تنظيم العلاقات المالية في الإسلام
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
1_
اكتساب الأموال :
لم تجيء
الشريعةُ من أجل التضييق على الناس، وحرمانهم من الاستمتاع بمباهج الحياة،
والتلذذِ بالطيبات . والنفسُ البشرية مجبولة على حب المال ، ومَن يَكره المالَ فهو
ذو فِطرة منكوسة . لكنّ الوسطية في التعامل مع المال هي الأساس النظري والفعلي
الذي يُعوّل عليه من أجل بناء مجتمع الخير والعدالة الاجتماعية وليس مجتمع الحقد
والشطط الطبقي .
قال اللهُ
تعالى : (( ليس عليكم جُناحٌ أن تبتغوا فضلاً من ربكم )) [ البقرة : 198] .
والآيةُ
توضِّح جوازَ البيع والتماس الرزق بالتجارة في موسم الحج ، وأن ذلك لا يُنافي
قُدسيةَ الحج وفضيلته الكبرى . ففي أول الحج كانت يتم البيعُ بمنى ومواسم الحج ،
فلمّا نزل القرآنُ خافوا البيعَ . لكنّ الله تعالى أعلمهم بجوازه . وفي هذا دلالةٌ
واضحة على أهمية البيع والتجارة واكتساب المال . فالحجُ ركنُ الإسلام الخامس الذي
يتخلى فيه المرءُ عن علائق الدنيا ويتّصل بالله تعالى واليوم الآخر ، ومع هذا فقد سُمح
فيه للمسلمين بأن يبتغوا فضلاً من ربهم ، ويمارسوا التجارةَ بلا حرجٍ .
وفي صحيح البخاري ( 2/ 628 ) أن ابن عباس _
رضي الله عنهما _ قال : (( كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية ، فلما جاء
الإسلامُ كأنهم كَرهوا ذلك حتى نزلت : [ ليس
عليكم جُناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم ] في مواسم الحج )) .
وقال اللهُ
تعالى : (( وابتغوا من فضل الله )) [ الجمعة : 10] .
وتبرز
أهميةُ طلب الرزق ، وممارسة البيع والشراء . فهذا الفعلُ هو الأساس للاقتصاد
المحرِّك لمفاصل الحياة الاجتماعية .
وقال الحافظ
في الفتح ( 4/ 288) : (( يؤخذ منها مشروعية البيع من طريق عموم ابتغاء الفضل ، لأنه
يشمل التجارة وأنواع التكسب . واخْتُلِف في الأمر المذكور ، فالأكثر على أنه للإباحة،
ونُكتتها _ حُكمتها _ مخالفة أهل الكتاب في منع ذلك يوم السبت ، فلم يُحظَر ذلك على
المسلمين )) اهـ .
والفضلُ
الإلهي شاملٌ لأنواع التكسب والتجارة وكسب المال . وفي هذا مخالفةٌ واضحة لليهود
الذين يَعتبرون السبتَ يوماً مُقدّساً لا يجوز فيه البيع ولا الشراء ، أو ممارسة
النشاطات التجارية . فسُمح فيه للمسلمين أن يمارسوا أعمالهم المالية بلا حرج .
وهنا يتجلى المنهجُ الإسلامي في مخالفة أهل الكتاب ، وتجذير الهوية الإسلامية ذات
السيادة والاستقلالية .
2_ إنفاقها :
قال اللهُ
تعالى : (( وأنفَقوا مما رزقناهم سِراً وعلانيةً )) [ الرعد : 22] .
وهذا المدحُ
الإلهي للذين يُنفِقون في السر والعلانية . ففي كل أحوالهم يُنفِقون مما رزقهم
اللهُ تعالى. فعلى المسلم ألا يكون خادماً للمال ، بل يُخرج من ماله في سُبل الخير
والصلاح . وفي الوضع الطبيعي فإن إخراج المال سراً أفضل ، وإن تعذر ذلك فليكن
علانية ، ولا ينبغي له أن يمتنع عن الإنفاق خوفاً من الرياء . فعليه أن يُخلِص لله
تعالى ، ولا يَلتفت إلى وساوس الشيطان أو كلام الناس .
وقال
البيضاوي في تفسيره ( 1/ 418 ) : (( وقيل : السر في المسنونة ، والعلانية في المفروضة
_ يعني الزكاة _ )) اهـ .
وقد يكون
إنفاقُ المال علانيةً تشجيعاً للآخرين على البذل والعطاء . فعلى المرء أن يَعرف
حاله والأحوال المحيطة به لمعرفة السبيل الأفضل للإنفاق ، السر أو العلانية . وهذا
الأمرُ يختلف من شخص لشخص ، ويتفاوت حسب الزمان والمكان .
ومَن يُنفِق
فإنما يُساعد نفسَه . فاللهُ تعالى غني عن العالَمين . فأعمالُ الخير التي يقوم
بها الإنسانُ تصب في صالحه ، فهو بذلك يحاول إنقاذ مصيره من الهلاك . فلا مجال
للمَن على الله تعالى ، أو المن على الناس .
وقد قال
اللهُ تعالى : (( وأنفِقوا خيراً لأنفسكم )) [ التغابن : 16] .
فهذا
الإنفاقُ يعود بالفائدة على صاحبه في الدنيا والآخرة ، فهو يَعكس حرص الفرد على
نيل رضا الله تعالى ، والنجاةِ من عذابه. كما أن عدم الإنفاق هو وَبال وشر سيُلاحق
المرءَ أينما ذهب . فينبغي للمُمْسِك عن الإنفاق أن يعرف أنه على شفير الهاوية ،
وهو بذلك يُدمِّر نفسه ، ويقضي على مصيره . وكَم من امرئ قضى حياته خادماً للمال
جامعاً له مههوساً به خازناً لورثته ، ثم رحل إلى دار البقاء محروماً ، يُحاسَب
على كل صغيرة وكبيرة . أمّا ورثته فيتمتعون بما خَلّفه من أموال ، وينفقونها في
الحلال والحرام بلا حساب. وبالطبع فإن الإنفاق بحاجة إلى مجهود كبير ، لأن الشيطان
والنفس يُخوِّفان المرءَ من الفقر ، لذلك يتشبث المرءُ بالمال بالأظافر والأسنان
إلا من رحم اللهُ .
