تعليمات حربية في الإسلام
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
http://www.facebook.com/abuawwad1982
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
1_
نظام الجهاد وقانونه :
إن الجهاد
ليس قتلاً فوضوياً سادياً بدافع الشهوة والغريزة ، أو عملاً هجمياً بدائياً . إنه
نظام حياة متكامل له منهجه الفكري المقدّس في نشر منظومة الصلاح والإصلاح في النفس
البشرية وعلى الأرض. وللجهادٌ نظام متماسك يُميِّز بين الكافر الحربي وغير الحربي،
والعسكريين والمدنيين، وله ضوابط متعددة مثل إجراء الأحكام بحسب الظاهر ، ومنع
الهروب من المعركة ، والتعامل وفق أخلاقيات الحرب .
قال الله
تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا إذا ضَرَبْتُم في سبيل الله فَتَبَينوا
ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلامَ لَسْتَ مُؤمناً تبتغون عَرَضَ الحياة الدنيا ))[ النساء : 94] .
وهذه الآيةُ
الشريفة تتضمن أحد قوانين الجهاد وهو البناء على اليقين ، والحكم وفق الظاهر .
فاللهُ تعالى يأمر المؤمنين إذا مضوا إلى الجهاد أن يَتبينوا فيُميزوا المؤمن من
الكافر ، ويبنوا أحكامَهم على اليقين لا الشبهات . وعليهم أن لا يُقدِموا على قتل
أحد إلا إذا علموا أنه كافر محارِب . فقتلُ النفس البشرية عملية غير سهلة ، وينبغي
أن تكون مبنيةً على أحكام واضحة مستمدة من الشريعة الإلهية .
والحكمُ على
الظاهر يستلزم عدم التفتيش عن النوايا . فمن ألقى السلامَ يُعامَل كمسلم معصوم
الدم ، لأن السلام هي التحية المتعارفة عليها بين المسلمين ، ولا يجوز البحث في
القلوب والدوافع ، وهل ألقى السلامَ خوفاً من القتل أو صادقاً في كلامه ؟ . كما لا
يجوز رفض سلامَه طمعاً في قتله لأخذ ماله وباقي ممتلكاته .
وفي صحيح
البخاري ( 4/ 1677 ): عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ : _ [ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلامَ لَسْتَ مُؤمناً ] . قال : (( كان رَجل في
غنيمة له _ قطيع صغير من الغنم _ فلحقه المسلمون ، فقال : السلام عليكم ، فقتلوه وأخذوا
غنيمته )) .
قال
الشوكاني في فتح القدير ( 1/ 756 ) : (( وقد اسْتُدِل
بهذه الآية على أن من قتل كافراً بعد أن قال لا إله إلا الله قُتل به ، لأنه قد عَصم
بهذه الكلمة دَمَه ومالَه وأهلَه ، وإنما سقط القتلُ عَمّن وقع منه ذلك في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم لأنهم تَأَولوا ، وظنوا أن من قالها خوفاً من السلاح لا يكون مسلماً
ولا يصير بها دمه معصوماً ، وأنه لا بد من أن يقول هذه الكلمة وهو مطمئن غير خائف
. وفي حكم التكلم بكلمة الإسلام إظهار الانقياد بأن يقول : أنا مسلم ، أو أنا على دينكم
، لما عَرفتَ من أن معنى الآية الاستسلامُ والانقياد، وهو يحصل بكل ما يُشعِر بالإسلام
مِن قول أو فعل، ومن جملة ذلك كلمة الشهادة وكلمة التسليم )) اهـ .
وفي صحيح مسلم ( 1/ 96 ): عن
أسامة بن زيد _ رضي الله عنهما _ قال : بَعَثَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَرِية
فصبحنا الحرقات من جهينة_وصلنا صباحاً إلى منطقة الحرقات _ فأدركتُ رَجلاً فقال: لا
إله إلا الله، فطعنتُه، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرتُه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أقال لا إله إلا الله وقتلتَه ؟ )) ، قلتُ : يا
رسول الله ، إنما قالها خوفاً من السلاح، قال : (( أفلا شَقَقْتَ عن قلبه حتى تعلم
أقالها أم لا ؟ )) ، فما زال يُكررها علي حتى تمنيتُ أني أسلمتُ يومئذ .
