التثبيت الإلهي للنبي
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
ينبغي أن لا ننسى بشريةَ النبي صلى الله
عليه وسلم وحاجته إلى التسلية والتثبيت من أجل التخفيف
عنه ، وإعطائه الدعم لمواصلة المسيرة النبوية بكل نجاح وثبات. والله تعالى أعلم
حيث يجعل رسالته ، وهو _ سبحانه _ أعلم بما يعتمل في صدور الأنبياء من ضيق وحزن
بسبب كفر أقوامهم وعنادهم ، وابتعادهم عن طريق الحق . لذلك فهو يؤيدهم ، ويخفف
عنهم ، ويثبتهم على الصراط المستقيم .
قال الله تعالى : (( ولا
يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً يريد الله ألا يجعل لهم
حظاً في الآخرة ولهم عذاب عظيم )) [ آل عمران : 176] .
وهذه الآية تدل على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على
إيمان الناس عبر إنقاذهم من مستنقع الكفر . فليس في الموضوع مصلحة شخصية للنبي صلى
الله عليه وسلم لكي يقول المغرِضون إنه حزين من أجل منفعته الذاتية ، أو فقدان
منصب ، أو خسارة تجارة . بل إن حزنه نابع من إشفاقه على الآخرين ، واهتمامه بعملية
إنقاذهم لكي يصبحوا أفراداً صالحين في الدنيا والآخرة .
وقد خفف الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بعدم الحزن على
الذين يسارعون إلى الكفر ، فهم قد أضاعوا مستقبلهم الأُخْرَوِي ، ولن يضروا الله
شيئاً ، فالله تعالى لا يحتاج إيمانهم ، بل هم الذين يحتاجونه لكي يفوزوا بالخلاص
الأبدي ، أي الفوز بالجنة ، والنجاة من النار . فالطاعة لا تنفع اللهَ تعالى ، كما
أن المعصية لا تضره .
وفي صحيح مسلم( 4/ 1994 ): عن أبي ذر عن النبي
صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله_تبارك وتعالى _ أنه قال : (( يا عبادي إنكم لن
تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم
وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في مُلْكي شيئاً ، يا عبادي لو
أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من مُلْكي شيئاً
)) .
والخطاب القرآني السامي يخفف عن قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك
باستعراض معاناة الأنبياء السابقين _ عليهم الصلاة والسلام _ ، وذكر صبرهم ، وقوة
تحملهم ، ليكون ذلك أقوى دافع إيماني لثبات القلب النبوي على الحق، وعدم الاستسلام
لرياح الحزن والضيق جراء عناد الكافرين . فقال الله تعالى : (( ولقد اسْتُهْزِئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم
ما كانوا به يستهزئون )) [ الأنعام : 10] .
وفي هذه
الآية تسلية للجناب النبوي الشريف ، وبث الروح المعنوية العالية في المنهجية
النبوية الدعوية من أجل الاستمرار في تبليغ الرسالة السماوية كما فعل الرسل
السابقون الذين تحملوا الاستهزاء والأذى والتضييق ، فلم ييأسوا ، ولم يقصِّروا في
حمل الدعوة بكل اقتدار . ونحن نرى أن الخطاب القرآني قد قدّم صورةً بصرية واقعية
لثبات الرسل السابقين ، من أجل زيادة التأثير الإيجابي
الواقعي _ لا المثالي الخيالي _ في النبوة المحمدية .
قال الله تعالى : (( قد نعلم
إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون )) [ الأنعام : 33] .
وفي الشفا للقاضي عياض ( 1/ 28 ) : (( ففي هذه الآية منزع لطيف المأخذ من تسليته
تعالى له عليه السلام ، وإلطافه به في القول بأن قرر عنده أنه صادق عندهم ، وأنهم غير
مكذبين له ، معترفون بصدقه قولاً واعتقاداً . وقد كانوا يسمونه _ قبل النبوة _ الأمين
، فدفع بهذا التقرير ارتماض _ احتراق_ نفسه بسمة الكذب، ثم جعل الذم لهم بتسميتهم جاحدين
ظالمين...فحاشاه من الوصم، وطوقهم بالمعاندة بتكذيب الآيات حقيقةُ الظلم ، إذ الجحد
إنما يكون ممن علم الشيء ثم أنكره ، كقوله تعالى: [ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا
أَنفُسُهُمْ ظُلْمَاً وَعُلُواً ][ النمل : 14] )).