وفي جمهرة
خطب العرب ( 1/ 214) أن عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ قال في خُطبة له : (( واعلموا
أن بعض الشح _ يعني البخل _ شُعبةٌ من النفاق ، فأنفقوا خيراً لأنفسكم ، ومن يُوقَ
شُح نفسه فأولئك هم المفلحون )) اهـ .
قال اللهُ
تعالى : (( لِيُنفِقْ ذو سَعَةٍ مِن سَعَته )) [ الطلاق : 7] .
إن الله
تعالى يُعلِّم عبادَه أهميةَ السخاء والإنفاق ، وضرورة إبقاء المال في اليد لا
القلب . ويأمر عبادَه بالإنفاق _ كلاً حسب طاقته _ . والآيةُ متعلقة بإنفاق الزوج
على زوجته وولده الصغير .
والإنفاقُ
من شأنه الحفاظ على الأسرة في ظل الصعوبات الاجتماعية المتعاظمة ، وتوفير
متطلباتها ، والحيلولة دون غرق السفينة الإنسانية في متاهات الحياة . فعلى الموسِر
والمعسِر أن ينفقا _ وفق إمكانياتهما _، بعيداً عن الذرائع ، واختراع الأعذار
الواهية ، والتملص من هذه المسؤولية ومحاولة الالتفاف عليها .
وقال
الواحدي في الوجيز ( ص 1109 ) : (( أمر أهلَ التوسعة أن يوسعوا على نسائهم المرضعات
أولادهن )) اهـ .
3_ الغِنى :
أ _ الأغنياء :
إن الغِنى
اختبارٌ إلهي . فمن الناس من يَنجح فيه ، أمّا الغالبيةُ الساحقة فتفشل في أدائه .
والأغنياءُ ينقسمون إلى فريقَيْن: فريقٌ مؤمن أدى حق الله في مال الله ، وسَخّر
مالَه لإنقاذ الإنسان ، وإعمار الأرض ، ونشر الحق والفضيلة ، ومكافحة الظلم
والفساد . وقِسمٌ كافر جعل مالَه عوناً للشيطان . يستخدم قدراتِه المادية لنشر
الكفر ومحاربة الخير ونشر الضلال بكافة أشكاله . وبالطبع فإن إنفاق المال يستند
إلى المرجعية الفكرية التي يؤمن بها صاحبُ المال . فإذا كان مؤمناً فسوف يَزرع
الدنيا بالخير ليَحصد الخيرَ في الآخرة، وبالتالي يربحهما معاً . أمّا إن كان
كافراً فسوف يَحرق الدنيا ليَحصد سوءَ عمله في الآخرة ، فيخسرهما معاً .
قال اللهُ
تعالى : (( ولا يَأْتلِ أُولو الفضل منكم والسعة أن يُؤتوا أُولى القُربى
والمساكين والمهاجرين في سبيل الله )) [ النور : 22] .
والآيةُ
تدعو إلى الإنفاق على الأقرباء والمساكين والمهاجرين في سبيل الله تعالى ، وعدم
قطع معونتهم. وبدون هذه النفقة سيَغرقون في معاناة كبرى ، إذ إنهم أصحاب مكانة
اجتماعية ضعيفة ، وبحاجة إلى أدنى مساعدة لكي تستمر حياتهم ، ويواصلوا مشوارهم في
هذه الدنيا . وإذا لم يُنفِق الأغنياءُ على الفقراء ، فكيف يتسنى للفقراء أن
يعيشوا بكرامة ؟! . ولا يخفى أن التفاوت الطبقي موجود في كل المجتمعات عبر
التاريخ، ولكن ينبغي للمجتمع أن تتضافر جهودُه بُغية تحقيق التكافل الاجتماعي ،
ومحاربة الفقر بلا هوادة .
أما سببُ
نزول الآية ، فذو علاقة بحادثة الإفك . حيث تم اتهام السيدة عائشة_ رضي الله عنها_
في شرفها. ومن الذين خاضوا في هذا الكلام مسطح بن أثاثة، وهو من المهاجرين
البدريين ، وكان أبو بكر الصديق _ رضي الله عنه _ يُنفِق عليه لقرابته وفقره .
فلما بَرّأ اللهُ تعالى عائشة ، حلف أبو بكر ألا يُنفِق على مسطح شيئاً أبداً بعد
كلامه عن عائشة . فأنزل اللهُ تعالى : [ ولا يَأْتلِ أُولو الفضل منكم والسعة أن
يُؤتوا أُولى القُربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ] الآية.
{ انظر
القصة كاملةً في صحيح البخاري ( 4/ 1774) ، وصحيح مسلم ( 4/ 2129) .}.
وقوله تعالى
: [ ولا يَأْتلِ ] ، يعني : ولا يَحلف . فلا يَنبغي للمرء أن يَحلف على ترك فعل
الخير . فعلى الرغم من أن مسطحاً قد آذى آل أبي بكر في شرفهم ، وهم الذين احتضنوه
، ومَدوا له يد العون والمساعدة ، إلا أن الله تعالى نَبّه على ضرورة صلة الرحم
وإن كانوا مسيئين ، وعدم قطع المعونة عنهم . وهذا يشير إلى المنهج الإسلامي الجليل
في إنقاذ الناس ومساعدتهم روحياً ومادياً ، والتجاوز عن عثراتهم ، وتخليص المجتمع
من الحقد والتنافر . وهذا التسامحُ لا يمكن أن يُوجَد بهذا الشكل في دِينٍ غير
الإسلام .
وإذا
انتقلنا إلى الضفة الأخرى سنجد أن الكافرين يُنفِقون أموالهم لإغواء الناس ،
وتجذيرِ الضلال . وهذه الأموال سوف تكون وبالاً عليهم ، تَبعث فيهم الندمَ يومَ لا
يَنفع الندمُ .