فالواجبُ إجراء الأحكام على الظاهر ، فمن المحال أن يطلع المرءُ على قلوب
الناس ليعلم هل هم صادقون في كلامهم أم لا . وبالتالي لا بد من الاقتصار على
الظاهر ، واللهُ يتولى السرائر .
وقال الله تعالى : ((
ومَن يُوَلهم يومئذ دُبُرَه إلا مُتحرفاً لقتال أو مُتحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب
من الله ومأواه جهنم وبئس المصير )) [ الأنفال : 16] .
والقاعدةُ الثابتة هي أن الفرار من المعركة ( التولي يوم الزحف ) مُحرّم
شرعاً ومن الكبائر . لكن هناك استثناء . فالحالة الأولى الاستثنائية : هي التحرف
لقتال، أي مَن يفر من المعركة كخدعة حربية حتى يستدرج العدو. والثانية : التحيز
لفئة ، أي الهروب من وجه العدو إلى فئة من المسلمين يساعدهم ويساعدونه .
وعن أبي سعيد الخدري _ رضي
الله عنه_ : في هذه الآية [ ومَن يُوَلهم يومئذ دُبُرَه ] . قال : (( نَزلت فِينا
يوم بَدْر )).
{
رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 357 ) برقم ( 3262 ) وصححه ووافقه الذهبي . }.
وهذه الآية
وإن كانت نزلت يوم بَدْر فحُكْمُها عام شامل في تحريم الفرار من المعركة . والعِبرةُ
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
وفي تفسير
القرطبي ( 7/ 335 ) : (( قال ابن القاسم : لا تجوز شهادة من فَر من الزحف ، ولا يجوز
لهم الفرار ، وإن فَر إمامهم لقوله _ عز وجل_: [ ومَن يُوَلهم يومئذ دُبُرَه ] الآية . قال : ويجوز الفرار
من أكثر من ضعفهم ، وهذا ما لم يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفاً ، فإن بلغ اثني عشر
ألفاً لم يحل لهم الفرار وإن زاد عدد المشركين على الضعف لقول رسول الله صلى الله
عليه وسلم : (( ولن يُغلَب اثنا عشر ألفاً من قِلَّة )))) اهـ .
{ الحديث السابق رواه ابن
حبان في صحيحه ( 11/ 17) برقم ( 4717 ) ، والحاكم في المستدرك ( 1/ 611) برقم (
1621) وصححه .}
وقال الله
تعالى : (( وإما تخافَن مِن
قَوْمٍ خِيانةً فانبِذْ إليهم على سَواء إن الله لا يحب الخائنين )) [ الأنفال : 58] .
إن الحرب في
الإسلام منظومة أخلاقية لها مسار منضبط ومصير واضح ، وتقوم على أُسس ثابتة مستمدة
من الشريعة المعصومة . صحيحٌ أن الحرب خدعة ، لكن الخيانة والغدر لا تليقان بأخلاق
المسلم حاملِ لواء الشريعة ، وناشرِ كلمة الله تعالى .
ففي حال
ظهور علامات واضحة على خيانة قوم مُعاهدين ، فلا بد من إعلامهم بإلغاء العهد قبل
قتالهم ، لكي يكونوا على بَينة من أمرهم ، لا أن يتم قتالهم في حال وجود عهد فيكون
ذلك خيانةً وغدراً .
قال الحافظ
في الفتح ( 6/ 279 ) في تفسير الآية : (( أي : اطرح إليهم عهدَهم ، وذلك بأن يُرسِل
إليهم من يُعلمهم بأن العهد انتقض )) اهـ .
وذلك لكي
يكون الطرفان لديهم عِلم بأن العهد قد سقط ، وبالتالي سقطت كل الالتزامات في هذا
العهد ، وهذا يدل على الشرف الرفيع في السلام والحرب ، فلا خيانة ولا غدر . فالمسلمُ
ينظر إلى السلام والحرب من منظور أخلاقي طاهر لا منظور ابتزازي غادر . وقاعدة
" الغايةُ تبرِّر الوسيلةَ" غير موجودة في قاموس الحرب الإسلامي. فشرفُ
الغاية لا بد أن يلازمها شرف الوسيلة.
