أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل السابع والعشرون )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
كان مدير المخابرات في مكتبه مندمجاً مع المواقع الإباحية على الإنترنت . دخل عليه أحد الضباط بلا استئذان وهو يلهث ، فارتبك المدير وأغلق المواقع سريعاً ، وقال بلهجة حادة :
_ كيف تدخل عليَّ يا حيوان بلا استئذان ؟ . ألم تعلم أن هناك هرماً وظيفياً فكيف تقوم بتجاوزه ؟ .
_ أنا آسف يا سَيِّدي ، ولكن أوامركم السامية تنص على إبلاغ حضرتكم بأي نبأ خطير فوراً دون الرجوع إلى الهرم الوظيفي .
_ هل هناك محاولة لقلب نظام الحكم ؟ .
_ لا يا سَيِّدي ، ولكن هناك أمر سيضايقك أكثر .
تعجَّب مدير المخابرات من هذا الكلام، وتساءل في نفسه عن هذا الأمر الأشد من قلب نظام الحكم ، فقال والفضول ينخر عظامه :
_ قل بسرعة ولا تضيع وقتاً .
_ ابنة حضرتكم صاحبة الصَّوْن والعفاف تزوَّجت شاباً كان عضواً سابقاً في الإخوان المسلمين .
ضحك مدير المخابرات من كل قلبه ، وقال :
_ هل جئتَ إلى هنا لتمزح معي وتتبادل النكات مع أسيادك ؟ .
_ أنا آسف يا سَيِّدي ، ولكن أُقسم لك أن هذه هي الحقيقة بعد كشفنا هذا الأمر .
اقتنع مدير المخابرات بهذا الكلام بعد أن رأى هذا الإصرار . وأطلق ضحكة خفيفة عابرة قبل أن يكسر كل الأشياء التي كانت على مكتبه بحركة هستيرية رغم أنه يمتاز بهدوء أعصاب مرعِب ، ثم صرخ كأنه يريد أن يُفهِم حيطانَ الغرفة :
_ أنا معن اللويمي الذي ثبَّت النظام الحاكم طوال مليون سنة ، ولا أحد يقدر أن يهز شعرة من رأسي. لا قانون في البلد ، أنا القانون. ولا حكومة ، أنا الحكومة. ولا حاكم ، أنا الحاكم . وها هي ابنتي تتزوج بدون معرفتي يا أولاد الكلب ... أين كنتم ؟ ، هل كنتم نائمين في أحضان نسائكم أم تشاهدون الفيديو كليب ؟ .
وبصق على الضابط الذي أمامه عن بعد ، فلم يصل إليه سوى بقايا بصاق أو رذاذ خفيف . ودخل في نوبة هستيريا مرعبة لدرجة أن الضابط ارتعب من المنظر ، وصارت أسنانه تصطدم ببعضها البعض ، ومفاصله تكاد ترحل عن جسده بشكل نهائي .
ألقى مديرُ المخابرات ربطة العنق على الأرض ، وفتح أزرارَ قميصه لكي يقدر على التنفس ، وقال بانفعال واضح :
_ اشنقوا الشعبَ ، اشنقوا المأذون الذي أتم العقد ، اشنقوا الحاكم أيضاً، اشنقوا هذا الولد التافه الذي تزوَّجها ، واشنقوا ابنتي ...
ثم استدرك قائلاً والتشويش يقتلع أركانَ ذهنه :
_ لا تشنقوا ابنتي ، لا تقتربوا من ابنتي . لا تشنقوا أي أحد ، اشنقوني أنا .
ثم ارتمى على الأرض يبكي بحرقة كالطفل الذي تركته أمه وحيداً في المنزل ، وذهبتْ إلى السوق لكي تُضَيِّع وقتها لا أكثر .
كان الضابط مندهِشاً من هذا المنظر غير العادي ، فقد كان يعتقد أن مدراء المخابرات ليس لديهم دموع ، وهم لا يبكون مطلقاً ، ولا يرفعون الرايةَ البيضاء حتى لو صارت كل أيامهم سوداء . لكن المشهد الصادم الذي رآه غيَّر قناعاتِه ، وأدخله في عوالم المشاعر التي كان يسمع عنها من زوجته المدمنة على مشاهدة أفلام نجلاء فتحي ومحمود ياسين . لكنه لأول مرة يتأكد من وجود أشياء تدعى مشاعر ، فقد أفهموه مذ دخل في العمل المخابراتي أن ضابط المخابرات الناجح يجب أن يرميَ قلبَه في أقرب سلة قمامة ، ويبصقَ على كل الناس حتى يقدر على انتزاع الهيبة من عقول الناس رغماً عنهم .
