أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل السابع عشر )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
دخلت الراهبة عايدة إلى مخبز اليهودي لشراء الخبز، وما إن رآها اليهودي حتى ظهر الغضب على جوانحه ، وتفشى الضيق الشرس في كل تفاصيل سحنته ، واضطرب تنفسه اضطراباً خانقاً ، وقال :
_ لماذا لم تأتي الراهبة جودي ؟ ، هل هي مريضة ؟ .
_ ليست مريضة ، ولكنها رفضت أن تشتريَ الخبزَ ، فصرتُ أنا المسؤولة عن الشراء .
قال اليهودي في نفسه ، وقد ارتفع مؤشر اكتئابه بشكل جنوني :
_ ألا توجد في الدير راهبة غيرك ؟! .
قطعت عايدة طريق الاكتئاب والقرف على اليهودي ، وقالت :
_ هل تريد أن تبيعني الخبز أم لا تريد ؟ .
_ هاتي المال ، وسأحضر لك الخبز حالاً .
وبعد أن أعطاها الخبز قال لها بكل سذاجة الأطفال :
_ أرجوك قولي لها إنني مستعد لتزويد الدَّير بالخبز مجاناً مدى الحياة مقابل أن تقوم الراهبة جودي بعملية الشراء.. أرجوك قولي لها أن تعود ، فأنا ضائع في هذه البلاد ، والشيء الوحيد الذي كان يعينني على قرف حياتي هو وجهها .
تعجَّبت عايدة من هذا الكلام أيما تعجب ، وقد لاحظت تحجر بعض الدمعات في عيون هذا الرَّجل الذي ظهر ضعيفاً مثيراً للشفقة ، مما جعلها تحزن عليه في قرارة نفسها . ومضت عايدة وهي تتساءل في نفسها عن مغزى هذا الكلام الصادر من خباز بسيط ، وقرَّرت أن تخبر جودي بكل ما حصل بالتفصيل الممل .
وفي الدَّير قامت بقص كل ما حدث على جودي التي ضحكت من أعماق قلبها قبل أن تتوغل في البكاء . وهذا أدى إلى شعور عايدة بالاستغراب وعدم الفهم ، فقالت :
_ أنت تبكين والخباز دمعت عيناه ، ما هو الموضوع بالضبط ؟ .
_ صَدِّقيني يا أختي عايدة ، هذه الدنيا هي مُجَمَّع للمتناقضات . تصوري عدد البشر الذين يبكون خلف كتل الأسمنت المسلَّح ، ولا أحد يشعر بهم . تخيَّلي عدد النساء اللواتي ينتحبن وراء النوافذ الحديدية الباردة ، وكل القاتلين يذهبون مع عشيقاتهم إلى صالة الرقص ، ولا يشعرون بالطفلات اللواتي يمسحن السيارات في ليالي الشتاء ، أو يبعن العلكة على إشارات المرور في مدن التحرش الجنسي . دعيني للبكاء يا أختي لكي أستعيد توازني النفسي الذي ذهب مثلما يذهب كل شيء .
لم تفهم عايدة هذا الكلام الذي أخذ طابعاً فلسفياً معقَّداً بالنسبة إليها إلا أنها كانت تحس بالكلمات دون السيطرة على تدفقات حروفها . وازداد بكاء جودي بينما غادرت عايدة المكان وفي عينيها الدامعتين بلا تفسير منطقي تتزاوج كل أنواع الزواحف المنقرضة .
وفي ذلك المخبز الذي صار مأتماً حقيقياً كان اليهودي يكافح دموعه المنهمرة ، فتارة يمسحها بطرف كمه ، وتارة يتركها حتى تتساقط على الأرض . لم يتوقع قدوم هذه اللحظة ، لم يتصور أن تختفيَ الراهبة جودي بهذه البساطة كأن شيئاً لم يكن . ولم يتخيل نفسه في يوم من الأيام باكياً بسبب امرأة، وهو الذي يعتبر النساء تحصيل حاصل ، كائنات دونية تُباع وتُشترى . لقد سيطر حبها على تفاصيل كيانه . لأول مرة يشعر أنه قلبه يخفق بشدة وبصدق ، فهذا اليهودي لم يشعر بالحب تجاه أي كائن . فهو لا يحب زوجته لأنها فُرِضَت عليه فرضاً، ولا يشعر بأية أحاسيس طبيعية تجاه أبويه . إنه اللامنتمي في عوالم اللاانتماء ، يشعر أن كل شيء صار عبئاً عليه ، وطنه وأسرته ومخبزه وحتى نفسه .
فكَّر أن يذهب إلى الدَّير ويعتذر عن كل ما بدا منه . إنه مستعد أن يُقَبِّل حذاءها مقابل أن تعود لشراء الخبز . ما فائدة المخبز إذا خلا منك يا جودي ؟ . هذه الخواطر حرفياً كانت تقفز في رأسه . ولكنه عاد وأكَّد في نفسه أنها لن تعود أبداً، فهي لم تبادله أي اهتمام في أية فترة من الفترات ، حتى إنها تتصرف وكأنه غير موجود أمامها . وهذا جعل اليهودي يقتنع بأنه شخص هامشي في حياة كل الناس لأنه همَّش أقربَ الناس إليه .