وفي تفسير
القرطبي ( 8/ 32) : (( قال ابن العربي : فإن قيل : كيف يجوز نقض العهد مع خوف الخيانة
والخوف ظن لا يقين معه ؟ ، فكيف يسقط يقين العهد مع ظن الخيانة ؟ . فالجواب من وجهين
: أحدهما _ أن الخوف قد يأتي بمعنى اليقين ... الثاني _ إذا ظهرت آثار الخيانة وثبتت
دلائلها وجب نبذُ العهد لئلا يوقع التمادي عليه في الهلكة ، وجاز إسقاط اليقين هنا
ضرورة )) .
وقال
الشافعي في الأم ( 4/ 263 ) : (( فإن قال الإمام : أخاف خيانةَ قوم ، ولا دلالة له
على خيانتهم من خبر ولا عيان فليس له _ والله تعالى أعلم _ نقض مدتهم إذا كانت صحيحة
، لأن معقولاً أن الخوف من خيانتهم الذي يجوز به النبذ إليهم لا يكون إلا بدلالة على
الخوف )) .
فالخوفُ
المعتبَر شرعاً في هذا السياق ليس شعوراً داخلياً مجرّداً من الأدلة أو حديث نفس
عابراً. إنه خوف مقترن بمؤشرات وقرائن ومرجِّحات . وليس إجراءً مزاجياً تابعاً
للهوى لا نصيب له من الصحة . فالأحكامُ الشرعية مبنية على قواعد ثابتة مستمدة من
الكتاب والسنة ، ولا مكان للأوهام أو الحالات المزاجية .
2_ أحكام خاصة :
أ _ الصلاة وقت الحرب
:
قال الله
تعالى : (( وإذا كُنتَ فيهم
فأقمتَ لهم الصلاةَ فَلْتَقُم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا
فليكونوا من ورائكم ولتأتِ طائفة أخرى لم يُصَلوا فليُصَلوا معك وليأخذوا حِذْرَهم
وأسلحتهم )) [ النساء : 102] .
إن للصلاة
مكانةً جليلة في الإسلام لدرجة أنها لا تسقط في وقت الحرب، ولكن تتغير كيفيتها
لتُلائِم وضعيةَ الحرب . فالصلاةُ في حالة الأمن والأمان تختلف عن الصلاة في حالة
القتل والقتال . وما وجود الصلاة في المعركة إلا مؤشر على أهميتها الكبرى ، وعدم
إسقاطها في أي ظرف . كما أنها تستجلب النصرَ الإلهي ، حيث التوجه الخالص لله تعالى
في أرض المعركة ، والاتصال به ، وطلب العون منه ، مع الأخذ بأسباب الانتصار
المادية .
وصلاةُ
الخوف في الحرب لها وضع خاص . حيث ينقسم المسلمون إلى طائفتَيْن ، الأولى تأتم
بالنبي صلى الله عليه وسلم وهي مُدجّجة بالسلاح ، والطائفة الثانية تقوم بمواجهة
العدو . فإذا انتهت الطائفة الأولى من الصلاة تأتي الثانية للصلاة خلف النبي صلى
الله عليه وسلم .
وعن ابن
عباس _ رضي الله عنهما _ قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة ، فلقي المشركين
بعسفان ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهرَ ، فرأوه يركع ويسجد هو وأصحابه
، فقال بعضهم لبعض : كان هذه فرصة لكم ، لو أغرتُم عليهم ما علموا بكم حتى تواقعوهم
، فقال قائل منهم : فإن لهم صلاة أخرى هي أحب إليهم من أهليهم وأموالهم فاستعدوا حتى
تُغيروا عليهم فيها ، فأنزل الله _ عز وجل _ على نَبِيه صلى الله عليه وسلم : [ وإذا كُنتَ فيهم فأقمتَ لهم الصلاةَ ] إلى آخر الآية . وأعلمه
ما ائتمر به المشركون ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصرَ وكانوا قبالته
في القِبلة ، جعل المسلمين خلفه صَفين ، فَكَبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَكَبروا
معه .
{ رواه
الحاكم في المستدرك ( 3/ 32 ) برقم ( 4323 ) وصححه ووافقه الذهبي . }.
ب_ الأعمى والأعرج
والمريض :
قال الله
تعالى : (( ليس على الأعمى حَرَجٌ ولا على الأعرج حرج ولا على
المريض حرج )) [ النور : 61] .