وجاء المساء حاملاً في معدته ذكريات الغيمات الباكية . كان مدير المخابرات يجلس على كرسيه الهزَّاز قرب المدفأة الخاوية على عروشها ، ويُسرِّح نظره باتجاه النافذة التي تطل على الأشجار العنيفة . في يده اليمنى كوب يانسون ساخن يسري في نخاع عظامه كتقارير محكمة أمن الدولة . كانت الإضاءة خافتة، فهو يحب أن يجلس في هكذا جو ، حيث يتذكر جو صالة السينما التي كان يذهب إليها مع خطيبته أيام الشباب ، والتي صارت فيما بعد أُمَّاً لأبنائه . إنه يتذكرها الآن أكثر من أي وقت مضى ، فقد تم دسُّ السم لها في عصير البرتقال في أحد فنادق أوروبا ، حيث كانت تقوم برحلة سياحية معتادة . وقد اتَّهمت الحكومةُ جماعاتٍ إسلامية بالوقوف وراء الحادثة للانتقام من مدير المخابرات الذي كان سجله حافلاً بتعذيب السجناء السياسيين . أما الإسلاميون فاتهموا الحكومة بالضلوع وراء العملية لإقناع الرأي العام العالمي بأهمية تصفيتهم بعد تشويه صورتهم وتصنيفهم كإرهابيين . وفي الحقيقة لم يقدم أي طرف دليلاً على اتهاماته . وتمت عملية التسميم دون الوصول إلى الفاعلين ، وذهبت القضية إلى أدراج النسيان مثلها مثل عشرات قضايا تصفية الحسابات ، وطواها الزمن .
وبينما هو غارق في تأملاته بعد أن استعاد هدوءَ أعصابه وتركيزه بشكل كامل دخلت ابنته عليه. كأنه يملك إحساس الانتظار، كأنه ينتظر خروجها من بين أشجار الحديقة ، من شقوق أي شيء . المهم أنها جاءت . ألقت السلام على أبيها ، فردَّ عليها السلام مع أنه غير متعود أن يستعمله في حياته اليومية. لاحظ حجابَ ابنته يلمع كعيون طائر حطَّ على تاج نخلة ، فقال متسائلاً :
_ منذ متى ترتدين الحجاب ؟ .
_ المهم أنني أرتدي الحجاب الآن .
قال ساخراً :
_ لقد نسيتُ أن أُبارك لك بمناسبة زواجك ، ولكن اعذريني فلم تصلني دعوة من حضرتك ، وكأني رِجْل طاولة في هذه المقبرة .
_ أرجوك يا أبي لقد اخترتُ طريقي وأنا أتحمل المسؤولية . لقد تزوجتُ ولو أخبرتُك لما وافقتَ . أنتَ تريد أن تبيعني لأصدقائك الأغنياء أو أبنائهم الفاشلين . أنا الآن امرأة متزوجة، فلا تدمر حياتي. أرجوك يا أبي لا تجعلني واحدة من ضحاياك الكثيرات. كم امرأةٍ أبكيتَها بعد أن سحقتَ زوجَها ظلماً . لقد قضيتَ على كل شيء رائع في حياتي . لأول مرة في حياتي أشعر أنني امرأة تَحِبُّ وتُحَبُّ ، فاتركني أختر طريقي بنفسي ، أرجوك يا أبي اتركني .
انفجر ضاحكاً من أعماق قلبه ، وصفَّق لبرهة من الوقت سخريةً من هذا الكلام ، وقال باستهزاء :
_ إنكِ تتقنين دوركِ بمهارة فائقة ، ولكن ما اسم هذه المسرحية التي تشاركين فيها ؟. هل استطاع هذا الولد أن يغسل دماغك ، ويزرع هذا الكلام في رأسكِ ؟. يا له من مُهَرِّج محترِف يعرف من أين تؤكل الكتف .
وتابع يقول :
_ اسمعي يا سوزان ، أنتِ كنتِ ابنتي أما الآن فلا . ولن أسمح لبنت مراهقة مثلك أن تكسرني آخر عمري ، فاحملي كل أغراضك في هذا البيت ، ولا تعودي إليه نهائياً، لا أنا أبوكِ ولا أنتِ ابنتي. اذهبي مع هذا الولد الذي سيبلعك ثم يبصقك في الشارع ، والآن قد انتهت المقابلة إلى الأبد .
وغادر والدها المكانَ وهو يزرع خطواتِه الثابتة على السجاد الفاخر، لكن دموعاً خفيفة برقت في عينيه ، وهو يحاول جاهداً قمعها وإخفاءها عن ابنته . وقد نجح في ذلك فلم تلمح ابنته ذلك المشهد البراق الذي امتزج فيه الملحُ بالماء . دخل غرفته ، وأغلق الباب بالمفتاح جيداً ، ثم ارتمى على السرير ، وأخذ يبكي بشكل صاعق . إنه يحترق في نحيب زرقة الرعب رافعاً كل الرايات البيضاء في وجه طوفان الدموع الذي يجتاحه ويخمشه بلا رحمة .
إنها ابنته التي كبرت أمامه لحظةً بلحظة ، سوف تذهب الآن إلى مكان آخر مع رجل آخر ، قد يراها ولا يراها . لمعت في ذهنه خاطرة :
_ كل الدموع التي هاجمت العيون في ليالي الشتاء الحزينة ، وكل النحيب في أجساد الأرامل اللواتي كُنَّ ضحاياي ، أنا القاتل الباكي في هذه الساعة . كل الآلام التي سقيتُها للآخرين ، ها أنا ذا أتجرعها رغماً عني . لقد نلتُ نصيبي من الحزن والسعال والنحيب ، ومن سَلَّ سيفَ البغي صُرِع به .