سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

08‏/11‏/2012

الدعوة إلى الله

الدعوة إلى الله

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .


1_ ضرورة الدعوة :
     قال الله تعالى : (( ولتكن مِنكم أُمةٌ يَدْعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف ويَنْهَوْن عن المنكر وأُولئك هم المفلحون )) [ آل عمران : 104] .
     إن الدعوة ليست مهنةً حكومية ذات دَوامٍ محدود . إنها مشروع كَوْني شامل لإنقاذ الذات والآخرين ، وصناعةِ مجتمع الإيمان والطمأنينة والفضائل . وهي تثبيت للإيجابيات وتعميمها في كل مناحي الحياة ، ونفي للسلبيات واجتثاثها من كل الجوانب الحياتية .
     فلا بد من وجود الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكي يستقيم حالُ الإنسان ، ويصلح المجتمع بكل تفاصيله . فلا يمكن ترك الحبل على الغارب ، فعندئذ سوف تنهار القيمُ الأخلاقية في النفوس وأرضِ الواقع، فتصبح المفاسدُ نظاماً حياتياً للجميع ، وهذا هو السقوط الأخلاقي المريع ، ونهايةُ الحضارة الإنسانية .
     و" مِن " في قوله تعالى : (( مِنكم )) اخْتُلِف في معناها على وجهَيْن : إنها لبيان الجنس ، والمعنى لتكونوا كلكم دعاة للخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . والوجهُ الثاني : للتبعيض ، ومعناه أن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ينبغي أن يكونوا عالِمين بما يأمرون به وما ينهون عنه ، وليس كل الناس يملكون هذا العلمَ .
     وقد رجّح القرطبي أنها للتبعيض ، وقال في تفسيره ( 4/ 162 ) : (( فإنه يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية )) اهـ .
     وفي صحيح مسلم ( 1/ 69 ) : عن أبي سعيد الخدري _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مَن رأى منكم منكراً فليُغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، ومن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان )) .
     وهذا أمرٌ نبوي جليل بتغيير المنكر . وهذا التغيير يكون باليد لمن يمتلك سُلطة التغيير كالحاكم وغيره ، وباللسان للعالِم بالحُكم الشرعي . والمرحلةُ الأخيرة تكون بالقلب وهذا أضعف الإيمان ، وهي أدنى المراتب . وهذا التصنيف المراحلي يشير إلى رفع الحرج عن الناس ، وعدم تحميلهم فوق طاقتهم .
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 2/ 22) : (( وأما قوله صلى الله عليه وسلم     " فليُغيره " فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة ، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الكتاب والسنة وإجماع الأمة . وهو أيضاً من النصيحة التي هي الدين )) اهـ .
     فعلى المرء أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في حدود ما يَعلم . وحتى لو كان الشخصُ مقصِّراً في أداء الطاعات ، ومتلبِّساً بالمعاصي ، فعليه أن يأمر نفسَه وغيرَه بالمعروف ، وينهى نفسَه وغيرَه عن المنكر . وهناك أشياء واضحة يعلم الجميعُ أنها منكر كترك الصلاة والصيام ، والكذب، والغش ... إلخ ، فهذه الأمور كل المسلمين هم علماء فيها . وهناك أمورٌ دقيقة لا يعلمها إلا العلماء فلا شأن للعوام فيها وعليهم أن يبتعدوا عنها . والمنكَر هو ما تم الإجماع على أنه منكَر ، أما الأمور الخلافية فلا إنكار فيها .
     وعن حذيفة بن اليمان _ رضي الله عنه _ : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم )).
[رواه الترمذي ( 4/ 468 ) برقم ( 2169 ) وحسّنه .].
     إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس ترفاً اجتماعياً ، أو رفاهيةً هامشية. إنهما منهجٌ إيماني متكامل تركه يؤدي إلى تفتيت الفرد نفسياً ومادياً ، وتدميرِ المجتمع باستئصال جهاز المناعة فيه ، والقضاء على منجزاته الحضارية عبر تجريدها من وسائل الحماية . وغيابُ هذا المنهج الدعوي يُعرِّض الإنسان والمجتمع للعقوبة الإلهية، ومحقِ البركة،وغيابِ التوفيق، وانتشارِ الرذيلة الاجتماعية، وتفشي العناصر السلبية التي لا تستثني أحداً ، ولا تُبقي ولا تَذَر . وهذا هو الاضمحلال الذي لا يُفرِّق بين الفرد والجماعة .
     وقال الله تعالى : (( لَوْلا ينهاهم الربانِيون والأحبارُ عن قَوْلهم الإثْمَ وأكلهم السحْت لَبِئْسَ ما كانوا يَصنعون )) [ المائدة : 63] .