إن
المجاهدين _ بوصفهم حملةَ الرسالة الإلهية النبيلة _ ينبغي أن يكونوا أصحابَ عقول
سليمة وأجسام صحيحة . فالعقلُ السليم في الجسم السليم . واللهُ تعالى لا يُكلف
نفساً فوق طاقتها . وهناك أشخاص غير قادرين على الجهاد مثل الأعمى والأعرج والمريض
، وهؤلاء لا حرجٌ عليهم ، والجهادُ عنهم مرفوع .
وفي تفسير
ابن كثير ( 3/ 406 ) : (( اختلف المفسرون _ رحمهم الله _ في المعنى الذي لأجله رُفع
الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض ههنا . فقال عطاء الخراساني وعبد الرحمن بن زيد ابن
أسلم إنها : نزلت في الجهاد ...أي إنهم لا إثم عليهم في ترك الجهاد لضعفهم وعجزهم
)) اهـ.
وقد ورد
سببٌ آخر لنزول الآية . (( عن مجاهد : كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج أو المريض
إلى بيت أبيه أو أخيه أو قريبه ، فكان الزمْنى _ الضعاف بسبب الكِبَر أو العِلَل
المزمنة _ يتحرجون من ذلك ، ويقولون إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم . فنزلت الآية
رخصةً لهم )) .
{ ذكر هذا
الأثرَ الحافظُ في الفتح ( 9/ 529 ) وصححه .
}.
فهذه الفئةُ
الضعيفة حينما يتواجدون في بيوت الناس يشعرون بالإحراج ، فقد تُقدِّم لهم النساءُ
بعضَ الطعام ، أو يجدون أنفسهم بين أشخاص غرباء لا يعرفونهم . وهذا يُصيبهم
بالانقباض وعدم الراحة ، وقد يَشعرون بأنهم ثقلاء على الآخرين . فنزلت هذه الآية
لترفع عنهم الحرجَ . وعلى أية حالة فالآيةُ عامةٌ في دلالتها مهما يكن السبب ،
وتظل القاعدةُ التي نعيدها ونُكرِّرها : العِبرةُ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
.
ج _ القتال في الأشهر
الْحُرُم :
قال الله
تعالى : (( الشهرُ الحرام بالشهر الحرام والْحُرُماتُ قِصَاص )) [ البقرة : 194] .
للأشهر
الْحُرُم مكانة خاصة في الجاهلية والإسلام . فيَحرم فيها القتالُ لأن لها وضعية
مميّزة متفق عليها عبر الحقب الزمنية المختلفة . فالأشهر الحرم ( ذو القعدة وذو
الحِجة ومُحرم ورجب ) لها حُرْمتها المعتبَرة التي تؤثِّر في سلوك الناس ، ولا
يمكن تجاوز حُرْمتها إلا لغرض شرعي معتمَد . وقد وضّحت النصوصُ الشرعية كيفيةَ
العلاقة الصحيحة بين الناس والأشهر الْحُرُم في الأوضاع المختلفة . وتظهر قضية
القتال في الأشهر الحرم وضوابطها وأبعادها . وهذا موضوع حساس تبعاً لحساسية حُرمة
الأشهر الحرم في النفوس وعلى أرض الواقع .
وفي لباب
النقول للسيوطي ( 1/ 137 ) : (( عن قتادة قال : أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه
معتمرين في ذي القعدة،ومعهم الهدي حتى إذا كانوا بالحديبية صَدهم المشركون،وصالحهم
النبي صلى الله عليه وسلم على أن يرجع من عامه ذلك ثم يرجع من العام المقبل ، فلما
كان العام المقبل أقبل وأصحابه حتى دخلوا مكة معتمرين في ذي القعدة ، فأقام بها ثلاث
ليال ، وكان المشركون قد فَخروا عليه حين ردوه ، فأقصه اللهُ منهم ، فأدخله مكة في
ذلك الشهر الذي كانوا رَدوه فيه ، فأنزل الله : [ الشهرُ الحرام بالشهر الحرام والْحُرُماتُ قِصَاص ] )) اهـ .