قال اللهُ
تعالى : (( إن الذين كفروا يُنفِقون أموالَهم لِيَصُدوا عن سبيل الله
فَسَيُنفقونها ثم تكون عليهم حَسْرةً ثم يُغلَبون )) [ الأنفال : 36] .
فالكافرون
يُسخّرون أموالهم لمحاربة الله تعالى . فهم يريدون إطفاء نور الحق ، وصرف الناس عن
اتباع الإسلام . وهذه الأموالُ ستذهب أدراج الرياح ، فتكون عليهم ندامة وحسرة ،
لأنها ذَهبت بدون أي فائدة. وسوف يُقهَرون بكل خزي، ولا يُحقِّقون أي انتصار .
وهذه عادة الكافرين في كل زمان ومكان ، إذ إنهم يُحوِّلون النعمَ الإلهية إلى
ويلاتٍ نازلة على رؤوسهم . فالمالُ نعمةٌ جليلة ، لكنهم يَستخدمونه في سبيل
الغواية والضلال .
وفي الدر
المنثور ( 4/ 63 ) : (( وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحكم
بن عتيبة في قوله : [ إن الذين كفروا يُنفِقون أموالَهم لِيَصُدوا عن سبيل الله ]
. قال : نزلت في أبي سفيان ، أنفق على مشركي قريش يوم أُحد أربعين أوقية من ذهب ، وكانت
الأوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالاً من ذهب )) اهـ .
فهذه
الأموالُ المصروفة هدراً من أجل طمس نور الحق، قد عادت وبالاً على أصحابها ،
وعاراً يلاحقهم في كل المحافل . وقد أُنفِقت في سبيل الشيطان بدافع الحمية
الجاهلية والرياء والحفاظ على التقاليد الوثنية للآباء الهالكين . وخاب سعي
الكافرين ، فخسروا أموالَهم ، ولم يُحقِّقوا مرادَهم .
ب _ المترَفون :
قال اللهُ
تعالى : (( ولا تُعجِبكَ أموالُهم وأولادُهم إنما يريد اللهُ أن يُعَذبهم بها في
الدنيا وتَزهقَ أنفسُهم وهم كافرون )) [ التوبة : 85] .
إن أموال
الكافرين وأولادهم زينةٌ ظاهرية سُرعان ما تضمحل وتختفي ، فينبغي عدم الإعجاب بها
، أو الاغترار بهذا اللذة الوهمية التي هي _في واقع الأمر _ نقمة على أصحابها .
فاللهُ تعالى يريد أن يُعذبهم بها في الدنيا فيتعبون في جمعها وحفظها ، ثم يوم
القيامة تكون سبباً في ولوجهم النار لأنهم لم يُؤَدوا حق الله تعالى ، وأعرضوا عن
شريعته رافضين لها ، غير مُقدِّرين للنعم العظيمة التي أسبغها اللهُ عليهم . وقد
كانوا مشغولين بهذه المتعة الوقتية التي كانت استدراجاً فلم يتفكروا في ما بعد
الموت . وسوف يداهمهم الموتُ فجأةً ، فتخرج أرواحهم بشدة بالغة ، ويموتون كافرين .
وهذا إخبار من الله تعالى بأنهم _ مُستقبَلاً _ سيموتون على الكفر . فاللهُ تعالى
يَعلم ما حدث ويحدث وسَيَحدث ، فهو _ تعالى _ خالق الماضي والحاضر والمستقبل ، لا
يَحصره زمانٌ ولا يَحده مكان .
وفي تفسير
الثعالبي ( 2/ 134) : (( قال الفخر : أمّا كَوْن كثرة الأموال والأولاد سببها للعذاب
في الدنيا فحاصل من وجوه منها : أن كلما كان حب الإنسان للشيء أشد وأقوى كان حزنه وتألم
قلبه على فراقه أعظم وأصعب ، ثم عند الموت
يعظم حزنه وتشتد حسرته لمفارقته المحبوب . فالمشغوف بحب المال والولد لا يزال في تعب
فيحتاج في اكتساب الأموال وتحصيلها إلى تعب شديد ومشقة عظيمة ، ثم عند حصولها يحتاج
إلى متاعب أشد وأصعب في حفظها وصَوْنها ، لأن حفظ المال بعد حصوله أصعب من اكتسابه
، ثم أنه لا ينتفع إلا بالقليل من تلك الأموال ، فالتعب كثير والنفع قليل )) اهـ .
وقال اللهُ
تعالى : [ واتبع الذين ظَلموا ما أُترِفوا فيه وكانوا مُجرِمين ] [ هود : 116] .
فهؤلاء
المترَفون اشتغلوا بتحصيل متاع الدنيا ولم يَلتفتوا إلى الآخرة . فأغرفوا أنفسهم
في اللذات مؤثرين دنياهم على آخرتهم . فقد أطغاهم الترفُ وألهاهم عن التفكر فيما
وراء الحياة الدنيا . وكانوا مجرمين بسبب فساد عقائدهم ، وسوء سلوكهم ، وعدم
تقديرهم للنعم الإلهية وأداء شُكرها .
وقال أبو
السعود في تفسيره ( 4/ 247) : (( [ ما أُترِفوا فيه ] أي أُنعموا من الشهوات ، واهتموا
بتحصيلها . أما المباشرون فظاهر ، وأما المساهلون فَلِمَا لهم في ذلك من نيل حظوظهم
الفاسدة )) اهـ .
وكل جريمةٍ
تفرز صنفَيْن من الناس : الأول _ وهو المجرم الذي يباشر العمل بعقله ويده ،
والثاني _ هو الساكت عن الجريمة لأنه يجني أرباحاً من ورائها ، فلا يَريد خسارة
هذه الامتيازات . وهذا المبدأ موجود في كل المجتمعات بغض النظر عن معتقداتها .
وقال اللهُ
تعالى : (( وإذا أردنا أن نُهلك قريةً أمرنا مُترَفيها ففسقوا فيها فحق عليها
القولُ فَدَمرْناها تدميراً )) [ الإسراء : 16] .
