سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

23‏/11‏/2012

تنظيم العلاقات المالية في الإسلام

تنظيم العلاقات المالية في الإسلام

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .


1_ اكتساب الأموال :
     لم تجيء الشريعةُ من أجل التضييق على الناس، وحرمانهم من الاستمتاع بمباهج الحياة، والتلذذِ بالطيبات . والنفسُ البشرية مجبولة على حب المال ، ومَن يَكره المالَ فهو ذو فِطرة منكوسة . لكنّ الوسطية في التعامل مع المال هي الأساس النظري والفعلي الذي يُعوّل عليه من أجل بناء مجتمع الخير والعدالة الاجتماعية وليس مجتمع الحقد والشطط الطبقي .
     قال اللهُ تعالى : (( ليس عليكم جُناحٌ أن تبتغوا فضلاً من ربكم )) [ البقرة : 198] .
     والآيةُ توضِّح جوازَ البيع والتماس الرزق بالتجارة في موسم الحج ، وأن ذلك لا يُنافي قُدسيةَ الحج وفضيلته الكبرى . ففي أول الحج كانت يتم البيعُ بمنى ومواسم الحج ، فلمّا نزل القرآنُ خافوا البيعَ . لكنّ الله تعالى أعلمهم بجوازه . وفي هذا دلالةٌ واضحة على أهمية البيع والتجارة واكتساب المال . فالحجُ ركنُ الإسلام الخامس الذي يتخلى فيه المرءُ عن علائق الدنيا ويتّصل بالله تعالى واليوم الآخر ، ومع هذا فقد سُمح فيه للمسلمين بأن يبتغوا فضلاً من ربهم ، ويمارسوا التجارةَ بلا حرجٍ .
     وفي صحيح البخاري ( 2/ 628 ) أن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : (( كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية ، فلما جاء الإسلامُ كأنهم كَرهوا ذلك حتى نزلت : [ ليس عليكم جُناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم ] في مواسم الحج )) .
     وقال اللهُ تعالى : (( وابتغوا من فضل الله )) [ الجمعة : 10] .
     وتبرز أهميةُ طلب الرزق ، وممارسة البيع والشراء . فهذا الفعلُ هو الأساس للاقتصاد المحرِّك لمفاصل الحياة الاجتماعية .
     وقال الحافظ في الفتح ( 4/ 288) : (( يؤخذ منها مشروعية البيع من طريق عموم ابتغاء الفضل ، لأنه يشمل التجارة وأنواع التكسب . واخْتُلِف في الأمر المذكور ، فالأكثر على أنه للإباحة، ونُكتتها _ حُكمتها _ مخالفة أهل الكتاب في منع ذلك يوم السبت ، فلم يُحظَر ذلك على المسلمين )) اهـ .
     والفضلُ الإلهي شاملٌ لأنواع التكسب والتجارة وكسب المال . وفي هذا مخالفةٌ واضحة لليهود الذين يَعتبرون السبتَ يوماً مُقدّساً لا يجوز فيه البيع ولا الشراء ، أو ممارسة النشاطات التجارية . فسُمح فيه للمسلمين أن يمارسوا أعمالهم المالية بلا حرج . وهنا يتجلى المنهجُ الإسلامي في مخالفة أهل الكتاب ، وتجذير الهوية الإسلامية ذات السيادة والاستقلالية .
2_ إنفاقها :
     قال اللهُ تعالى : (( وأنفَقوا مما رزقناهم سِراً وعلانيةً )) [ الرعد : 22] .
     وهذا المدحُ الإلهي للذين يُنفِقون في السر والعلانية . ففي كل أحوالهم يُنفِقون مما رزقهم اللهُ تعالى. فعلى المسلم ألا يكون خادماً للمال ، بل يُخرج من ماله في سُبل الخير والصلاح . وفي الوضع الطبيعي فإن إخراج المال سراً أفضل ، وإن تعذر ذلك فليكن علانية ، ولا ينبغي له أن يمتنع عن الإنفاق خوفاً من الرياء . فعليه أن يُخلِص لله تعالى ، ولا يَلتفت إلى وساوس الشيطان أو كلام الناس .
     وقال البيضاوي في تفسيره ( 1/ 418 ) : (( وقيل : السر في المسنونة ، والعلانية في المفروضة _ يعني الزكاة _ )) اهـ .
     وقد يكون إنفاقُ المال علانيةً تشجيعاً للآخرين على البذل والعطاء . فعلى المرء أن يَعرف حاله والأحوال المحيطة به لمعرفة السبيل الأفضل للإنفاق ، السر أو العلانية . وهذا الأمرُ يختلف من شخص لشخص ، ويتفاوت حسب الزمان والمكان .
     ومَن يُنفِق فإنما يُساعد نفسَه . فاللهُ تعالى غني عن العالَمين . فأعمالُ الخير التي يقوم بها الإنسانُ تصب في صالحه ، فهو بذلك يحاول إنقاذ مصيره من الهلاك . فلا مجال للمَن على الله تعالى ، أو المن على الناس . 
     وقد قال اللهُ تعالى : (( وأنفِقوا خيراً لأنفسكم )) [ التغابن : 16] .
     فهذا الإنفاقُ يعود بالفائدة على صاحبه في الدنيا والآخرة ، فهو يَعكس حرص الفرد على نيل رضا الله تعالى ، والنجاةِ من عذابه. كما أن عدم الإنفاق هو وَبال وشر سيُلاحق المرءَ أينما ذهب . فينبغي للمُمْسِك عن الإنفاق أن يعرف أنه على شفير الهاوية ، وهو بذلك يُدمِّر نفسه ، ويقضي على مصيره . وكَم من امرئ قضى حياته خادماً للمال جامعاً له مههوساً به خازناً لورثته ، ثم رحل إلى دار البقاء محروماً ، يُحاسَب على كل صغيرة وكبيرة . أمّا ورثته فيتمتعون بما خَلّفه من أموال ، وينفقونها في الحلال والحرام بلا حساب. وبالطبع فإن الإنفاق بحاجة إلى مجهود كبير ، لأن الشيطان والنفس يُخوِّفان المرءَ من الفقر ، لذلك يتشبث المرءُ بالمال بالأظافر والأسنان إلا من رحم اللهُ .