فاللهُ
تعالى أرغم أنوفَ المشركين وردهم خائبين مهزومين . فقد دخل النبي صلى الله عليه
وسلم مكة في نفس الشهر ( ذي القعدة ) الذي رده فيه المشركون ، ليكون ذلك قِصاصاً عادلاً
. وقد علت كلمةُ الله تعالى على كلمة المشركين ، وتحققت عُمرة النبي صلى الله عليه
وسلم في الوقت الذي اختاره اللهُ رغم أنف أهل الشرك. وفي فتح الباري ( 7/ 500 ) :
(( قال السهيلي : تسميتها عمرة القِصاص أولى لأن هذه الآية نزلت فيها . قلتُ _ أي
ابن حجر_ : كذا رواه ابن جرير وعبد بن حميد بإسناد صحيح عن مجاهد ، وبه جزم سليمان
التيمي في مغازيه )) اهـ .
أما قولُ
الله تعالى : [ والْحُرُماتُ قِصَاص ] ، فقد قال القرطبي في
تفسيره ( 2/ 351 ) : (( وإنما جُمعت الحرمات
لأنه أراد حُرمةَ الشهر الحرام ، وحرمة البلد الحرام ، وحرمة الإحرام. والحرمة : ما
مُنِعْتَ من انتهاكه، والقِصاصُ المساواة . أي : اقتصصتُ لكم منهم إذ صدوكم سنة ست
فقضيتم العمرة سنة سبع )) اهـ .
وعن جابر بن
عبد الله _ رضي الله عنهما _ قال : (( لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في
الشهر الحرام إلا أن يُغزَى أو يغزوا )).
{ رواه
أحمد في مسنده( 3/ 345) برقم ( 14755 ) وصححه ابن كثير في تفسيره ( 1/ 309).}.
وهذا يعني
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يبدأ القتالَ في الشهر الحرام . ولكن إذا
اعْتُدِيَ عليه بأن يُغزَى فعندئذ يُقاتِل دفاعاً عن النفس ورداً للعدوان. فالشهرُ
الحرام لا ينبغي القتال فيه إلا وفق اعتبارات شرعية محددة ومنضبطة . فلا تُكسَر
حُرمة الشهر الحرام إلا لضرورة دينية معتبَرة . فالقتالُ في الإسلام لا ينفك عن
قواعده الشرعية الملزِمة ، ومبادئه غير القابلة للتلاعب والتمييع .
وقال الله
تعالى : (( يسألونكَ عن الشهر
الحرام قِتالٍ فيه قُل قتالٌ فيه كبير ))[ البقرة: 217].
وهذا السؤال
حول القتال في الشهر الحرام يشير إلى مكانة الشهر الحرام في النفوس وحساسية اتخاذ
الأمور الحربية فيه . لذا فالقتالُ فيه ذنب عظيم مُسْتَنْكَر ، لأنه انتهاك لحرمة
الشهر المتعارف عليها في الجاهلية والإسلام على السواء . وقد كانت العربُ خلال
الأشهر الحرم لا تُغير على عدو ولا تسفك دماءَ أحد تعظيماً لمكانة هذه الأشهر
المميزة. فينتشر السلامُ بين القبائل في هذه الشهر الحرام ، ولا أحد يجرؤ على
استحلاله بأي شكل .
وقال الطبري
في تفسيره ( 2/ 359 ) عن الشهر الحرام : (( .. العرب كانت لا تَقرع فيه الأسنةَ ، فيلقى
الرجلُ قاتلَ أبيه أو أخيه فيه ، فلا يُهيجه تعظيماً له ، وتُسميه مضر الأصم لسكون
أصوات السلاح وقعقعته فيه )) اهـ .
وعن جندب بن
عبد الله _ رضي الله عنه _ قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً، واستعمل
عليهم عبيدة بن الحارث ، فلما انطلق ليتوجه بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فبعث مكانه رَجلاً يقال له عبد الله بن جحش ، وكتب له كتاباً وأمره أن لا يقرأه
إلا لمكان كذا وكذا ، لا تكرهن أحداً من أصحابك على المسير معك ، فلما صار إلى ذلك
الموضع قرأ الكتاب واسترجع ، قال : سمعاً وطاعة لله ورسوله ، فرجع رَجلاً من أصحابه
ومضى بقيتهم معه ، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ، فلم يَدْرِ ذلك من رجب أو من جمادى الآخرة،
فقال المشركون: قتلهم في الشهر الحرام. فنزلت : [ يسألونكَ عن الشهر الحرام قِتالٍ فيه قُل قتالٌ فيه
كبير ].