     وفي هذه الآية توبيخٌ شديد للعلماء الذين تركوا الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر ، واكتفوا بالمشاهَدة ، ولم يقوموا بزجر أصحاب المعاصي . (( ودلت الآيةُ على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر )) .
[تفسير القرطبي ( 6/ 223 ) .].
     (( وكان العلماء يقولون ما في القرآن آية أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية ، ولا أخوف عليهم منها )).
[تفسير الطبري ( 6/ 298 ). وانظر تفسير ابن كثير ( 2/ 75)، والدر المنثور (3/ 112).].
     فالعلماءُ ينبغي أن يكونوا في طليعة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر لعلمهم الشرعي ، وكَوْنهم أصحابَ مكانة اجتماعية ذات احترام ، وهم قدوةُ الآخرين في شتى الأزمنة والأمكنة .
     وكما قال ابن المبارك _ رحمه الله _ :
وهل أفسد الدينَ إلا الملـوكُ                
وأحبارُ سَـــوْءٍ ورُهبـانه
[تفسير القرطبي ( 8/ 110) .]
     وعن أبي بكر الصديق _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يَعُمهم اللهُ بعقاب منه )).
[رواه الترمذي ( 4/ 467 ) برقم ( 2168 ) وصحّحه ، وابن حبان في صحيحه ( 1/ 539 ) برقم ( 304) .].
     فالناسُ إذا استمرأوا الظلمَ ، ولم يقوموا بمقاومة الظالم والتصدي له ، فهم مُعرّضون للعقوبة الإلهية جزاءَ تقاعسهم ، وابتعادهم عن الدعوة المشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فانتشار الظلم دون نكير أو مقاومة من شأنه إحالة الحياة إلى جحيم لا يطاق ، وتضييع كل المكتسبات الإنسانية ، وإبادة المعاني البشرية الراقية . مما يدفع باتجاه إفساد الدنيا ، وفقدانِ معنى إعمارها بالفضائل ، وهذا يعود سلباً على الإنسان ومحيطه ، فيضعف الإيمانُ في النفوس ، وتفقد الحياةُ معناها .
     وقال الله تعالى : (( فَلَوْلا كان من القُرون مِن قَبْلكم أُولو بَقِيةٍ يَنْهَوْن عن الفساد في الأرض إلا قليلاً مِمن أَنجَيْنا مِنهم )) [ هود : 116] .
     فلم يكن في الأمم الخالية مَن ينهى عن الفساد لذلك شملهم العذاب ، وتم إبادتهم بسبب تقصيرهم في الدعوة.لكن قليلاً من تلك الأقوام الغابرة كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهؤلاء مَن اللهُ عليهم بالنجاة من العذاب لأنهم التزموا بالدعوة قولاً وفعلاً ، وقاموا بواجبهم الدعوي على أكمل وجه سائرين على خطى الأنبياء _ عليهم السلام _ .
     وقال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 610 ) : (( يقول تعالى فَهَلا وُجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض ، وقوله :     [ إلا قليلاً ] أي قد وُجد منهم من هذا الضرب قليل ، لم يكونوا كثيراً ، وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غضبه وفجأة نقمته )) اهـ .
     وقال الله تعالى : [ كانوا لا يَتَنَاهَوْن عن مُنكر فَعلوه لَبِئْسَ ما كانوا يَفعلون ] [ المائدة : 79].
     فهؤلاء اليهود كانوا لا ينهى بعضُهم بعضاً عن المنكَرات . أي إنهم تركوا الدعوة ، وتقاعسوا عن تبليغها . وهذا عملٌ بائس شرير قادهم إلى عواقب خطيرة كقسوة القلب ، وتفشي المعاصي والآثام دون نكير أو معارضة ، فاستحقوا بذلك غضب الله تعالى .
     وقال البيضاوي في تفسيره ( 1/ 355 ) : (( أي لا ينهى بعضهم بعضاً عن معاودة منكر فعلوه ، أو عن مثل منكر فعلوه ، أو عن منكر أرادوا فعله وتهيؤوا له ، أو لا ينتهون عنه ، من قولهم : تناهى عن الأمر وانتهى عنه ، إذا امتنع )) اهـ .
     وقال ابن الجوزي في زاد المسير ( 2/ 406 ): (( وذكر المفسرون في هذا المنكَر ثلاثة أقوال : أحدها صيد السمك يوم السبت ،  والثاني أخذ الرشوة في الحُكم ، والثالث أكل الربا وأثمان الشحوم . وذِكْرُ المنكَر منكراً يدل على الإطلاق ويمنع هذا الحصر )) اهـ .