     وفي جمهرة خطب العرب ( 1/ 214) أن عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ قال في خُطبة له : (( واعلموا أن بعض الشح _ يعني البخل _ شُعبةٌ من النفاق ، فأنفقوا خيراً لأنفسكم ، ومن يُوقَ شُح نفسه فأولئك هم المفلحون )) اهـ . 
     قال اللهُ تعالى : (( لِيُنفِقْ ذو سَعَةٍ مِن سَعَته )) [ الطلاق : 7] .
     إن الله تعالى يُعلِّم عبادَه أهميةَ السخاء والإنفاق ، وضرورة إبقاء المال في اليد لا القلب . ويأمر عبادَه بالإنفاق _ كلاً حسب طاقته _ . والآيةُ متعلقة بإنفاق الزوج على زوجته وولده الصغير .
     والإنفاقُ من شأنه الحفاظ على الأسرة في ظل الصعوبات الاجتماعية المتعاظمة ، وتوفير متطلباتها ، والحيلولة دون غرق السفينة الإنسانية في متاهات الحياة . فعلى الموسِر والمعسِر أن ينفقا _ وفق إمكانياتهما _، بعيداً عن الذرائع ، واختراع الأعذار الواهية ، والتملص من هذه المسؤولية ومحاولة الالتفاف عليها .
     وقال الواحدي في الوجيز ( ص 1109 ) : (( أمر أهلَ التوسعة أن يوسعوا على نسائهم المرضعات أولادهن )) اهـ .
3_ الغِنى :
أ _ الأغنياء :
     إن الغِنى اختبارٌ إلهي . فمن الناس من يَنجح فيه ، أمّا الغالبيةُ الساحقة فتفشل في أدائه . والأغنياءُ ينقسمون إلى فريقَيْن: فريقٌ مؤمن أدى حق الله في مال الله ، وسَخّر مالَه لإنقاذ الإنسان ، وإعمار الأرض ، ونشر الحق والفضيلة ، ومكافحة الظلم والفساد . وقِسمٌ كافر جعل مالَه عوناً للشيطان . يستخدم قدراتِه المادية لنشر الكفر ومحاربة الخير ونشر الضلال بكافة أشكاله . وبالطبع فإن إنفاق المال يستند إلى المرجعية الفكرية التي يؤمن بها صاحبُ المال . فإذا كان مؤمناً فسوف يَزرع الدنيا بالخير ليَحصد الخيرَ في الآخرة، وبالتالي يربحهما معاً . أمّا إن كان كافراً فسوف يَحرق الدنيا ليَحصد سوءَ عمله في الآخرة ، فيخسرهما معاً .
     قال اللهُ تعالى : (( ولا يَأْتلِ أُولو الفضل منكم والسعة أن يُؤتوا أُولى القُربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله )) [ النور : 22] .
     والآيةُ تدعو إلى الإنفاق على الأقرباء والمساكين والمهاجرين في سبيل الله تعالى ، وعدم قطع معونتهم. وبدون هذه النفقة سيَغرقون في معاناة كبرى ، إذ إنهم أصحاب مكانة اجتماعية ضعيفة ، وبحاجة إلى أدنى مساعدة لكي تستمر حياتهم ، ويواصلوا مشوارهم في هذه الدنيا . وإذا لم يُنفِق الأغنياءُ على الفقراء ، فكيف يتسنى للفقراء أن يعيشوا بكرامة ؟! . ولا يخفى أن التفاوت الطبقي موجود في كل المجتمعات عبر التاريخ، ولكن ينبغي للمجتمع أن تتضافر جهودُه بُغية تحقيق التكافل الاجتماعي ، ومحاربة الفقر بلا هوادة .
     أما سببُ نزول الآية ، فذو علاقة بحادثة الإفك . حيث تم اتهام السيدة عائشة_ رضي الله عنها_ في شرفها. ومن الذين خاضوا في هذا الكلام مسطح بن أثاثة، وهو من المهاجرين البدريين ، وكان أبو بكر الصديق _ رضي الله عنه _ يُنفِق عليه لقرابته وفقره . فلما بَرّأ اللهُ تعالى عائشة ، حلف أبو بكر ألا يُنفِق على مسطح شيئاً أبداً بعد كلامه عن عائشة . فأنزل اللهُ تعالى : [ ولا يَأْتلِ أُولو الفضل منكم والسعة أن يُؤتوا أُولى القُربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ] الآية.
{ انظر القصة كاملةً في صحيح البخاري ( 4/ 1774) ، وصحيح مسلم ( 4/ 2129) .}.
     وقوله تعالى : [ ولا يَأْتلِ ] ، يعني : ولا يَحلف . فلا يَنبغي للمرء أن يَحلف على ترك فعل الخير . فعلى الرغم من أن مسطحاً قد آذى آل أبي بكر في شرفهم ، وهم الذين احتضنوه ، ومَدوا له يد العون والمساعدة ، إلا أن الله تعالى نَبّه على ضرورة صلة الرحم وإن كانوا مسيئين ، وعدم قطع المعونة عنهم . وهذا يشير إلى المنهج الإسلامي الجليل في إنقاذ الناس ومساعدتهم روحياً ومادياً ، والتجاوز عن عثراتهم ، وتخليص المجتمع من الحقد والتنافر . وهذا التسامحُ لا يمكن أن يُوجَد بهذا الشكل في دِينٍ غير الإسلام .
     وإذا انتقلنا إلى الضفة الأخرى سنجد أن الكافرين يُنفِقون أموالهم لإغواء الناس ، وتجذيرِ الضلال . وهذه الأموال سوف تكون وبالاً عليهم ، تَبعث فيهم الندمَ يومَ لا يَنفع الندمُ .
