أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الخامس والعشرون )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
كان الدكتور وائل عمَّاش يشرب الخمر برفقة السفير الأمريكي في منزل الأخير ، ويشاهدان مبارة كرة سلة أمريكية . وفي خضم الاندماج في حركة دوران الكرة على الشاشة قال السفير الأمريكي :
_ ما هي آخر مؤلفاتك ؟ .
_ لدي كتاب فلسفي سَمَّيْتُه " الرد على أرسطو"، سوف أنتهي منه في القريب العاجل .
_ عنوان رائع بالفعل . وعلى أية حال لجنة جائزة نوبل معجبة جداً بروايتك الأخيرة " أحزان مشرقية " ، فقد هاجمتَ الإسلامَ بكل براعة ، وتناولتَ موضوع اضطهاد المرأة الشرقية . وثق تماماً يا دكتور أننا وراءك حتى تحصل على نوبل وكل الجوائز العالمية ، ولكن كما تعلم كلما هاجمتَ الإسلام أكثر ازدادت فرص فوزك بالجائزة . نريد مواضيع عن الإرهاب في القرآن ، ونريد أن نُشَكِّك الناسَ بدينهم . وحاولْ في كتاباتك المقبلة زيادة جرعة الترويج للمشروع الأميركي الديمقراطي في المنطقة .
وتابع يقول وعيناه تزدادان لمعاناً عنيفاً وصادماً :
_ ويسرني أن أقول لك إن الحكومة الأمريكية وقفت وراء فوزك بالجائزة الأدبية الأخيرة تقديراً لخدماتك الجليلة في دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان .
ومضى الاثنان يشربان الويسكي ويأكلان المكسَّرات . كان الدكتور وائل يشرب بنهم شديد على عكس السفير. وفي نهاية اللقاء قرَّر الدكتور المغادرة إلا أنه لم يقدر على الوقوف من شدة السُّكْر، مما جعل السفير يتصل بسائق الدكتور الذي ينتظر في السيارة أمام البيت. أسرع السائق إلى البيت فوجد الدكتور في حالة كارثية ، فساعده بالمشي إلى السيارة ، وانطلقت مسرعةً تحرق إسفلت هذه الشوارع التي تبدو وكأنها بلا نهاية . إنها نفقٌ طويل ، والكل ينتظر الضوء في آخره، ولكن المفاجأة المؤلمة أنه لا يوجد ضوء أصلاً .
أما السفير فصار يُقَلِّب المحطات حتى ثبت على أُغنية لماريا كيري كانت تُعْرَض على قناة أوروبية مُمَوَّلة من رجال أعمال عرب. وفي خضم جحوظ عينيه المسلَّطتين على الأجساد العارية قال وهو يقهقه :
_ هذا الدكتور الأعرابي يَعتقد أن كتاباتِه التافهة ستوصله إلى نوبل . يظن نفسه وليم فوكنر . نحن صنعنا هذه الأعرابي بأموالنا ، وسنهدمه متى نشاء بعد أن تنتهيَ صلاحيته ، ويصبح ورقة محروقة بالنسبة إلينا ، ولن نجعله يأخذ جائزة نوبل حتى لو سجد لنا . فمنح عربيٍّ هذه الجائزة سَيُصَوِّر العربَ كأمة لها حضارة وثقافة وإنجازات ، وهذا ما لا نريده .
ومضى الزمنُ سريعاً كأنه غزال يبقر بطنَ الضباب المقلي بدموع الغيم، ويمضي إلى موته بلا هوية شخصية أو جواز سفر دبلوماسي. واقترب موعد إعلان الفائز بجائزة نوبل للآداب. كل العالَم في ترقب وانتظار صارخ .
كان الدكتور وائل يتابع وسائل الإعلام المحلية والعالمية ، ويتنقل من التلفاز إلى الانترنت ، من أجل الحصول على أي خبر يتعلق بالفائز . حاول الاتصال بالسفير الأمريكي ليعرف مدى فرصه بالفوز ، لكن السفير أغلق هاتفه الخلوي عمداً لأنه لا يريد أن يسمع صوته أو أي شيء عنه .
وجاءت المفاجأة الصاعقة فقد أُعلن الفائز ، وبالطبع لم يكن الدكتور وائل هو ذلك الفائز. أَغلق التلفاز بكل هدوء أعصاب . في تلك اللحظة كان هدوء أعصابه مرعِباً ومستحيلاً . مضى إلى غرفة مكتبه ولم يشعل الضوء. كان على سطح المكتب أوراق كثيرة لم يلمسها منذ أيام . جلس على كرسيه الجلدي الفاخر في هذه العتمة اللاسعة . وأغمض عينيه كأنه يدخل في عوالم الذاكرة المفتوحة على كل احتمالات المستحيل الأزرق. لم يرتجف أي عضو في جسده، فقد كان دماغه يسابق كل أعمدة الكهرباء المغروسة في ذهنه الهارب إلى نهايات خريف المشاعر . ومثلما كانت أعوادُ المشانق تركض إلى أعواد المشانق ، كان جسد الدكتور يركض وهو جالس في مكانه .