     والآيةُ تشير إلى اشتراكهم في الفعل ، وقد تم توبيخهم على ترك النهي عن المنكَر . كما أن في الآية دليلاً على وجوب ترك المجرمين والابتعاد عنهم .
     والمرءُ إذا قارف ذنباً فعليه أن يستتر ويختفي عن الأنظار ، ولا يجاهر بالمعصية . فالمجاهرةُ بالمعصية وانتشارها في المجتمع بلا مقاومة دليل على اشتراك الناس كلهم في الجريمة ، وهذا يجعل من المجتمع بيئةً موبوءة مُعرّضة للغضب الإلهي .
     وعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( كل أُمتي مُعافى إلا المجاهِرين ، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجلُ بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره اللهُ ، فيقول : يا فلان عملتُ البارحة كذا وكذا ، وقد بات يستره رَبه ، ويصبح يكشف سِتْرَ الله عنه )).
[متفق عليه.البخاري ( 5/ 2254 ) برقم ( 5721 ) ، ومسلم ( 4/ 2291 ) برقم ( 2990 ).].  
     وهؤلاء المجاهِرون يسردون حكاياتِ معاصيهم بلا ضرورة، فيهتكون سترَ الله تعالى ، ويقومون بفضح أنفسهم، وتقديم ذواتهم إلى الناس على أنهم عُصاة فسقة ، فيفقدون ثقتهم بأنفسهم ، ويفقد المجتمعُ ثقته بهم . والبعضُ يفتخر بالمعصية وما يترتب عليها من إثم ، فهو يراها من باب الرجولة أو الجرأة أو الذكاء . وهذا أعمى البصيرة ينبغي تحذيره وإرشاده إلى أن المعاصي عارٌ لا بطولة .
     وعلى الجانب الآخر نجد أن الملتزمين بالمنهج الدعوي في التصدي للمنكَرات يحصلون على النجاة من العذاب بسبب امتثالهم للأوامر الإلهية ، وثباتهم على طريق الأنبياء في الدعوة بلا كلل أو ملل .
     قال الله تعالى : (( فلما نَسُوا ما ذُكروا به أَنجَيْنا الذين يَنْهَوْن عن السوء )) [ الأعراف: 165].
     فلمّا ترك العُصاةُ نصحَ الناصحين القائمين بأمر الدعوة ، وأعرضوا عنه بالكلية ، استحقوا العذابَ. أما الذين قاموا بالدعوة وإسداء النصحِ والنهي عن السوء فقد أنجاهم اللهُ تعالى مكافأةً لهم على تمسكهم بالدعوة بغض النظر عن النتيجة .
     وقال الطبري في تفسيره ( 6/ 100 ) : (( فلما تركت الطائفةُ التي اعتدت في السبت ما أمرها اللهُ به من ترك الاعتداء فيه ، وضَيّعت ما وعظتها الطائفةُ الواعظة وذكّرتها به من تحذيرها عقوبة الله على معصيتها ، فتقدمت على استحلال ما حرّم اللهُ عليها ، أنجى الله الذين ينهون منهم عن ( السوء ) ، يعني عن معصية الله واستحلال حرمه )) اهـ .
     وعلى المرء أن يقوم بواجب الدعوة في كل الأحوال ، ومع كل أجناس البشر ، بالحكمة والموعظة الحسنة. فعلى الإنسان أن يعمل جاهداً في مجال الدعوة سواءٌ قبله الناسُ أم رفضوه ، فهو يؤدي عبادةً لله تعالى، ولا ينتظر من الآخرين مديحاً أو شكراً، ولا ينتظر كذلك نتائج على الأرض. فالدعوةُ بحد ذاتها هي النجاح بغض النظر عن قبول الناس لها أو رفضهم . فالإنسانُ يقول كلمته بإخلاص ويمضي ضمن منهجية دعوية منضبطة بالكتاب والسنة . واللهُ تعالى يهدي من يشاء ويُضل من يشاء.ويبقى المنهجُ الإلهي في بيان عموم الدعوة:((فَذَكرْ إِن نَفَعَت الذكرى )) [ الأعلى : 9].
2_ خطورةُ التقصير في الدعوة :
     قال الله تعالى : (( وإذ أخذ اللهُ مِيثاقَ الذين أُوتوا الكتابَ لَتُبَينُنهُ للناس ولا تَكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشْتَرَوْا به ثمناً قليلاً فَبِئْسَ ما يَشترون )) [ آل عمران : 187] .