     قال اللهُ تعالى : (( إن الذين كفروا يُنفِقون أموالَهم لِيَصُدوا عن سبيل الله فَسَيُنفقونها ثم تكون عليهم حَسْرةً ثم يُغلَبون )) [ الأنفال : 36] .
     فالكافرون يُسخّرون أموالهم لمحاربة الله تعالى . فهم يريدون إطفاء نور الحق ، وصرف الناس عن اتباع الإسلام . وهذه الأموالُ ستذهب أدراج الرياح ، فتكون عليهم ندامة وحسرة ، لأنها ذَهبت بدون أي فائدة. وسوف يُقهَرون بكل خزي، ولا يُحقِّقون أي انتصار . وهذه عادة الكافرين في كل زمان ومكان ، إذ إنهم يُحوِّلون النعمَ الإلهية إلى ويلاتٍ نازلة على رؤوسهم . فالمالُ نعمةٌ جليلة ، لكنهم يَستخدمونه في سبيل الغواية والضلال .
     وفي الدر المنثور ( 4/ 63 ) : (( وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحكم بن عتيبة في قوله : [ إن الذين كفروا يُنفِقون أموالَهم لِيَصُدوا عن سبيل الله ] . قال : نزلت في أبي سفيان ، أنفق على مشركي قريش يوم أُحد أربعين أوقية من ذهب ، وكانت الأوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالاً من ذهب )) اهـ .
     فهذه الأموالُ المصروفة هدراً من أجل طمس نور الحق، قد عادت وبالاً على أصحابها ، وعاراً يلاحقهم في كل المحافل . وقد أُنفِقت في سبيل الشيطان بدافع الحمية الجاهلية والرياء والحفاظ على التقاليد الوثنية للآباء الهالكين . وخاب سعي الكافرين ، فخسروا أموالَهم ، ولم يُحقِّقوا مرادَهم .
ب _ المترَفون :
     قال اللهُ تعالى : (( ولا تُعجِبكَ أموالُهم وأولادُهم إنما يريد اللهُ أن يُعَذبهم بها في الدنيا وتَزهقَ أنفسُهم وهم كافرون )) [ التوبة : 85] .
     إن أموال الكافرين وأولادهم زينةٌ ظاهرية سُرعان ما تضمحل وتختفي ، فينبغي عدم الإعجاب بها ، أو الاغترار بهذا اللذة الوهمية التي هي _في واقع الأمر _ نقمة على أصحابها . فاللهُ تعالى يريد أن يُعذبهم بها في الدنيا فيتعبون في جمعها وحفظها ، ثم يوم القيامة تكون سبباً في ولوجهم النار لأنهم لم يُؤَدوا حق الله تعالى ، وأعرضوا عن شريعته رافضين لها ، غير مُقدِّرين للنعم العظيمة التي أسبغها اللهُ عليهم . وقد كانوا مشغولين بهذه المتعة الوقتية التي كانت استدراجاً فلم يتفكروا في ما بعد الموت . وسوف يداهمهم الموتُ فجأةً ، فتخرج أرواحهم بشدة بالغة ، ويموتون كافرين . وهذا إخبار من الله تعالى بأنهم _ مُستقبَلاً _ سيموتون على الكفر . فاللهُ تعالى يَعلم ما حدث ويحدث وسَيَحدث ، فهو _ تعالى _ خالق الماضي والحاضر والمستقبل ، لا يَحصره زمانٌ ولا يَحده مكان .
     وفي تفسير الثعالبي ( 2/ 134) : (( قال الفخر : أمّا كَوْن كثرة الأموال والأولاد سببها للعذاب في الدنيا فحاصل من وجوه منها : أن كلما كان حب الإنسان للشيء أشد وأقوى كان حزنه وتألم قلبه على فراقه أعظم وأصعب ،  ثم عند الموت يعظم حزنه وتشتد حسرته لمفارقته المحبوب . فالمشغوف بحب المال والولد لا يزال في تعب فيحتاج في اكتساب الأموال وتحصيلها إلى تعب شديد ومشقة عظيمة ، ثم عند حصولها يحتاج إلى متاعب أشد وأصعب في حفظها وصَوْنها ، لأن حفظ المال بعد حصوله أصعب من اكتسابه ، ثم أنه لا ينتفع إلا بالقليل من تلك الأموال ، فالتعب كثير والنفع قليل )) اهـ .
     وقال اللهُ تعالى : [ واتبع الذين ظَلموا ما أُترِفوا فيه وكانوا مُجرِمين ] [ هود : 116] .
     فهؤلاء المترَفون اشتغلوا بتحصيل متاع الدنيا ولم يَلتفتوا إلى الآخرة . فأغرفوا أنفسهم في اللذات مؤثرين دنياهم على آخرتهم . فقد أطغاهم الترفُ وألهاهم عن التفكر فيما وراء الحياة الدنيا . وكانوا مجرمين بسبب فساد عقائدهم ، وسوء سلوكهم ، وعدم تقديرهم للنعم الإلهية وأداء شُكرها .
     وقال أبو السعود في تفسيره ( 4/ 247) : (( [ ما أُترِفوا فيه ] أي أُنعموا من الشهوات ، واهتموا بتحصيلها . أما المباشرون فظاهر ، وأما المساهلون فَلِمَا لهم في ذلك من نيل حظوظهم الفاسدة )) اهـ .
     وكل جريمةٍ تفرز صنفَيْن من الناس : الأول _ وهو المجرم الذي يباشر العمل بعقله ويده ، والثاني _ هو الساكت عن الجريمة لأنه يجني أرباحاً من ورائها ، فلا يَريد خسارة هذه الامتيازات . وهذا المبدأ موجود في كل المجتمعات بغض النظر عن معتقداتها .
     وقال اللهُ تعالى : (( وإذا أردنا أن نُهلك قريةً أمرنا مُترَفيها ففسقوا فيها فحق عليها القولُ فَدَمرْناها تدميراً )) [ الإسراء : 16] .