لم يقدر أن يظل في المخبز لأن الاختناق كان ينخر حيطان رئته . قرَّر إغلاقه ، وبينما هو يغلق المخبز جاءه طفلٌ مسرعاً يرتدي ثياباً رثة ، وقال :
_ أريد خبزاً .
_ ألا ترى أني أُغْلِق المخبز ؟! .
_ ولكن أمي وإخواني جائعون ، ماذا سأقول لهم ؟ .
على غير العادة أحس اليهودي بأن عليه مساعدة هذا الطفل البائس ذي العينين الغائرتين ، فامتنع عن إغلاق المخبز مؤقتاً ، وأعطى كمية من الخبز للطفل وسامحه بالمبلغ ، فارتسمت سعادة غامرة على وجه الطفل الذي راح يركض في هذا الشوارع القذرة .
لأول مرة يشعر اليهودي أنه أدخل السعادة على قلب شخص ما . إن هذه التضاريس الفريدة على خارطة حياته غيَّرت فلسفته في الحياة. لم يكن يتصور في يوم من الأيام أن يسامح أحداً ما بثمن الخبز، وهو الذي يمص دم زبائنه حتى آخر قطرة. ها هي عيناه تستسلمان لوخز الدمع ، وتتبعان خطوات ذلك الطفل الذي يقفز في الشارع سعيداً بأنه عاد بالمال . لا بد أن أمه ستفرح كثيراً ، وإخوانه الجوعى الذين يقفزون من الألم والجوع لا بد أن يبتسموا وهم يحدقون في وجوههم الذابلة .
عاد اليهودي إلى بيته بعد أن فقد شهيته في البيع ، فاستقبلته زوجته قائلة :
_ لماذا رجعتَ مبكراً ؟ .
_ لا يوجد بيع ، كما أنني لم أعد قادراً على أن أرى المخبز كله . لقد قرفتُ منه ومن كل ما حولي .
أدركت زوجته أن خطباً كارثياً قد هبط على زوجها ، فهي تعلم أن زوجها يعبد المال أكثر من عبادة أجداده للعجل ، وعودته بهذه الطريقة لا بد أنها تنطويَ على سر غامض . إلا أنها لم ترد أن تدخل معه في نقاش لأنه تعلم طباعه الحادة ، وكلامه البذيء .
ودخل إلى غرفته ، وارتمى على السرير دون أن يُغَيِّر ملابسه . امتزجت رائحة عرقه بطعم شلالات الدموع في عينيه ، وهو يقول في نفسه :
_ لقد ضاع كل شيء ، الوطن ضاع ، جُودي ضاعت ، المخبز ضاع ، أنا وأسرتي أصلاً ضائعون . لم أعد أشعر بأي وجود في هذا المكان ، والأفضل أن نهاجر إلى دولتنا في فلسطين، مع اعتقادي أن كوكب الأرض صار كله مقبرة بالنسبة إلي .
واقتحم عزلةَ النوم السحيقة عارياً من كل أحلام الفراشات الملوَّنة ، وقد بقي حلم الهجرة في رأسه يقفز كالشمعدان المغبر في الكنيس البعيد .
وبعد خمس ساعات أفاق اليهودي لوحده ، وحلم الهجرة إلى فلسطين ما زال ينخر حيطان ذهنه . طلب من ابنته أن تعد شاياً ببطء شديد يصل إلى حد الملل ، لكن الأم استغربت من هذا الطلب، وسعت إلى إعداد الشاي بنفسها إلا أن زوجها قال لها :
_ اتركي راحيل تعد الشاي ، وتعالي لأحدثك بموضوع مهم .
اتخذ الزوجان ركناً قصياً في غرفة الجلوس ، وقال اليهودي بشكل مباغت وقريب إلى الهمس :
_ ما رأيك لو نهاجر إلى فلسطين ونلم شمل العائلة هناك ؟ .
تفاجأت زوجته بهذا الكلام غير المتوقَّع ، وقالت :
_ وماذا عن بيتنا والمخبز ؟ .
_ المخبز سوف أبيعه ، وبيتنا ليس مُلْكاً لنا ، إنه بالإيجار . وليس لنا أقارب في هذا الوطن الذي جعلته حكومتنا مقبرة لكل الشعب. فالحكومة تريد التخلص منا ، ونحن نريد التخلص منها . ونحن هنا لصوص نسرق وطنَ الآخرين ، وفي فلسطين لصوص نسرق وطنَ الآخرين ، يعني لا فرق بين هنا وهناك .
_ ولكن راحيل تعوَّدت على هذا المكان ، وقد تعاني من السفر لأنها لا ترى .
_ ومن قال لك إننا سنأخذ راحيل معنا ؟ .
انكمشت تجاعيد زوجته لما سمعت هذا الكلام ، وتداخلت شرايينها في مدار الرجفة الصاعقة ، وظهر على قسماتها ملامح الريبة وعدم الفهم ، وقالت :
_ ما معنى هذا الكلام ؟ .