وفي واقع
الأمر إن تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم تكذيبٌ لمن
أرسله ، وجحدٌ بآيات الله تعالى . وتأتي الآية لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم ،
وتخفيف أعباء الحزن على كاهله ، وذلك بإخباره بأن الكافرين يعلمون أنك صادق لكن
العناد دفعهم إلى التكذيب بآيات الله تعالى .
وعن علي _ رضي
الله عنه _ قال : (( قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : قد نعلم يا محمد أنك تصل
الرحم ، وتصدق الحديث ، ولا نكذبك، ولكن نكذب الذي جئتَ به، فأنزل الله _عز وجل _
: [ قد نعلم
إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ] )).
[رواه
الحاكم في المستدرك ( 2/ 345 ) برقم ( 3230 ) وصححه .].
والكفر
عنادٌ وأهواء ومصالح شخصية ، ففطرة الإيمان كامنة في النفوس لكنها تتغطى بفعل
المعاصي والآثام ، وتتفاوت نسب تغطيتها من شخص إلى شخص . فليس عجيباً أن يكون
الكافرُ مؤمناً في قرارة نفسه ، لكن هناك عوامل عديدة تدخل عليه من كل الجهات ،
تجعله يختار طريقَ
الكفر إيثاراً للدنيا على الآخرة ، وتفضيلاً للمتاع
الدنيوي الزائل على نعيم الآخرة السرمدي .
كما أن
المجتمع العربي قبل البعثة المحمدية غارق في عقلية الأمجاد العشائرية ، والعصبية
القبلية ،
والفخر بالأنساب ، وهذا أدى إلى توجيه المسار الفكري
لكثير من الناس نحو الكفر والعناد والأخلاق المذمومة تعصباً للقبيلة ، والتفافاً
حول مكانة العائلة بين قبائل العرب، ومحاولة الحصول على السيادة والمكانة السامية
بين الأُسر الكبيرة التي تمسك بالسياسة والاقتصاد . وهذا الأمر بالغ الحساسية في
المجتمع الجاهلي . فالعرب الجاهليون هم نتاج أيديولوجي لقداسة الصنم الأسطوري
الحاكم على توجهات القبيلة الغارقة في التقاليد البالية بكل نفوذها القاتل ،
والعاداتِ الوثنية بكل إفرازاتها السلبية. فالفرد يظل يدور في مدار مغلق حول
مركزية القبيلة، وهذا يؤدي إلى تغييب العقل الإبداعي النقدي لصالح العقل العشائري
المتخلف ، فتحدث عملية الغرق الجماعي في مستنقع الكفر، والسلوكيات الاجتماعية
المنهارة.
قال أبو جهل
: (( تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا،
حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء
، فمتى ندرك هذه ؟ ، والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه )) .
[تفسير
ابن كثير ( 2/ 176 ) . وانظر الدر المنثور للسيوطي ( 5/ 299) ، وسيرة ابن إسحاق ( 1/ 169 ) ، وتاريخ الإسلام ( 1/ 39 ) ، وسيرة
ابن هشام ( 2/ 157 ) .].
وقد كذّب
الأقوامُ السابقون رسلَهم عناداً ، والتزاماً بالباطل ، وإيثاراً للدنيا الزائلة .
لكن الرسل لا يمكن استفزازهم ، فهم واثقون بأنفسهم لا ينزلون إلى مرتبة السفهاء ،
حيث فحش الكلام والسخرية . ولا يستفزهم طيش الجهال الذين يخلطون الحق بالباطل
استهزاءً بالقضايا الكبرى . لذلك فهم يصبرون واثقين بالخالق تعالى ، ويبلِّغون
الرسالةَ كاملةً بكل اقتدار حتى يأتيَ وعد الله بنصرهم ، وظهورهم على أقوامهم .
فلا يزيد تثبيطُ الكافرين للرسل إلا إصراراً نبوياً أكبر على مواصلة طريق الدعوة
الإسلامية ، وإشفاقاً على هؤلاء الأقوام الذي ضلوا عن الصراط المستقيم نتيجة اتباع
الهوى ، أو الجهل ، أو كلاهما معاً .
إن سطوة
الخرافات الوثنية ونفوذها الصادم في مساحات العقل البشري الجاهلي تؤدي إلى حجب نور
الحقيقة عن اقتحام عزلة العقل الجاهلي ، لأن السلوكيات الاجتماعية الأسطورية
مرجعها إلى سطوة المقدّسات الوهمية ( الأوثان،شيوخ القبائل،مركزية العشائر في الوعي الإنساني ) مما يجعل من الفرد رجع صدى لتاريخ مكسور ،
وغارقاً في الأضداد التي تمنعه من حرية التفكير ، والنقد ، والنقض ، واتخاذا
القرارات الحاسمة .