     إن اللهَ تعالى أرشد عبادَه إلى طريق سعادتهم ، وأمر المترَفين _ الذين هُم عِلْيةُ القوم وأصحاب الثروة والسلطة والنفوذ _ بالطاعة والخير . فإذا قال أحدهم أمرتُه فعصاني ، فيُفهَم من هذا الكلام أن الأمر كان بعكس المعصية . وقوله تعالى : [ أمرنا مُترَفيها ففسقوا فيها ] يشير إلى أن الأمر كان بمخالفة الفسق. لكنهم خرجوا عن الأمر الإلهي وانحرفوا عن الصراط المستقيم، فاستحقوا العذابَ، وحَل بهم الدمار المهلِك . وقد خُص المترَفون بالذكْر لأنهم الرؤساء ، والناسُ تَبَعٌ لهم .
     وقال ابن كثير في تفسيره ( 3/ 48 ) : (( واختلف المفسرون في معناها . فقيل : معناها أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمراً قدرياً ... فإن الله لا يأمر بالفحشاء . قالوا : معناه أنه سَخرهم إلى فعل الفواحش فاستحقوا العذاب. وقيل : معناه أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش فاستحقوا العقوبة ، رواه ابن جريج عن ابن عباس ، وقاله سعيد بن جبير أيضاً )) اهـ .
ج _ فتنة المال :
     إن المال امتحانٌ صعب . والغالبيةُ الساحقة تفشل في أدائه بسبب عشق النفس البشرية للمال، وهذا أمرٌ غريزي . وأيضاً بسبب إغراءاته المتعلقة بزينة الحياة الدنيا ، وأهميته في تحريك مفاصل المجتمع فَوْقياً وتحتياً ، ودوره المحوري في إدارة عجلة الحياة ، إذ إن الحياة الإنسانية على الأرض لا تستقيم إلا في ظل وجود المال ، وبدونه لن تتحقق معنى خلافة الله في الأرض ، وإعمارها .   
     وكثيرٌ من الناس يَعتبرون أن الفقر _ وَحْدَه _ هو الابتلاء ، أما الغِنى فيعتبرونه نعمةً مُجرّدة خالية من الابتلاء . وهذا تفكير قاصر . فالغِنى والفقر امتحانان شديدا الصعوبة . ولن يَثبت فيهما إلا مَن ثَبّته اللهُ تعالى . وكَثيرٌ من الناس يَصبرون على ابتلاء الشدة ، لكنهم يَسقطون في امتحان الرخاء .   
     وعن عبد الرحمن بن عوف _ رضي الله عنه _ قال : (( ابْتُلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضراء فصبرنا ، ثم ابْتُلينا بالسراء بعده فلم نصبر )).
{ رواه الترمذي في سُننه ( 4/ 642) برقم ( 2464) ، وقال : (( حديث حسن )) . }.
     وهذا مؤشرٌ واضح على أن السراء ابتلاء يَغفل عنه الكثيرون. فالناسُ في حالة الرخاء تأخذهم الدنيا بزينتها وبريقها ، ويَذهبون وراء اللذات وألقها الفتان . فالدنيا متاعٌ زائل جاذب للأبصار خاطف للقلوب . أمّا في حالة الشدة فإن طرقات الدنيا تكون مسدودة ، لكنّ طريق الله تعالى يظل مفتوحةً ، لذلك يَتوجّه الناسُ إلى خالقهم وعبادته . أمّا إذا فُتحت عليهم الدنيا بكل عنفوانها فعندئذ تَكثر الدروب ، وتتشعب السبل . ولا يَلجأ إلى طريق الله تعالى إلا القِلة النادرة .
     وقال اللهُ تعالى : (( وإذا أَنعمنا على الإنسان أَعرض ونأى بجانبه )) [ الإسراء : 83] .
     فالإنسانُ في حال النعمة وسعة العيش ورغد الحياة ، فإنه يَنسى صاحبَ النعمة _ سبحانه _ الذي تَفضّل عليه بهذه العطايا الكبيرة ، ويَركن إلى إمكانياته المادية ، فيُعرِض عن المنهج الإلهي القويم ، ويبتعد بنفسه عن طريق الله الموصلة إلى النجاة . إذ إنه يعتمد بالكلية على الأسباب المادية مُعرِضاً عن خالق الأسباب القادر على منحها وسلبها .
     وبالتالي فالإنسانُ يُعرِّض نفسه للهلاك ، لأنه اغترَّ بنفسه ولم يَرَ أبعد منها، ولم يَلتزم بمنهج اللهِ واهبِ النعم . وعندئذ تتحول النعمة إلى نقمة بسبب سوء تصرف الإنسان المغتر بقوته الزائلة ، وقدراته الوهمية ، وإمكانياته الفانية . فينبغي قراءة التاريخ لمعرفة نهاية الملوك والأغنياء ، وسقوطِ الحضارات التي أُتيح له من أسباب القوة والثروة الشيء الكثير ، لكنها ذَهبت إلى غير رجعة .
     وقال الثعالبي في تفسيره ( 2/ 357 ) : (( يُحتمَل أن يكون الإنسان عاماً للجنس . فالكافر يبالغ في الإعراض ، والعاصي يأخذ بحظ منه )) اهـ .
     وقال اللهُ تعالى : (( ولو بَسط اللهُ الرزقَ لعباده لبَغَوا في الأرض ولكن يُنَزل بِقَدَرٍ ما يَشاء ))  [  الشورى : 27] .