إن اللهَ تعالى
أرشد عبادَه إلى طريق سعادتهم ، وأمر المترَفين _ الذين هُم عِلْيةُ القوم وأصحاب
الثروة والسلطة والنفوذ _ بالطاعة والخير . فإذا قال أحدهم أمرتُه فعصاني ،
فيُفهَم من هذا الكلام أن الأمر كان بعكس المعصية . وقوله تعالى : [ أمرنا
مُترَفيها ففسقوا فيها ] يشير إلى أن الأمر كان
بمخالفة الفسق. لكنهم خرجوا عن الأمر الإلهي وانحرفوا عن الصراط المستقيم، فاستحقوا
العذابَ، وحَل بهم الدمار المهلِك . وقد خُص المترَفون بالذكْر لأنهم الرؤساء ، والناسُ
تَبَعٌ لهم .
وقال ابن
كثير في تفسيره ( 3/ 48 ) : (( واختلف المفسرون في معناها . فقيل : معناها أمرنا مترفيها
ففسقوا فيها أمراً قدرياً ... فإن الله لا يأمر بالفحشاء . قالوا : معناه أنه سَخرهم
إلى فعل الفواحش فاستحقوا العذاب. وقيل : معناه أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش فاستحقوا
العقوبة ، رواه ابن جريج عن ابن عباس ، وقاله سعيد بن جبير أيضاً )) اهـ .
ج _ فتنة المال :
إن المال امتحانٌ
صعب . والغالبيةُ الساحقة تفشل في أدائه بسبب عشق النفس البشرية للمال، وهذا أمرٌ
غريزي . وأيضاً بسبب إغراءاته المتعلقة بزينة الحياة الدنيا ، وأهميته في تحريك
مفاصل المجتمع فَوْقياً وتحتياً ، ودوره المحوري في إدارة عجلة الحياة ، إذ إن
الحياة الإنسانية على الأرض لا تستقيم إلا في ظل وجود المال ، وبدونه لن تتحقق
معنى خلافة الله في الأرض ، وإعمارها .
وكثيرٌ من
الناس يَعتبرون أن الفقر _ وَحْدَه _ هو الابتلاء ، أما الغِنى فيعتبرونه نعمةً
مُجرّدة خالية من الابتلاء . وهذا تفكير قاصر . فالغِنى والفقر امتحانان شديدا
الصعوبة . ولن يَثبت فيهما إلا مَن ثَبّته اللهُ تعالى . وكَثيرٌ من الناس يَصبرون
على ابتلاء الشدة ، لكنهم يَسقطون في امتحان الرخاء .
وعن عبد الرحمن
بن عوف _ رضي الله عنه _ قال : (( ابْتُلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضراء
فصبرنا ، ثم ابْتُلينا بالسراء بعده فلم نصبر )).
{ رواه
الترمذي في سُننه ( 4/ 642) برقم ( 2464) ، وقال : (( حديث حسن )) . }.
وهذا مؤشرٌ
واضح على أن السراء ابتلاء يَغفل عنه الكثيرون. فالناسُ في حالة الرخاء تأخذهم
الدنيا بزينتها وبريقها ، ويَذهبون وراء اللذات وألقها الفتان . فالدنيا متاعٌ
زائل جاذب للأبصار خاطف للقلوب . أمّا في حالة الشدة فإن طرقات الدنيا تكون مسدودة
، لكنّ طريق الله تعالى يظل مفتوحةً ، لذلك يَتوجّه الناسُ إلى خالقهم وعبادته .
أمّا إذا فُتحت عليهم الدنيا بكل عنفوانها فعندئذ تَكثر الدروب ، وتتشعب السبل .
ولا يَلجأ إلى طريق الله تعالى إلا القِلة النادرة .
وقال اللهُ
تعالى : (( وإذا أَنعمنا على الإنسان أَعرض ونأى بجانبه )) [ الإسراء : 83] .
فالإنسانُ
في حال النعمة وسعة العيش ورغد الحياة ، فإنه يَنسى صاحبَ النعمة _ سبحانه _ الذي
تَفضّل عليه بهذه العطايا الكبيرة ، ويَركن إلى إمكانياته المادية ، فيُعرِض عن
المنهج الإلهي القويم ، ويبتعد بنفسه عن طريق الله الموصلة إلى النجاة . إذ إنه
يعتمد بالكلية على الأسباب المادية مُعرِضاً عن خالق الأسباب القادر على منحها
وسلبها .
وبالتالي
فالإنسانُ يُعرِّض نفسه للهلاك ، لأنه اغترَّ بنفسه ولم يَرَ أبعد منها، ولم
يَلتزم بمنهج اللهِ واهبِ النعم . وعندئذ تتحول النعمة إلى نقمة بسبب سوء تصرف
الإنسان المغتر بقوته الزائلة ، وقدراته الوهمية ، وإمكانياته الفانية . فينبغي
قراءة التاريخ لمعرفة نهاية الملوك والأغنياء ، وسقوطِ الحضارات التي أُتيح له من
أسباب القوة والثروة الشيء الكثير ، لكنها ذَهبت إلى غير رجعة .
وقال
الثعالبي في تفسيره ( 2/ 357 ) : (( يُحتمَل أن يكون الإنسان عاماً للجنس . فالكافر
يبالغ في الإعراض ، والعاصي يأخذ بحظ منه )) اهـ .
وقال اللهُ
تعالى : (( ولو بَسط اللهُ الرزقَ لعباده لبَغَوا في الأرض ولكن يُنَزل بِقَدَرٍ
ما يَشاء )) [
الشورى : 27] .
فَلَوْ
فُتحت الدنيا على العباد لهلكوا . فحينئذ سوف يَطغى العباد متجاوزين كل الحدود ،
غارقين في النعم الزائلة ، متناسين المنعِم تعالى. واللهُ تعالى يَرزق عبادَه
بمقدار رحمةً بهم ، ولئلا يَسقطوا في أريج زهرة الدنيا فيُضيِّعون آخرتهم .
فالعبادُ قِسْمان : قِسْمٌ لا يُصلحه إلا الغِنى ، وقِسمٌ لا يُصلحه إلا الفقر .