_ اسمعيني يا مريانا، واتركي العواطف جانباً. ابنتك العمياء هذه، أنا لا أعترف بوجودها ، فأنا مثل هتلر لا أعترف إلا بالأصحاء الخالين من العاهات والعيوب . وهذه البنت لا نستطيع أن نأخذها معنا لأنها ستكون عبئاً علينا . وأمامنا خياران ، إما أن نجد أحداً ما يتزوجها فيريحنا من قرفها ، أو نتركها في دير الراهبات تعيش معهن وتخدمهن ، فهي في كل الأحوال خادمة ، سواءٌُ في بيتنا أو في بيت زوجها أو الدَّير . ومسألة وضعها في الدَّير بسيطة جداً ، فالراهبة تيريز زعيمة الدَّير ، وهي مستعدة لاستقبال ابنتنا في أي وقت ، فهذا ما قالته لي في يوم من الأيام . ولكني ظللتُ متردداً حتى جاءت ساعة الحسم .
لم تصدق مريانا الذي تسمعه. صحيحٌ أنها تعرف أن زوجها وغد في كل مراحل حياته ، لكنه لم تكن تتصور أن يصل إلى هذا المستوى من الانحطاط ، فقالت بلهجة متصلبة :
_ كيف تريد مني أن أوافقك على بيع ابنتنا الوحيدة ؟ .
_ هذا ليس بيعاً ، نحن لا نرميها في الشارع مع النفايات ، بل نضعها في مكان محترم ، وهي أصلاً لن تظل معنا طوال العمر . لماذا لا نُهَيِّئ مستقبلها دون أن نُدَمِّر حياتها فوق الدمار الذي هي فيه ؟ .
وأردف قائلاً بلهجة تهديدية تحمل كل معاني الابتزاز :
_ واسمعي ما سأقوله وضعيه حلقة في أُذنك ، إن أردتِ أن تبقي مع ابنتك فلا مشكلة ، أنا مستعد أن أتخلص منكما ، وأرتاح من هذا القرف الذي أعيش فيه طوال عمري .. فكِّري في الموضوع ، واقنعي ابنتك ، وأنتما تشربان الشاي معاً ، فأنا خارج من هذه الدار المقرفة لأشم قليلاً من الهواء بعيداً عن قرفك أنتِ وابنتك العمياء .
_ وأين ستذهب ؟ .
_ سأذهب إلى جهنم ، فهي المكان الوحيد الذي يستقبلني دون أن أناقش امرأة جاهلة مثلك .
وفي بقعة مخفية خلف باب المطبخ كانت راحيل تسترق السمع ، وقد اطلعت على الموضوع منذ بدايته حتى نهايته ، وأدركت ما يحاك ضدها ، إلا أنها لم تتأثر كثيراً لأنها تشعر بغربة قاتلة في كل الأماكن ، فقد تساوت في ذهنها كل البقاع لأن الغربة تسيطر على تفاصيل حياتها ، فلم تأخذ الموضوع بتلك الأهمية الكبيرة ، حتى إنها تمنَّت في قرارة نفسها لو تجد رجلاً يتزوجها حتى لو كان بالمجان ، فقط لينقذها من هذا الوضع المؤلم الذي تعيش فيه أو تموت فيه ، فقد صار الأمر سيان .
أحضرت راحيل الشاي إلى غرفة الجلوس حيث أمها جالسة على الكرسي ، والأرض تدور بها كأن دوار البحر المجاور قد امتد نفوذه إليها . أخذت الأم الشاي من ابنتها ، ووضعته على الطاولة ، وهي لا تعرف كيف تفاتح ابنتها بالموضوع ، لكن البنت بعد أن جلست باغتت أمها بالقول :
_ لقد سمعتُ كل ما دار بينكما ، وأنا موافقة على الزواج، أو الذهاب إلى دير الراهبات .
صُدِمَت الأم بهذا الكلام ، وأرسلت بصرها إلى الأرض خجلاً من ابنتها ، إلا أنها قالت وهي لا تعني ما تقول :
_ لن يجبرك أحد على أن تفعلي شيئاً لا تريدينه .
كانت راحيل تعلم أنها أمها لا تملك من الأمر شيئاً ، فقرَّرت أن تكون كبش الفداء لكي تستريح من عذابها ، وتريح أبويها من عذابهما ومشقتهما البالغة ، وهما يعتنيان بفتاة عمياء لا تقدر على الاعتناء بنفسها كما يجب ، فقالت راحيل بشكل فيه إصرار بالغ :
_ قولي لأبي أن يفعل ما يراه مناسباً ، ولن أعارضه نهائياً .
وانطلقت راحيل إلى غرفتها ، والدموع تقتلع أجزاء عينيها اللتين بدتا قفراً موحشاً لا يحمل رائحة الحياة . أرادت أمها أن تلحق بها لكنها تراجعت في اللحظة الأخيرة ، وانكمشت في الضوء الخافت الذي ينخر أخشابَ قفصها الصدري، وهي تتفكر في حال أسرتها الراكضة إلى التلاشي والفراق النهائي .