     فَلَوْ فُتحت الدنيا على العباد لهلكوا . فحينئذ سوف يَطغى العباد متجاوزين كل الحدود ، غارقين في النعم الزائلة ، متناسين المنعِم تعالى. واللهُ تعالى يَرزق عبادَه بمقدار رحمةً بهم ، ولئلا يَسقطوا في أريج زهرة الدنيا فيُضيِّعون آخرتهم . فالعبادُ قِسْمان : قِسْمٌ لا يُصلحه إلا الغِنى ، وقِسمٌ لا يُصلحه إلا الفقر . واللهُ خالقُ العباد وأعلمُ بهم منهم ، ويَعلم نقاط قوتهم وضعفهم ، وما يُصلحهم وما يُفسدهم . كما أن الإنسان قصير النظر لا يَعلم الغيبَ ، ولا يَملك القدرة على معرفة المستقبل ، فقد يَكون الفقرُ نجاةً له ، والغِنى كارثةً تحل عليه . وقد يكون العكس . وكما قيل : رُبّ امرئ حَتْفه فيما تمناه .
     وعن علي _ رضي الله عنه _ قال : (( ما أصبح بالكوفة أحد إلا ناعم ، إن أدناهم منزلة يَشرب من ماء الفرات ، ويجلس في الظل ، و يأكل من البُر . وإنما أُنزلت هذه الآية في أصحاب الصفة [ ولو بَسط اللهُ الرزقَ لعباده لبَغَوا في الأرض ولكن يُنَزل بِقَدَرٍ ما يَشاء ] . و ذلك أنهم قالوا : لو أن لنا فتمنوا الدنيا )) .
{ رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 483) برقم ( 3663) وصححه ، ووافقه الذهبي .}.
     فالدنيا زهرةٌ فوّاحة لكن عطرها قاتل للذي أَدمن عليها ، ولم يَنظر إلى ما ورائها . واللهُ تعالى يَرحم عبادَه فلا يَفتح عليهم الدنيا لئلا يَجرفهم السيلُ المدمِّر . وانظر _ مثلاً _ إلى نعمة الماء العظيمة واعتماد أشكال الحياة عليها ، ولكن لو فُتح أحد السدود عن آخره فإنه سَيُهلِك الحرثَ والنسلَ ، ولا يُبقي ولا يَذر ، مع أن الماء نعمة . لكن قدومه بهذا الشكل المرعِب سوف يُدمِّر كل المنجزات الحضارية والبشرية ، وعندئذ يصبح الماءُ قاتلاً لا وسيلةً للحياة والازدهار . وكما هو معلوم فإن الأمور بمآلاتها ونتائجها .
4_ أموال الناس :
     قال اللهُ تعالى : )) وأكْلِهم أموالَ الناس بالباطل )) [ النساء : 161] .
     إن أموال الناس لها حُرمة عظيمة ، وهي مُصانة وفق تعاليم الشريعة . فلا يجوز الاعتداء عليها بأي شكل ، أو ابتزاز أصحابها من أجل الاستحواذ عليها . ولا يَحِل أخذ مال أحدهم إلا عن طِيب نفسٍ . كما أن حفظ المال من أهم مقاصد الشريعة . فالمالُ ركيزة الحياة ، ولن تقوم للفرد والجماعة قائمة بدونه . بل إن المرء يُضحِّي بحياته ( أعز ما يَملك ) من أجل حماية ماله .
     فعن عبد الله بن عمرو _ رضي الله عنهما _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( مَن قُتل دون ماله فهو شهيد )).
{ متفق عليه. البخاري ( 2/ 877) برقم ( 2348 ) ، ومسلم ( 1/ 124) برقم ( 141) . }.
     فالشخصُ المقتول دفاعاً عن ماله يُعتبَر في نظر الشريعة شهيداً . وهذا يدل على أهمية المال الكبرى في الحياة ، ودوره المركزي في قيادة السفينة البشرية نحو بَر الأمان .    
     وقال القرطبي في تفسيره ( 3/ 386) : (( ومما يدل على حفظ الأموال ومراعاتها ، إباحة القتال دونها وعليها )) اهـ .
     والآيةُ السابقة قد فَضحت اليهودَ الذين كانوا يأخذون الرشى في أحكامهم ، ويأكلون أموالَ الناس بالسبل غير المشروعة . فقد استولَوا على أموال الآخرين بالتحايل ، والوسائل القذرة ، مستخدمين مهاراتهم في الخداع للاستيلاء على ممتلكات الناس وسحبها من أيديهم ، مُنتهِكين بذلك حُرمة المال التي لا يجوز هتكها ، أو القفز فوقها بأي شكل . والشريعةُ الإسلامية ترفض مبدأَ الغاية تُبرِّر الوسيلةَ . فالهدفُ النبيل لا بد أن تكون الطريقُ إليه نظيفة .
     كما أن سلب الناس أموالهم بغير وجه حق سيؤدي إلى بث النزاعات في المجتمع ، ونشر الحقد وروح التربص والانتقام . مما يُحوِّل المجتمعَ البشري إلى غابة تسكنها الوحوشُ الضارية التي تَحتكم إلى حق القوة لا قوة الحق . وبالتالي تنهار قيمُ الحضارة ، وتحل مكانها قيم التوحش ، وتَسقط الإنسانية لتحل محلها الصفات الحيوانية الغريزية . وهكذا ينهار المجتمعُ ، وتعم الفوضى ، ولا يعود هناك معنى لحياة الفرد والجماعة .
5_ الأمانة :
     إن الحياة لا تستقيم إلا بتجذير الأخلاق الحميدة ، والعلاقاتِ السوية بين أفراد المجتمع . فليس المجتمعُ الإنساني غابةً للوحوش يأكل القوي فيها الضعيف، ويتم القتل جهاراً نهاراً بشكل اعتيادي. فالمجتمع الإنساني كيان راقٍ لا بد أن يُحكَم بالعدل والمساواة والقيم النبيلة . فالإنسانُ لا يعيش بالخبز وَحْدَه . فهناك غذاءٌ روحي ، وأشواقٌ عابرة لحدود المادة ، وأحلامٌ تتجاوز ضغطَ الواقع ، وذكرياتٌ تَكشف عن تاريخ الفرد والجماعة . وهذه النظرةُ ليست رومانسيةً هلامية مُجرّدة من المعنى، بل هي ركيزة أساسية في الواقع البشري. وبدونها فإن الحياة ستفقد جدواها، ويختل ميزانها .