واللهُ خالقُ العباد وأعلمُ بهم منهم ، ويَعلم نقاط قوتهم وضعفهم ، وما يُصلحهم
وما يُفسدهم . كما أن الإنسان قصير النظر لا يَعلم الغيبَ ، ولا يَملك القدرة على
معرفة المستقبل ، فقد يَكون الفقرُ نجاةً له ، والغِنى كارثةً تحل عليه . وقد يكون
العكس . وكما قيل : رُبّ امرئ حَتْفه فيما تمناه .
وعن علي _
رضي الله عنه _ قال : (( ما أصبح بالكوفة أحد إلا ناعم ، إن أدناهم منزلة يَشرب من
ماء الفرات ، ويجلس في الظل ، و يأكل من البُر . وإنما أُنزلت هذه الآية في أصحاب الصفة
[ ولو بَسط اللهُ الرزقَ لعباده لبَغَوا في الأرض ولكن يُنَزل بِقَدَرٍ ما يَشاء ]
. و ذلك أنهم قالوا : لو أن لنا فتمنوا الدنيا )) .
{ رواه
الحاكم في المستدرك ( 2/ 483) برقم ( 3663) وصححه ، ووافقه الذهبي .}.
فالدنيا
زهرةٌ فوّاحة لكن عطرها قاتل للذي أَدمن عليها ، ولم يَنظر إلى ما ورائها . واللهُ
تعالى يَرحم عبادَه فلا يَفتح عليهم الدنيا لئلا يَجرفهم السيلُ المدمِّر . وانظر
_ مثلاً _ إلى نعمة الماء العظيمة واعتماد أشكال الحياة عليها ، ولكن لو فُتح أحد
السدود عن آخره فإنه سَيُهلِك الحرثَ والنسلَ ، ولا يُبقي ولا يَذر ، مع أن الماء
نعمة . لكن قدومه بهذا الشكل المرعِب سوف يُدمِّر كل المنجزات الحضارية والبشرية ،
وعندئذ يصبح الماءُ قاتلاً لا وسيلةً للحياة والازدهار . وكما هو معلوم فإن الأمور
بمآلاتها ونتائجها .
4_
أموال الناس :
قال اللهُ
تعالى : )) وأكْلِهم أموالَ الناس بالباطل )) [ النساء : 161] .
إن أموال
الناس لها حُرمة عظيمة ، وهي مُصانة وفق تعاليم الشريعة . فلا يجوز الاعتداء عليها
بأي شكل ، أو ابتزاز أصحابها من أجل الاستحواذ عليها . ولا يَحِل أخذ مال أحدهم
إلا عن طِيب نفسٍ . كما أن حفظ المال من أهم مقاصد الشريعة . فالمالُ ركيزة الحياة
، ولن تقوم للفرد والجماعة قائمة بدونه . بل إن المرء يُضحِّي بحياته ( أعز ما
يَملك ) من أجل حماية ماله .
فعن عبد
الله بن عمرو _ رضي الله عنهما _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( مَن قُتل دون
ماله فهو شهيد )).
{ متفق
عليه. البخاري ( 2/ 877) برقم ( 2348 ) ، ومسلم ( 1/ 124) برقم ( 141) . }.
فالشخصُ
المقتول دفاعاً عن ماله يُعتبَر في نظر الشريعة شهيداً . وهذا يدل على أهمية المال
الكبرى في الحياة ، ودوره المركزي في قيادة السفينة البشرية نحو بَر الأمان .
وقال
القرطبي في تفسيره ( 3/ 386) : (( ومما يدل على حفظ الأموال ومراعاتها ، إباحة القتال
دونها وعليها )) اهـ .
والآيةُ
السابقة قد فَضحت اليهودَ الذين كانوا يأخذون الرشى في أحكامهم ، ويأكلون أموالَ
الناس بالسبل غير المشروعة . فقد استولَوا على أموال الآخرين بالتحايل ، والوسائل
القذرة ، مستخدمين مهاراتهم في الخداع للاستيلاء على ممتلكات الناس وسحبها من
أيديهم ، مُنتهِكين بذلك حُرمة المال التي لا يجوز هتكها ، أو القفز فوقها بأي شكل
. والشريعةُ الإسلامية ترفض مبدأَ الغاية تُبرِّر الوسيلةَ . فالهدفُ النبيل لا بد
أن تكون الطريقُ إليه نظيفة .
كما أن سلب
الناس أموالهم بغير وجه حق سيؤدي إلى بث النزاعات في المجتمع ، ونشر الحقد وروح
التربص والانتقام . مما يُحوِّل المجتمعَ البشري إلى غابة تسكنها الوحوشُ الضارية
التي تَحتكم إلى حق القوة لا قوة الحق . وبالتالي تنهار قيمُ الحضارة ، وتحل
مكانها قيم التوحش ، وتَسقط الإنسانية لتحل محلها الصفات الحيوانية الغريزية .
وهكذا ينهار المجتمعُ ، وتعم الفوضى ، ولا يعود هناك معنى لحياة الفرد والجماعة .
5_ الأمانة :
إن الحياة
لا تستقيم إلا بتجذير الأخلاق الحميدة ، والعلاقاتِ السوية بين أفراد المجتمع .
فليس المجتمعُ الإنساني غابةً للوحوش يأكل القوي فيها الضعيف، ويتم القتل جهاراً
نهاراً بشكل اعتيادي. فالمجتمع الإنساني كيان راقٍ لا بد أن يُحكَم بالعدل
والمساواة والقيم النبيلة . فالإنسانُ لا يعيش بالخبز وَحْدَه . فهناك غذاءٌ روحي
، وأشواقٌ عابرة لحدود المادة ، وأحلامٌ تتجاوز ضغطَ الواقع ، وذكرياتٌ تَكشف عن
تاريخ الفرد والجماعة . وهذه النظرةُ ليست رومانسيةً هلامية مُجرّدة من المعنى، بل
هي ركيزة أساسية في الواقع البشري. وبدونها فإن الحياة ستفقد جدواها، ويختل
ميزانها .