{ رواه
البيهقي في سُننه( 9/ 11)برقم( 17523)،وصححه السيوطي في الدر المنثور ( 1/ 600).}.
وهذا يدل
بصورة واضحة على أن الشهر الحرام له حُرْمة معتبَرة في الجاهلية لأن المشركين يؤمنون
بحُرْمته بدليل استنكارهم لفعل القتل في هذا الشهر الحرام واستعظامهم لهذا العمل .
وقد نَزلت الآية لتؤكد حُرْمة هذا الشهر، وأن القتال فيه ذنبٌ كبير ، وأن مكانة
الشهر الحرام لم تتغير.
د _ القتال في الَْحَرَم
:
قال الله
تعالى: (( ولا تُقاتلوهم عند
المسجد الحرام حتى يُقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم )) [ البقرة : 191].
فلا يجوز
الابتداء بقتال الكافرين عند المسجد الحرام ، ولكن إذا بدأوا بالقتال فعندئذ
يُقاتَلون لرد عدوانهم وردعهم ، ولكي يدفعوا ثمنَ جرائمهم .
قال الطبري
في تفسيره ( 2/ 197 ) : (( ولا تبتدئوا _ أيها المؤمنون _ المشركين بالقتال عند المسجد
الحرام حتى يبدأوكم به فإن بدأوكم به هناك عند المسجد الحرام في الحرم فاقتلوهم ، فإن
الله جعل ثواب الكافرين على كفرهم وأعمالهم السيئة القتلَ في الدنيا ، والخزي الطويل
في الآخرة )) اهـ .
وقال
القرطبي في تفسيره ( 2/ 348 ) : (( للعلماء في هذه الآية قولان : أحدهما : أنها منسوخة
، والثاني : أنها مُحْكَمة . قال مجاهد : الآية مُحكَمة ولا يجوز قتال أحد في المسجد
الحرام إلا بعد أن يُقاتِل ، وبه قال طاووس . وهو الذي يقتضيه نص الآية ، وهو الصحيح
من القولين ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه )) اهـ .
ويؤيد
كَوْنها مُحْكَمة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : (( إن هذا البلد
حَرمه اللهُ يومَ خَلق السماوات والأرض ، فهو حرامٌ بِحُرْمة الله إلى يوم القيامة
، وإنه لم يَحِل القتالُ فيه لأحد قبلي ، ولم يَحِل لي إلا ساعة من نهار ، فهو حرام
بحرمة الله إلى يوم القيامة )) .
{ متفق
عليه. البخاري ( 3/ 1164 ) برقم ( 3017 ) ، ومسلم ( 2/ 986 ) برقم ( 1353). }.
وهذا يشير
إلى الحرمة الأبدية الثابتة لمكة المكرمة ، وهذه الحرمة مستمرة حتى يوم القيامة لا
يمكن تغييرها لأن باب النسخ قد أُغلق بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم . مما يدل
على المنزلة السامية لمكة وشرفها المقدس الذي لا يرقى إليه أي مكان آخر .
هـ _ شراء أنفس
المؤمنين وأموالهم :
قال الله تعالى : (( إن الله اشترى مِن المؤمنين أنفسَهم وأموالهم بأن لهم
الجنة يُقاتلون في سبيل الله فَيَقْتلون ويُقتَلون ))[ التوبة : 111] .
وفي هذا
إشارةٌ بليغة إلى الفضل الإلهي ، فإن الأنفس والأموال هي مُلْكٌ لله تعالى ، ومع
هذا فقد اشتراها اللهُ تعالى من المؤمنين مقابل منحهم الجنة . وهذه العلاقة بين
السيد والعبيد ترشدنا إلى كرم السّيد _ سبحانه _ في تعامله مع عباده ، وأنه يسّر
لهم طريقَ الجنة لأنه يحبهم ويحبونه .
قال القرطبي
في تفسيره ( 8/ 243 ) : (( فاشترى اللهُ_ سبحانه_ من العباد إتلاف أنفسهم وأموالهم
في طاعته وإهلاكها في مرضاته ، وأعطاهم _ سبحانه _ الجنةَ عوضاً عنها ...فأجرى ذلك
على مجاز ما يتعارفونه في البيع والشراء ، فمن العبد تسليم النفس والمال، ومن الله
الثواب والنوال فسمّى هذا شراء )) اهـ .