     وللأسف فقد ارتبطت_في أذهان الكثيرين_ القيمُ النبيلة والمشاعر الراقية بالضعف والسذاجة. وهذا مرجعه إلى شراسة الواقع المادي وصعوبات العيش . فصار الفردُ آلةً متوحشة تَأكل ولا تَشبع ، وتَلهث وراء السراب ولا تَصل إلى شيء . وقد حَلّت المعاني المادية الصارمة محل القيم الروحية ، وتحوّل المجتمع إلى نسق مادي مغلق لا مكان فيه للروحانيات . فصار الصدقُ سذاجةً ، والأمانةُ غباءً ، والكرمُ تضييعاً للمال ، وحبّ الآخرين ضعفاً ، والوحدةُ الوطنية شعاراً خيالياً ، والشجاعةُ إهلاكاً للنفس . وفي المقابل صار الكثيرون يَعتبرون السرقةَ ذكاءً ، وابتزازَ الآخرين بُعدَ نظرٍ ، والخداعَ فهلوةً ... إلخ .
     وهذا يشير إلى اختلال الموازين ، وغرق المجتمع في انتكاسة أخلاقية لها آثار كارثية في كل مجالات الحياة . ولكنْ لا يَخلو زمنٌ من قائم لله بِحُجّة . وإن الحق لن يُعدَم ناصراً ، وإن ناصر الحق منصور ، وناصر الباطل مخذول. سواءٌ قَل الناصرون أو كَثروا . فالخيرُ باقٍ ، والشر سيذهب أدراجَ الرياح، مهما علا صوتُ الشر ، وخَفَت صوتُ الحق . فَمَن يَضحك أخيراً يَضحك كثيراً ، والعِبرةُ بالخواتيم .
     وعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( سيأتي على الناس سُنون يُصدق فيها الكاذب ، ويُكذب فيها الصادق ، ويُخون فيها الأمين ، ويُؤْتمن فيها الخائن ، ويَنطق فيها الرويبضة )) ، قيل : يا رسول الله ، وما الرويبضة ؟ ، قال : (( السفيه يتكلم في أمر العامة )).
{ رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 557 ) برقم ( 8564) وصححه ، ووافقه الذهبي . }.
     وهذه السنواتُ الخدّاعات تعكس حالةَ الانهيار الذي أصاب المجتمعَ الإنساني ، حيث اختلت القيمُ ، وصارت المعاني معكوسةً ، فضاع الناسُ في متاهة الوهم وغياب الحقيقة ، وأضحى السفهاء يتصدّرون المجالسَ، ويُحلِّلون الأوضاعَ، ويتكلمون في أمر العامة نقداً وتشريحاً، ويخترعون حلولاً ، ويُقدِّمون أنفسهم كقادة اجتماعيين قادرين على تحديد المشكلات وعلاجها . وهذا السقوطُ المريع يشير إلى حجم الانتكاسة التي يَغرق فيها الفرد والجماعة .
     والمنهجُ الإسلامي واضح في تثبيت الأمانة كركنٍ أساسي في بناء المجتمع الفاضل . فبدون الأمانة سوف تَسقط الثقة بين أفراد المجتمع ، وتنهار القيمُ الحضارية . لذلك كانت الأمانةُ عنصراً لا غنى عنه في تكوين شخصية الفرد الواعية، ورسم معالم الهوية المجتمعية على قاعدة الحق والتنمية.
     قال اللهُ تعالى : (( فَلْيُؤَد الذي اؤتُمن أمانته )) [ البقرة : 283] .
     وهذا توجيهٌ إلهي جليل بأهمية تأدية الأمانة وعدم خيانتها . فأداءُ الأمانة يَبعث روح التماسك الاجتماعي في المجتمع ، ويشيع أجواءَ الثقة بين أفراده ، وهذا الأمر ذو تأثير إيجابي بالغ على تقدم المجتمع . فلا يَمكن حصول نهضة إنسانية إذا انتشرت الخيانة واختفت الأمانة . لذلك كانت الأمانةُ أصلاً ثابتاً في مشروع النهضة والازدهار عند كل الأمم _ بغض النظر عن أديانها _ .
     والآيةُ متعلقة بأداء الديْن على أكمل وجه . فعلى المديون أن يُسدِّد الدّيْنَ الذي عليه ، ولا يُقصِّر في ذلك . إذ إنه متعلق في ذِمّته في الدنيا والآخرة ، إلا إذا قام بأدائه ، فعندئذ تبرأ ذِمّته . وتسديدُ الدّيْن هو إعادة الحق لأصحابه الذين وَثقوا بالمديون. وعليه أن يكون عند حسن ظنهم به.
     وقال البيضاوي في تفسيره ( 1/ 582) : (( سَمّاه أمانة _ أي الدّيْن _ لائتمانه عليه بترك الارتهان به )) اهـ .
     وعن سمرة _ رضي الله عنه _ : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( على اليد ما أَخذت حتى تُؤَديَه )).
{ رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 55) برقم ( 2302 ) وصححه ووافقه الذهبي . }.
     فينبغي تعميق مفهوم الأمانة في المجتمع ، ورَدّها إلى أصحابها من أجل بناء حضارة تحترم حقوقَ الإنسان ، وتخرجه من مستنقع الحياة المادية المغلقة إلى فضاء القيم النبيلة . وهنا تبرز ضرورة نشر ثقافة التكافل الاجتماعي ، وتجذير الثقة في المجتمع بعيداً عن الضغينة والتربص والانتقام . فلا يمكن للمجتمع أن يتحرك إلى الأمام إذا كان مبنياً على الكراهية ، وانعدام الثقة بين مكوِّناته . ومن الجدير بالذِّكر أن المجتمع سفينة واحدة_ رغم كل التنوع الإنساني واختلاف الأديان والأعراق _، فإمّا النجاة معاً ، أو الغرق معاً .