وللأسف فقد
ارتبطت_في أذهان الكثيرين_ القيمُ النبيلة والمشاعر الراقية بالضعف والسذاجة. وهذا
مرجعه إلى شراسة الواقع المادي وصعوبات العيش . فصار الفردُ آلةً متوحشة تَأكل ولا
تَشبع ، وتَلهث وراء السراب ولا تَصل إلى شيء . وقد حَلّت المعاني المادية الصارمة
محل القيم الروحية ، وتحوّل المجتمع إلى نسق مادي مغلق لا مكان فيه للروحانيات . فصار
الصدقُ سذاجةً ، والأمانةُ غباءً ، والكرمُ تضييعاً للمال ، وحبّ الآخرين ضعفاً ،
والوحدةُ الوطنية شعاراً خيالياً ، والشجاعةُ إهلاكاً للنفس . وفي المقابل صار
الكثيرون يَعتبرون السرقةَ ذكاءً ، وابتزازَ الآخرين بُعدَ نظرٍ ، والخداعَ فهلوةً
... إلخ .
وهذا يشير
إلى اختلال الموازين ، وغرق المجتمع في انتكاسة أخلاقية لها آثار كارثية في كل
مجالات الحياة . ولكنْ لا يَخلو زمنٌ من قائم لله بِحُجّة . وإن الحق لن يُعدَم
ناصراً ، وإن ناصر الحق منصور ، وناصر الباطل مخذول. سواءٌ قَل الناصرون أو كَثروا
. فالخيرُ باقٍ ، والشر سيذهب أدراجَ الرياح، مهما علا صوتُ الشر ، وخَفَت صوتُ
الحق . فَمَن يَضحك أخيراً يَضحك كثيراً ، والعِبرةُ بالخواتيم .
وعن أبي هريرة
_ رضي الله عنه _: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( سيأتي على الناس سُنون
يُصدق فيها الكاذب ، ويُكذب فيها الصادق ، ويُخون فيها الأمين ، ويُؤْتمن فيها الخائن
، ويَنطق فيها الرويبضة )) ، قيل : يا رسول الله ، وما الرويبضة ؟ ، قال : (( السفيه
يتكلم في أمر العامة )).
{ رواه
الحاكم في المستدرك ( 4/ 557 ) برقم ( 8564) وصححه ، ووافقه الذهبي . }.
وهذه
السنواتُ الخدّاعات تعكس حالةَ الانهيار الذي أصاب المجتمعَ الإنساني ، حيث اختلت
القيمُ ، وصارت المعاني معكوسةً ، فضاع الناسُ في متاهة الوهم وغياب الحقيقة ، وأضحى
السفهاء يتصدّرون المجالسَ، ويُحلِّلون الأوضاعَ، ويتكلمون في أمر العامة نقداً
وتشريحاً، ويخترعون حلولاً ، ويُقدِّمون أنفسهم كقادة اجتماعيين قادرين على تحديد
المشكلات وعلاجها . وهذا السقوطُ المريع يشير إلى حجم الانتكاسة التي يَغرق فيها
الفرد والجماعة .
والمنهجُ الإسلامي واضح في تثبيت الأمانة
كركنٍ أساسي في بناء المجتمع الفاضل . فبدون الأمانة سوف تَسقط الثقة بين أفراد
المجتمع ، وتنهار القيمُ الحضارية . لذلك كانت الأمانةُ عنصراً لا غنى عنه في
تكوين شخصية الفرد الواعية، ورسم معالم الهوية المجتمعية على قاعدة الحق والتنمية.
قال اللهُ
تعالى : (( فَلْيُؤَد الذي اؤتُمن أمانته )) [ البقرة : 283] .
وهذا توجيهٌ
إلهي جليل بأهمية تأدية الأمانة وعدم خيانتها . فأداءُ الأمانة يَبعث روح التماسك
الاجتماعي في المجتمع ، ويشيع أجواءَ الثقة بين أفراده ، وهذا الأمر ذو تأثير
إيجابي بالغ على تقدم المجتمع . فلا يَمكن حصول نهضة إنسانية إذا انتشرت الخيانة
واختفت الأمانة . لذلك كانت الأمانةُ أصلاً ثابتاً في مشروع النهضة والازدهار عند
كل الأمم _ بغض النظر عن أديانها _ .
والآيةُ
متعلقة بأداء الديْن على أكمل وجه . فعلى المديون أن يُسدِّد الدّيْنَ الذي عليه ،
ولا يُقصِّر في ذلك . إذ إنه متعلق في ذِمّته في الدنيا والآخرة ، إلا إذا قام
بأدائه ، فعندئذ تبرأ ذِمّته . وتسديدُ الدّيْن هو إعادة الحق لأصحابه الذين
وَثقوا بالمديون. وعليه أن يكون عند حسن ظنهم به.
وقال
البيضاوي في تفسيره ( 1/ 582) : (( سَمّاه أمانة _ أي الدّيْن _ لائتمانه عليه بترك
الارتهان به )) اهـ .
وعن سمرة _ رضي
الله عنه _ : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( على اليد ما أَخذت حتى تُؤَديَه
)).
{ رواه
الحاكم في المستدرك ( 2/ 55) برقم ( 2302 ) وصححه ووافقه الذهبي . }.
فينبغي
تعميق مفهوم الأمانة في المجتمع ، ورَدّها إلى أصحابها من أجل بناء حضارة تحترم
حقوقَ الإنسان ، وتخرجه من مستنقع الحياة المادية المغلقة إلى فضاء القيم النبيلة
. وهنا تبرز ضرورة نشر ثقافة التكافل الاجتماعي ، وتجذير الثقة في المجتمع بعيداً
عن الضغينة والتربص والانتقام . فلا يمكن للمجتمع أن يتحرك إلى الأمام إذا كان
مبنياً على الكراهية ، وانعدام الثقة بين مكوِّناته . ومن الجدير بالذِّكر أن
المجتمع سفينة واحدة_ رغم كل التنوع الإنساني واختلاف الأديان والأعراق _، فإمّا
النجاة معاً ، أو الغرق معاً .
وقال اللهُ
تعالى : (( إن اللهَ يَأمركم أن تُؤَدوا الأماناتِ إلى أهلها )) [ النساء : 58] .