أما سبب
نزول الآية . فعن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : { قال عبد الله بن رواحة لرسول
الله صلى الله عليه وسلم : اشترط لربك ولنفسك ما شئت !، قال: (( أشترط لربي أن تعبدوه
، ولا تشركوا به شيئاً ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم
)) ، قالوا : فإذا فعلنا ذلك فماذا لنا ؟ ، قال : (( الجنة ! ))، قالوا : ربح البيع،
لا نقيل ولا نستقيل !.فنزلت : [
إن الله اشترى مِن المؤمنين ] الآية }.
{ تفسير
الطبري ( 6/ 481 ). وانظر تفسير ابن كثير ( 2/ 515) ، وفتح الباري ( 6/ 4) .}.
نلاحظ أدبَ
الصحابة في التعامل مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فهم جاؤوا بقلوب مفتوحة على الإيمان
والفضيلة . كما أن إيمانهم مبني على يقين وبصيرة ، وليس إيماناً أعمى محصوراً في
دائرة التقليد . وهذا كله مرجعه إلى التوفيق الرباني ، والدورِ المركزي للمُعلم
صلى الله عليه وسلم القادر على التأثير الإيجابي في أتباعه وإخراجهم من الظلمات
إلى النور .
3_ الوساطة والإصلاح
في الحرب :
قال الله
تعالى : (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتَتلوا فأصلِحوا بينهما )) [ الحجرات : 9] .
فإن نشب
القتالُ بين فِرْقتَيْن من المؤمنين فينبغي الإصلاح بينهما ، وإعادة الأمور إلى
نصابها الصحيح ، حيث الأخوة الإسلامية والمودة والتعاون ، وعلاج المشكلات يكون
بالاحتكام إلى الشريعة ولغة العقل والحوار لا لغة القتال والقتل . ومهمةُ الإصلاح
يضطلع بها أصحابُ العقول الواعية والصدور الواسعة القادرون على الحل والربط ، ولا
يضطلع بها المتهوِّرون أو السفهاء أو أصحاب الأغراض الشخصية والمصالح الذاتية
الضيقة . فلا بد من إبعاد سماسرة الحروب الذين يستثمرون أموالهم في سفك الدماء ،
ولا يُقيمون أية حُرمة للقيمة الإنسانية .
وقال ابن
كثير في تفسيره ( 4/ 269 ) : (( فَسَمّاهم مؤمنين مع الاقتتال . وبهذا استدل البخاري
وغيره على أنه لا يخرج عن الإيمان بالمعصية وإن عَظُمت ، لا كما يقوله الخوارج ومن
تابعهم من المعتزلة ونحوهم )) اهـ .
وعن أنس _ رضي
الله عنه_ قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : لو أتيتَ عبد الله بن أُبي ، فانطلق
إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وركب حماراً، فانطلق المسلمون يمشون معه ، وهي أرض
سبخة _ يعني التي لا تُنبت لملوحة أرضها_، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال
: إليك عني ، والله لقد آذاني نتنُ حمارك ، فقال رَجل من الأنصار منهم: واللهِ لحمار
رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد
الله رَجل من قومه فشتمه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهما ضربٌ بالجريد والأيدي
والنعال ، فبلغنا أنها نَزلت : [
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلِحوا بينهما ].
{ متفق
عليه . البخاري ( 2/ 958) برقم ( 2545) ، ومسلم ( 3/ 1424 ) برقم ( 1799) . }.
والمؤمنون قد تنشأ بينهم نزاعاتٌ وحروبٌ ، فهم
ليسوا ملائكة أو معصومين . وعند حدوث قتال بينهم ينبغي الإصلاح بينهم ردءاً
للفتنة، وتنقيةً للقلوب من الضغائن، وهذا يؤدي إلى إعادتهم إلى طريق الخير والأخوة
، فيستفيد كل طرف من أخطائه لئلا يقع فيها مرةً أخرى. والجدير بالذكر أنهم
_بقتالهم _ لم يخرجوا عن دائرة الإيمان، لكن الشيطان نَزغ بينهم ، والرجوعُ إلى
الحق فضيلة.http://www.facebook.com/abuawwad1982