     وقال اللهُ تعالى : (( إن اللهَ يَأمركم أن تُؤَدوا الأماناتِ إلى أهلها )) [ النساء : 58] .
     إن هذا الإرشاد الإلهي يدل على عِظَم شأن الأمانة ، وضرورة تأديتها إلى أصحابها ، سواءٌ كانوا أبراراً أو فُجّاراً . والآيةُ تشمل جميع الأمانات على اختلافها ، فالأمانةُ لا تتجزأ ، كما أن الخيانة لا تتجزأ .
     وفي الدر المنثور ( 2/570و571) عن ابن جريج في قوله : [ إن اللهَ يَأمركم أن تُؤَدوا الأماناتِ إلى أهلها ] قال : (( نَزلت في عثمان بن طلحة . قَبض منه النبي صلى الله عليه وسلم مفتاحَ الكعبة ، ودخل به البيت يومَ الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية ، فدعا عثمان ، فدفع إليه المفتاح )) اهـ .
     والنبي صلى الله عليه وسلم هو القُدوة للآخرين . فقد ضرب أروع الأمثلة على أداء الأمانة ، وردِّها إلى أصحابها . مع أن هذا التصرف النبوي المستند إلى الأمر الإلهي يجيء من منطلق القوة لا الضعف . وهذا يزيد الأمرَ بهاءً وإجلالاً . فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الفاتحُ المنتصر الذي لا كلمة تَعلو فوق كلمته ، ومع هذا لم يتكبر على الناس، ولم يأخذه الاغترار بالنصر والتمكين . وقد أدى الأمانة إلى مَن هو دونه  ( الطرف الأضعف ) عن طِيب نَفْسٍ ، فلا أحد أكبر من أمر الله تعالى ، ولا أحدٌ يمكنه الاستغناء عن الأجر الإلهي .  
     وفي صحيح مسلم ( 4/ 1997 ) عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لَتُؤَدن الحقوقَ إلى أهلها يوم القيامة ، حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء )) .
     وفي هذا إشارةٌ إلى أهمية الأمانات والحقوق ، وضرورة أدائها إلى أصحابها . ولا يمكن للخائن أن يُفلِت بفعلته . فإذا أفلت في الدنيا ، ففي الآخرة سوف يجد سوءَ عمله كارثةً حالة به . حتى إن البهائم سوف يَحصل بينها قصاص وأداء حقوق ، فيُقتَص من القرناء ( التي لها قرن ) لصالح الجلحاء ( التي ليس لها قرن ) . فإذا كان حال البهائم ( غير المكلّفة شرعاً ) هكذا، فكيف سيكون حال الناس المكلّفين والغارقين في حقوق الناس بدون وجه حق .
     وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 137 ) : (( وأمّا القصاص من القرناء للجلحاء ، فليس هو من قصاص التكليف ، إذ لا تكليف عليها ، بل هو قصاص مقابلة )) اهـ .
     وعن عبد الله بن مسعود _ رضي الله عنه _ : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( القتلُ في سبيل الله يُكفر الذنوبَ كلها_ أو قال _ كل شيء إلا الأمانة ، والأمانة في الصلاة ، والأمانة في الصوم ، والأمانة في الحديث ، فأشد ذلك الودائع )).
{ رواه الطبراني ( 10/ 219 ) . وقال الهيثمي في المجمع ( 5/ 532) : (( ورجاله ثقات )) .}.
     وهذا يدل على خطورة تضييع الأمانة، وأنها ملتصقة بالعبد في الدنيا والآخرة ، وستقضي عليه إن لم يقم بحقها وأدائها على أكمل وجه . كما أن الأمانة لها أشكال متعددة ، وهي تتواجد في العبادات كالصلاة والصوم . والأمانةُ في العبادات تستلزم أداء العبادات على أحسن وجه دون تهاون أو تقصير ، وأخذ الأمور التعبدية على محمل الجِد لا الهزل . كما أن الأمانة في الودائع لها وضعٌ خاص بسبب تعلقها بحقوق العباد . واللهُ تعالى قَد يَغفر ما بينه وبين العبد ، لكن حقوق الناس لا تَسقط إلا بِرَدِّها إلى أصحابها أو طلب مسامحتهم . ولا مجال للهرب من هذه الحقوق ، فمَن نجا من المساءلة في الدنيا لن يَهرب في الآخرة .
     وقال اللهُ تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا اللهَ والرسولَ وتخونوا أماناتِكم )) [ الأنفال : 27] .
     إن الخيانة ( عكس الأمانة ) مرتعها وخيم ، وهي نقطةٌ سوداء في تاريخ الفرد سوف تقضي على مصيره ، وتورده المهالك . وأعظمُ خيانة هي خيانة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وتتمثل في ترك الفرائض التي شَرَعها اللهُ تعالى ، ومخالفة السنة النبوية . وهذه الجريمةُ شديدة الخطورة لأنها تعمل على تدمير المجتمع الإسلامي ، وتعريض حياة المسلمين للخطر ، والقضاء على منجزات الحضارة الإسلامية وهدمها . كما يتوجب عدم إنقاص الأعمال التي ائتمن اللهُ عليها العباد .
     وقال القرطبي في تفسيره ( 7/ 346 ) : (( وَسُمِّيت أمانة ، لأنها يؤمن معها من منع الحق . مأخوذة من الأمن )) اهـ .
     أمّا سبب نزول الآية . ففي زاد المسير لابن الجوزي ( 3/ 343و344) : (( نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر . وذاك أن النبي صلى الله عليه وسلم لَما حاصر قُريظة سألوه أن يصالحهم على ما صالح عليه بني النضير على أن يسيروا إلى أرض الشام ، فأبى أن يُعطيَهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد ابن معاذ فأبوا ، وقالوا : أَرْسِل إلينا أبا لبابة ، وكان مناصحاً لهم لأن ولده وأهله كانوا عندهم ، فبعثه إليهم ، فقالوا : ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ ؟ ، فأشار أبو لبابة بيده إلى حَلْقه ، إنه الذبح ، فلا تفعلوا فأطاعوه ، فكانت تلك خيانته . قال أبو لبابة : فما زالت قدماي حتى عرفتُ أني قد خنتُ اللهَ ورسوله. ونزلت هذه الآية . هذا قول ابن عباس والأكثرين )) اهـ.