إن هذا
الإرشاد الإلهي يدل على عِظَم شأن الأمانة ، وضرورة تأديتها إلى أصحابها ، سواءٌ
كانوا أبراراً أو فُجّاراً . والآيةُ تشمل جميع الأمانات على اختلافها ، فالأمانةُ
لا تتجزأ ، كما أن الخيانة لا تتجزأ .
وفي الدر
المنثور ( 2/570و571) عن ابن جريج في قوله : [ إن اللهَ يَأمركم أن تُؤَدوا
الأماناتِ إلى أهلها ] قال : (( نَزلت في عثمان بن طلحة . قَبض منه النبي صلى الله
عليه وسلم مفتاحَ الكعبة ، ودخل به البيت يومَ الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية ، فدعا
عثمان ، فدفع إليه المفتاح )) اهـ .
والنبي صلى
الله عليه وسلم هو القُدوة للآخرين . فقد ضرب أروع الأمثلة على أداء الأمانة ،
وردِّها إلى أصحابها . مع أن هذا التصرف النبوي المستند إلى الأمر الإلهي يجيء من
منطلق القوة لا الضعف . وهذا يزيد الأمرَ بهاءً وإجلالاً . فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الفاتحُ المنتصر الذي
لا كلمة تَعلو فوق كلمته ، ومع هذا لم يتكبر على الناس، ولم يأخذه الاغترار بالنصر
والتمكين . وقد أدى الأمانة إلى
مَن هو دونه ( الطرف الأضعف ) عن طِيب
نَفْسٍ ، فلا أحد أكبر من أمر الله تعالى ، ولا أحدٌ يمكنه الاستغناء عن الأجر
الإلهي .
وفي صحيح مسلم ( 4/ 1997 ) عن أبي هريرة _ رضي
الله عنه _: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لَتُؤَدن الحقوقَ إلى أهلها
يوم القيامة ، حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء )) .
وفي هذا
إشارةٌ إلى أهمية الأمانات والحقوق ، وضرورة أدائها إلى أصحابها . ولا يمكن للخائن
أن يُفلِت بفعلته . فإذا أفلت في الدنيا ، ففي الآخرة سوف يجد سوءَ عمله كارثةً
حالة به . حتى إن البهائم سوف يَحصل بينها قصاص وأداء حقوق ، فيُقتَص من القرناء (
التي لها قرن ) لصالح الجلحاء ( التي ليس لها قرن ) . فإذا كان حال البهائم ( غير
المكلّفة شرعاً ) هكذا، فكيف سيكون حال الناس المكلّفين والغارقين في حقوق الناس
بدون وجه حق .
وقال النووي
في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 137 ) : (( وأمّا القصاص من القرناء للجلحاء ، فليس هو
من قصاص التكليف ، إذ لا تكليف عليها ، بل هو قصاص مقابلة )) اهـ .
وعن عبد الله
بن مسعود _ رضي الله عنه _ : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( القتلُ في سبيل
الله يُكفر الذنوبَ كلها_ أو قال _ كل شيء إلا الأمانة ، والأمانة في الصلاة ، والأمانة
في الصوم ، والأمانة في الحديث ، فأشد ذلك الودائع )).
{ رواه
الطبراني ( 10/ 219 ) . وقال الهيثمي في المجمع ( 5/ 532) : (( ورجاله ثقات )) .}.
وهذا يدل
على خطورة تضييع الأمانة، وأنها ملتصقة بالعبد في الدنيا والآخرة ، وستقضي عليه إن
لم يقم بحقها وأدائها على أكمل وجه . كما أن الأمانة لها أشكال متعددة ، وهي
تتواجد في العبادات كالصلاة والصوم . والأمانةُ في العبادات تستلزم أداء العبادات
على أحسن وجه دون تهاون أو تقصير ، وأخذ الأمور التعبدية على محمل الجِد لا الهزل
. كما أن الأمانة في الودائع لها وضعٌ خاص بسبب تعلقها بحقوق العباد . واللهُ
تعالى قَد يَغفر ما بينه وبين العبد ، لكن حقوق الناس لا تَسقط إلا بِرَدِّها إلى
أصحابها أو طلب مسامحتهم . ولا مجال للهرب من هذه الحقوق ، فمَن نجا من المساءلة
في الدنيا لن يَهرب في الآخرة .
وقال اللهُ
تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا اللهَ والرسولَ وتخونوا أماناتِكم )) [
الأنفال : 27] .
إن الخيانة ( عكس الأمانة ) مرتعها وخيم ، وهي
نقطةٌ سوداء في تاريخ الفرد سوف تقضي على مصيره ، وتورده المهالك . وأعظمُ خيانة
هي خيانة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وتتمثل في ترك الفرائض التي شَرَعها
اللهُ تعالى ، ومخالفة السنة النبوية . وهذه الجريمةُ شديدة الخطورة لأنها تعمل
على تدمير المجتمع الإسلامي ، وتعريض حياة المسلمين للخطر ، والقضاء على منجزات
الحضارة الإسلامية وهدمها . كما يتوجب عدم إنقاص الأعمال التي ائتمن اللهُ عليها
العباد .
وقال
القرطبي في تفسيره ( 7/ 346 ) : (( وَسُمِّيت أمانة ، لأنها يؤمن معها من منع الحق
. مأخوذة من الأمن )) اهـ .
أمّا سبب
نزول الآية . ففي زاد المسير لابن الجوزي ( 3/ 343و344) : (( نزلت في أبي لبابة بن
عبد المنذر . وذاك أن النبي صلى الله عليه وسلم لَما حاصر قُريظة سألوه أن يصالحهم
على ما صالح عليه بني النضير على أن يسيروا إلى أرض الشام ، فأبى أن يُعطيَهم ذلك إلا
أن ينزلوا على حكم سعد ابن معاذ فأبوا ، وقالوا : أَرْسِل إلينا أبا لبابة ، وكان مناصحاً
لهم لأن ولده وأهله كانوا عندهم ، فبعثه إليهم ، فقالوا : ما ترى أننزل على حكم سعد
بن معاذ ؟ ، فأشار أبو لبابة بيده إلى حَلْقه ، إنه الذبح ، فلا تفعلوا فأطاعوه ، فكانت
تلك خيانته . قال أبو لبابة : فما زالت قدماي حتى عرفتُ أني قد خنتُ اللهَ ورسوله.