قال الله
تعالى : (( ولقد كُذبَت رسل من
قبلك فصبروا على ما كُذبوا وأُوذوا حتى أتاهم نصرنا )) [ الأنعام : 34] .
قال ابن
كثير في تفسيره ( 2/ 176 ) : (( هذه تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له فيمن
كذّبه من قومه ، وأمرٌ له بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ، ووعدٌ له بالنصر كما
نُصروا وبالظفر ، حتى كانت لهم العاقبة بعد ما نالهم من التكذيب من قومهم والأذى البليغ،
ثم جاءهم النصر في الدنيا كما لهم النصر في الآخرة )) اهـ.
ومعاداة
الأنبياء مستمرة عبر كل الأطوار الزمنية ، لأن أعداء الشمس في كل زمان ومكان
يعتقدون أن النور يشكل خطراً على مصالحهم الشخصية ، ومكتسباتهم الفئوية ، لأن
النور يفتح العيونَ على الحق ، ويرشد الأذهان إلى ضوء الحقيقة ، ويبني جيلاً
ثورياً رافضاً لكل قيم الباطل ، وهذا قد يجعل العبيد يتمردون على السادة ، فيخسر
السادة نفوذهم ، وتنكشف ألاعيبهم التي خدعوا بها العوام ، لذا لا يمكن أن يكون
الإسلام مخدراً للشعوب ، لأنه الدين السماوي الوحيد ، وهو يمتاز بالانقلابية
والثورية وإعمال العقل للتمييز بين الحق والباطل ، كما أن تعاليمه يتم تطبيقها على
الجميع بغض النظر عن المكانة الاجتماعية ، وهذا يقلق الذين بنوا مجدَهم الوهمي على
جماجم الفقراء والضعفاء ، وقاموا باستعبادهم ملوِّحين بالمال والعصا .
قال الله
تعالى : (( وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك
هادياً ونصيراً )) [
الفرقان : 31] .
وفي ذلك
إشارة إلى معاناة الأنبياء السابقين مع أعدائهم المجرمين الذين لم يقصِّروا في
محاولاتهم الرامية إلى إفساد الدعوة ، وإيذاء الأنبياء ، والتطاول عليهم ، وهذه من
سنن الله تعالى الماضية في الأمم ، وهي جعل لكل نبي عدواً من المجرمين لكي يميز اللهُ
الخبيثَ من الطيب، ويرى صمودَ الأنبياء، ويرفع درجاتهم في الدارين، ويخزيَ أعداءهم
ويردهم نادمين في الدارين . لذلك قال ورقة
بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم : (( لم يأت رجل قط بمثل ما جئتَ به إلا عُودِي
)).
[متفق
عليه. البخاري( 1/ 4) برقم ( 3)، ومسلم ( 1/ 139 ) برقم ( 160 ). ].
وقد أمر
الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالصبر ، وعدم الانجرار وراء طيش
الكافرين وعنادهم ، أو الاستجابة لاستفزازهم ، أوالسقوط في الخفة نتيجة أعمالهم
الشريرة، أو اتباعهم في ضلال أهوائهم ، فالوعد الإلهي بالتمكين والنصر لا يتخلف .
والصبر مفتاح الفَرَج . وقد قال الله تعالى : (( فاصبرْ إن وعد الله حق ولا يَسْتَخِفنك الذين لا يوقنون
)) [
الروم : 60].
والصبر على
الدعوة يبث اليقينَ في صدر النبي صلى الله عليه وسلم ، ويجعله أكثر تماسكاً
وعزيمةً، فلا يحزن على الكافرين لأنهم اختاروا طريقَ النار بملء إرادتهم على الرغم
من المحاولات النبوية الحثيثة لإنقاذهم ، ولكن الذي يرفض إنقاذَ نفسه لا يمكن لأحد
إنقاذه . فلا داعي أن ينزعج النبي صلى الله عليه وسلم
على هؤلاء المعانِدِين، ويتحسر عليهم، ويقتل نفسه حزناً عليهم ، ويتأسف عليهم .
فالنبوة تساعد من يساعد نفسَه، والله لا يهدي القوم إلا إذا كانوا أهلاً
للهداية . وقد قال الله تعالى : (( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون )) [ فاطر : 8].