     ومن الضروري أن ينتبه المسلمُ إلى أقواله وأفعاله لئلا تكون حُجّةً عليه . فأبو لبابة صحابي جليل ، لكن قَدَمَه قد زَلّت في هذا الموقف ، وأفشى سِراً من أسرار المسلمين للأعداء . وقد انساق وراء عاطفته ، وسقط ضحيةً للعلاقة الجيدة التي تربطه مع يهود بني قريظة . وهذه الخيانةُ العظمى لا يمكن تبريرها بأي شكل . إذ إن الرابطة الدينية لا يعلوه شيء ، وهى أسمى وأجل من علاقات القُربى أو الصداقة ... إلخ . وقد أدرك أبو لبابة هذا الأمر الشنيع الذي أَقدم عليه ، وندم عليه أشد الندم . والرجوعُ إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل . ومَن تاب ، تاب اللهُ عليه .
6_ البيع :
     قال اللهُ تعالى : (( وأحل اللهُ البيعَ )) [ البقرة : 275] .
     إن العلاقات المالية هي العمود الفقري للمجتمع ، وهي الضمانة الأكيدة للحراك الاقتصادي والاجتماعي . وفي هذه المنظومة المالية لا يخفى أهمية البيع والشراء ، فهاتان العمليتان هما أساس الحركة الاقتصادية على مستوى الأفراد والجماعات . وبما أن أشكالَ الحياة والأنشطةَ الإنسانية في المجتمع الإسلامي محكومة بالضوابط الشرعية ، فمن الطبيعي أن تكون التجارةُ منضبطة بالأحكام الدينية من أجل ضمان حقوق الناس ، ولكي يتساوى الجميع دون تمييز أو استغلال ، ولكي تدور عجلة الاقتصاد دون عوائق . وقد جعل اللهُ البيعَ حلالاً رحمةً بالعباد ، وأحل الأرباحَ في التجارة . فالشريعةُ لم تجيء للتضييق على الأفراد ، بل للتوسيع عليهم في أنشطتهم وعلاقاتهم . فالإنسانُ حُر ما لم يَضُر . وقد رَسمت الشريعةُ حدوداً عامة للعلاقات التجارية لكي يتحرك الأفراد بحرية بعيداً عن الربا والاحتكار والاستغلال وابتزاز الآخرين ... إلخ .
     وقد ذَمّ الشرعُ التجارَ الذين لا يَلتزمون بالأحكام الشرعية في معاملاتهم المالية . فيعتمدون مبدأ " الغاية تُبرِّر الوسيلةَ " ، وينتهجون أسلوبَ الحلف لترويج السلعة ، والكذب من أجل تحقيق الأرباح . وهؤلاء اعتبروا التجارة نظاماً مفتوحاً بلا ضوابط ، يَغرقون فيه لزيادة أرصدتهم البنكية دون وازع ديني ، أو اعتبار أخلاقي ، أو تعاطف إنساني .
     وعن عبد الرحمن بن شبل _ رضي الله عنه _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن التجار هم الفُجار )) ، قالوا : يا رسول الله ، أليس قد أحل اللهُ البيعَ ؟ ، قال : (( بلى ، ولكنهم يَحلفون فَيَأثمون ، ويُحدثون فَيَكْذبون )).
{ رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 8 ) برقم ( 2145) وصححه ، ووافقه الذهبي . }.
7_ الكيل والميزان :
     قال اللهُ تعالى : (( فأوفوا الكَيْلَ والميزان ولا تَبخسوا الناسَ أشياءهم )) [ الأعراف : 85] .
     إن الغش والتدليس في المعاملات المالية من سمات الأمم المتخلفة والحضاراتِ الظالمة الآيلة للسقوط . فمن الواجب إتمام حقوق الناس في الكيل والميزان بلا تطفيف ، وهذا لا يتأتى إلا وفق العدل والإنصاف وعدم التمييز بينهم . ومن الواجب _ كذلك _ عدم ظلمهم وسلبهم حقوقهم تحت أية ذريعة كانت . وقد قال اللهُ تعالى : (( ولا تَبخسوا الناسَ أشياءهم )) للتعميم . فالناسُ كلمةٌ عامة تشمل المؤمن والكافر على السواء . فينبغي التعامل بالعدل مع الجميع بغض النظر عن أديانهم أو أجناسهم. كما أن قوله تعالى : (( أشياءهم )) يفيد التعميم ، أي إنهم كانوا يَبخسون الكثير والقليل على حَد سواء ، ويَعتبرون هذا البخسَ معاملةً مالية أساسية لا غنى عنها . فالتحايلُ عندهم منهجٌ ثابت ونظامَ حياةٍ ، وليس معاملةً عابرة . 
     والغش والخداع ليسا دليلاً للذكاء أو مُبرِّراً لتحقيق الثراء السريع ، بل هما مؤشر على انتكاسة العقل البشري ، وسقوط الحضارة في فخ الظلم . وكل حضارةٍ تعتمد الظلمَ شريعةً لها تقامر بوجودها ، وتضع رِجْلها على طريق الانطفاء والنهاية الأليمة .
     وقال القرطبي في تفسيره ( 7/ 221) : (( البخس النقص . وهو يكون في السلعة بالتعييب والتزهيد فيها ، أو المخادعة عن القيمة ، والاحتيال في التزيد في الكيل والنقصان منه ، وكل ذلك من أكل المال بالباطل ، وذلك منهي عنه في الأمم المتقدمة والسالفة على ألسنة الرسل صلوات الله وسلامه على جميعهم )) اهـ .