ونزلت هذه الآية . هذا قول ابن عباس والأكثرين )) اهـ.
ومن الضروري
أن ينتبه المسلمُ إلى أقواله وأفعاله لئلا تكون حُجّةً عليه . فأبو لبابة صحابي
جليل ، لكن قَدَمَه قد زَلّت في هذا الموقف ، وأفشى سِراً من أسرار المسلمين
للأعداء . وقد انساق وراء عاطفته ، وسقط ضحيةً للعلاقة الجيدة التي تربطه مع يهود
بني قريظة . وهذه الخيانةُ العظمى لا يمكن تبريرها بأي شكل . إذ إن الرابطة
الدينية لا يعلوه شيء ، وهى أسمى وأجل من علاقات القُربى أو الصداقة ... إلخ . وقد
أدرك أبو لبابة هذا الأمر الشنيع الذي أَقدم عليه ، وندم عليه أشد الندم .
والرجوعُ إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل . ومَن تاب ، تاب اللهُ عليه .
6_ البيع :
قال اللهُ
تعالى : (( وأحل اللهُ البيعَ )) [ البقرة : 275] .
إن العلاقات
المالية هي العمود الفقري للمجتمع ، وهي الضمانة الأكيدة للحراك الاقتصادي
والاجتماعي . وفي هذه المنظومة المالية لا يخفى أهمية البيع والشراء ، فهاتان
العمليتان هما أساس الحركة الاقتصادية على مستوى الأفراد والجماعات . وبما أن
أشكالَ الحياة والأنشطةَ الإنسانية في المجتمع الإسلامي محكومة بالضوابط الشرعية ،
فمن الطبيعي أن تكون التجارةُ منضبطة بالأحكام الدينية من أجل ضمان حقوق الناس ،
ولكي يتساوى الجميع دون تمييز أو استغلال ، ولكي تدور عجلة الاقتصاد دون عوائق . وقد
جعل اللهُ البيعَ حلالاً رحمةً بالعباد ، وأحل الأرباحَ في التجارة . فالشريعةُ لم
تجيء للتضييق على الأفراد ، بل للتوسيع عليهم في أنشطتهم وعلاقاتهم . فالإنسانُ
حُر ما لم يَضُر . وقد رَسمت الشريعةُ حدوداً عامة للعلاقات التجارية لكي يتحرك
الأفراد بحرية بعيداً عن الربا والاحتكار والاستغلال وابتزاز الآخرين ... إلخ .
وقد ذَمّ
الشرعُ التجارَ الذين لا يَلتزمون بالأحكام الشرعية في معاملاتهم المالية .
فيعتمدون مبدأ " الغاية تُبرِّر الوسيلةَ " ، وينتهجون أسلوبَ الحلف
لترويج السلعة ، والكذب من أجل تحقيق الأرباح . وهؤلاء اعتبروا التجارة نظاماً
مفتوحاً بلا ضوابط ، يَغرقون فيه لزيادة أرصدتهم البنكية دون وازع ديني ، أو
اعتبار أخلاقي ، أو تعاطف إنساني .
وعن عبد
الرحمن بن شبل _ رضي الله عنه _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن التجار هم
الفُجار )) ، قالوا : يا رسول الله ، أليس قد أحل اللهُ البيعَ ؟ ، قال : (( بلى ،
ولكنهم يَحلفون فَيَأثمون ، ويُحدثون فَيَكْذبون )).
{ رواه
الحاكم في المستدرك ( 2/ 8 ) برقم ( 2145) وصححه ، ووافقه الذهبي . }.
7_ الكيل والميزان :
قال اللهُ
تعالى : (( فأوفوا الكَيْلَ والميزان ولا تَبخسوا الناسَ أشياءهم )) [ الأعراف :
85] .
إن الغش
والتدليس في المعاملات المالية من سمات الأمم المتخلفة والحضاراتِ الظالمة الآيلة
للسقوط . فمن الواجب إتمام حقوق الناس في الكيل والميزان بلا تطفيف ، وهذا لا
يتأتى إلا وفق العدل والإنصاف وعدم التمييز بينهم . ومن الواجب _ كذلك _ عدم ظلمهم
وسلبهم حقوقهم تحت أية ذريعة كانت . وقد قال اللهُ تعالى : (( ولا تَبخسوا الناسَ
أشياءهم )) للتعميم . فالناسُ كلمةٌ عامة تشمل المؤمن والكافر على السواء . فينبغي
التعامل بالعدل مع الجميع بغض النظر عن أديانهم أو أجناسهم. كما أن قوله تعالى : ((
أشياءهم )) يفيد التعميم ، أي إنهم كانوا يَبخسون الكثير والقليل على حَد سواء ،
ويَعتبرون هذا البخسَ معاملةً مالية أساسية لا غنى عنها . فالتحايلُ عندهم منهجٌ
ثابت ونظامَ حياةٍ ، وليس معاملةً عابرة .
والغش
والخداع ليسا دليلاً للذكاء أو مُبرِّراً لتحقيق الثراء السريع ، بل هما مؤشر على
انتكاسة العقل البشري ، وسقوط الحضارة في فخ الظلم . وكل حضارةٍ تعتمد الظلمَ
شريعةً لها تقامر بوجودها ، وتضع رِجْلها على طريق الانطفاء والنهاية الأليمة .
وقال
القرطبي في تفسيره ( 7/ 221) : (( البخس النقص . وهو يكون في السلعة بالتعييب والتزهيد
فيها ، أو المخادعة عن القيمة ، والاحتيال في التزيد في الكيل والنقصان منه ، وكل ذلك
من أكل المال بالباطل ، وذلك منهي عنه في الأمم المتقدمة والسالفة على ألسنة الرسل
صلوات الله وسلامه على جميعهم )) اهـ .