجاب إنه لا يحب أن يجمع بين المرأة والفلسفة ، وهكذا كان رأيي . وقد كنتُ أخشى أن يحدث معي مثلما حدث مع الكاتب الأرجنتيني بورخيس الذي تزوَّج امرأة فلم يلمسها طوال ثلاث سنوات ، حيث بقي في غرفة ، وهي في غرفة، حتى إنه عندما أراد تطليقها خجل منها فكلَّف أحد الأصدقاء ليخبرها بموضوع الطلاق. وبصراحة أنا أحب في المرأة كل شيء عدا ممارسة الجنس ، وقد كنتُ أتخلص من الكبت الجنسي بثلاث وسائل : التأليف ، والمشي ، والبكاء. فكنتُ في كل يوم أبكي بحرقة بعدما أُغلِق باب غرفتي عليَّ ، ثم أذهب لأغسل وجهي بالماء والصابون كأن شيئاً لم يكن ، ولأول مرة أُخبر أحداً بهذا الموضوع . ولكنني منذ هذه اللحظة أعدك أن أكون زوجاً يرعاك ويقوم بالواجبات الزوجية كاملة، وسوف أضعك في عيوني ، ولكني أطلب منك أن تمنحيني وقتاً كي أدخل في هذه التجربة الجديدة بالنسبة لي ، وأريدك أن تُصَفِّيَ ذاكرتي من كل النساء العالقات على جدران ذكرياتي اللواتي رَمَيْنَ قلبي في بئر الصدمات العاطفية ، ورحلن إلى اللامعنى . أعرف أن كلامي غريب للغاية، والرجال يرفضون أن يقولوه لزوجاتهم، ولكني أحب أن تعرفي طبيعة مشاعري لتفكِّكي عقدي النفسية ، وتقضي على اكتئابي وارتباكي وخجلي والتشويش المذهل في رأسي . صدقيني يا فايزة طوال حياتي والنساء يتحرشن بي جنسياً، ولا أذكر أن لمستُ امرأة لا تحل لي. أحتاج إلى البكاء على صدرك المعجون برائحة ثلج إسطنبول، فأنا رَجُل لا أحب أن يرى دموعي غير أمي وزوجتي. أريدك أن تكوني أُمَّاً ثانية لي لكي أستعيد رائحةَ أعضاء الشمس ، أن أحتسيَ كوباً من ماء عيونك لأُعَوِّض قرون العطش في قلبي الصحراوي الجاف عاطفياً ، أن أتناول تفاحاتِ جفونك على العشاء لأُعَوِّض سنوات المجاعة ، أن تلديني من جديد لتختلط أوصالي بأوصالك، أن أدخل في أحشائكِ، وأخرج من أحشائك، لنصير معنىً واحداً جسداً واحداً لحلم يولد من جديد. أن أفترس أكسجين رئتك ، والمواد اللزجة بين غضاريف عمودك الفقري ، ليصبح بيننا أكسجين وخبز وملح وعظام ... يا إلهي كم أحتاج في هذه اللحظة إلى صدر أمي .
_ هل هذا الكلام تعلَّمته من كتب الفلسفة التي تدرسها ؟ .
_ هذا الكلام تعلَّمته من عينيك القاتلتين اللتين تحفران قبري في أجفانك ، وبعدها تستطيعين أن تقرئي على روحي سورة الفاتحة . أحب أن أموت في جفونك، أو على رموشك ، أو على صدرك الذي يُذَكِّرني بصدر أمي . أرجوك قومي بعملية تطهير عِرقي في نخاع عَظْمي، امسحي كل صور النساء على سبورة دماغي ، وكوني أنتِ وحدكِ شقيقة جسدي ومعادَلتي الروحية المتوحدة مع لحمي .
ابتسمت فايزة لأن هذا الكلام لامس أقاصي منعطفات أنوثتها ، ودغدغ كل حواسها ، وقالت :
_ لم أكن أعرف أن مثل هذا الكلام قد يخرج منك، وإن كنتَ تبحث عن أمك فأنا أقبل أن أكون أمك الثانية ، وسوف أَلِدُكَ من جديد، واعتبرْ صدري مثل صدر أمك ، وإذا أردتَ أن تضع رأسك عليه فضعه . وسوف أكون بين يديك قبيلةً من النساء لكي تنسى كل صدماتك العاطفية .
اقترب منها ، ووضع رأسه على صدرها الدافئ ، ثم أخذ يبكي بحرقة شرسة كالطفل اليتيم ، ورأسه يهتز بفعل ارتعاشة جسده العنيفة . إنه موغل في الثلوج الداخلية ، كأنه منقوع في حفرة جليدية لا قرار لها . جسده يفقد حرارة الحلم بصورة كارثية . كل خلاياه في تلك اللحظة مَرْكز للبرودة ، وقال بصوت مرتجف :
_ أول مرة في حياتي أضع رأسي على صدر امرأة غير أمي .
لم تعرف فايزة كيف تتصرف في ذلك الموقف ، فبقيت على حالها جامدة دون أن تتحرك ، والتحفت بالتعجب والرعشة والأحزان. أوصالها ازدادت دفئاً ، وقلبها تشبَّع بالحنين إلى فحولة الرَّجل المحتوية على أنوثة الحضارة . واستمر زوجها في البكاء فترة ليست بالقصيرة قبل أن يستسلم للنوم المتدفق ، كأن البكاء قد أخذ منه يقظة المعنى . لقد نام تلك الليلة كالمخدَّر .
ودخلت زوجته في عوالم الاستغراب ، فقد تعجبت من هذا البكاء الذي صدر عن رَجل كان في عينيها مثال الشدة والتماسك ، ولم تظن أن المشاعر قد تجرف زياداً بهذا الشكل العنيف ، فطوال حياته كان شاباً صلباً لا يترك العواطف تقوده، ولكن يبدو أن هذه الليلة كانت القطرة التي أفاضت الكأس ، وأن كل أحزانه وكبته وأشواق الغياب ساهمت في استخراج الدمع من آبار عينيه بهذه الغزارة .
اقتنعت فايزة بهذا الكلام ، ولم تنزعج من بكاء زوجها على الإطلاق ، فقد نظرت إلى الموضوع من زاوية الحب والحنين والشوق ، وهذه المشاعر يشترك فيها الرَّجل والمرأة ، وقد تصيب أي شخص ، ولا تنقص من مقداره . هذا هو انطباعها حول الموضوع . ثم قامت بتغيير ثيابها بعد أن نام زوجها، وذهبت إلى النوم في هذا الليل الطويل الذي يبدو أنه لن ينتهيَ أبداً . بدت ليلة الدخلة للوهلة الأولى كالزنزانة التي لا تريد أن تُعتِق سكانها ، ولكن كل الخواطر والتداعيات الذهنية تبخرت بفعل صراحة زياد الصاعقة .