     وهذه الآية تشير إلى ضرورة نشر العلم الصالح والأخذ بأيدي الناس إلى الهداية ، وإرشادهم إلى الصراط المستقيم . وفيها بيانٌ لخطورة كتمان العلم ، وحجبه عن الآخرين بسبب منافع دنيوية دنيئة . فعلى العلماء أن يكونوا حُراسَ الشريعة ، وينشروها بدون زيادة أو نقصان ، ويُعلموا الناسَ تعاليم الدين ، والأخلاقَ الفاضلة ، والسلوكياتِ الاجتماعية الطيبة . وكل ذلك وفق المنهج الإلهي في الدعوة والتبليغ . وهذا يتم بالسير على خطى الأنبياء أعظمِ الدعاةِ، والاقتداء بأسلوبهم المعصوم في البيان وإرشادِ الآخرين .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 579 ) : (( هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ اللهُ عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأن يُنَوهوا بذكره في الناس ليكونوا على أهبة من أمره ، فإذا أرسله اللهُ تابَعوه ، فكتموا ذلك وتعوضوا عما وُعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف والحظ الدنيوي السخيف ، فبئست الصفقة صفقتهم ، وبئست البيعة بيعتهم . وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم ، ويسلك بهم مسالكهم ، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العمل الصالح ، ولا يكتموا منه شيئاً )) اهـ .
     وقد قال أبو هريرة _ رضي الله عنه _ : (( لولا ما أَخذ اللهُ على أهل الكتاب ما حَدثْتُكم بشيء ، ثم تلا :[ وإذ أخذ اللهُ مِيثاقَ الذين أُوتوا الكتابَ لَتُبَينُنهُ للناس ولا تَكتمونه ] )).
{ رواه الحاكم في المستدرك( 1/ 190)برقم( 366) وصحّحه ، وقال الذهبي : (( لا أعلم له عِلة)). }.
     وهنا تتجلى أهمية نشر العلم وعدم كتمانه . فأبو هريرة _ رضي الله عنه _ أكثر الصحابة روايةً للحديث . وقد بَيّن سبب كثرة حديثه ، فهو يريد نشر كل ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يكون من كاتمي العلم الذين ذَمّهم اللهُ تعالى ، وفضحهم بسبب خيانتهم للأمانة ، وعدم التزامهم بالميثاق القاضي ببيان الشرع الإلهي وتبليغه للناس. مما يشير إلى الأهمية البالغة لنشر العلم ، وذلك لإخراج الخلائق من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، ومن متاهاتِ الكفر إلى واحة الإيمان . وهنا تكمن أهمية العلم كمنهج خلاص كَوْني .
     وعن عبد الله بن عمرو بن العاص _ رضي الله عنه _ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( مَن كتم علماً ألجمه اللهُ يوم القيامة بلجام من نار )) .
[رواه الحاكم في المستدرك ( 1/ 182) برقم ( 346 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي . ورواه ابن حبان في صحيحه ( 1/ 298 ) برقم ( 96) .].
     فهذا التحذيرُ الشديد يعكس العاقبة الوخيمة لكاتم العلم . فعلى المرء أن يخرج من دائرة العقوبة وذلك بتبني الدعوة مشروعياً أُممياً طوال حياته ، حيث النشر المنهجي للعلم النافع ، ومساعدة الآخرين بإرشادهم إلى إعمال عقولهم ، وتنظيفها من شوائب الجهل ، لكي تستوعب نورَ العلم ، وتتلقى ضوءَ الدعوة الصافية بلا إفراط أو تفريط . وتظل الكلمةُ النبراس في هذا المدى : (( زكاةُ العلم نشرُه )) .
3_ الدعوة بلسان القوم وما يفهمونه :
     قال الله تعالى : (( وَلَوْ جعلناه قُرآناً أعجمياً لقالوا لَوْلا فُصلَتْ آياتُه )) [ فُصلت : 44] .
     فالقرآنُ الكريم لو كان بلغة العجم لقال المشركون: لولا فُصلت آياته وتم توضيحها ، ونزل بلغتنا كي نفهمه .
     وهذه الآية توضِّح أهمية الدعوة باللغة التي يفهمها الناس لكي يستوعبوا الأحكامَ والشرائعَ ، ويقفوا على معنى الكلام ودلالاته ، ويقوموا بتطبيق الأحكام على أرض الواقع . أما الدعوة باللغة التي لا يتقنها الناس فهي مضيعة للوقت بسبب انعدام وسيلة الحوار والتخاطب ، وغياب معنى استقبال الكلام وإرساله .
     وقال القرطبي في تفسيره ( 15/ 320) : (( قوله تعالى : [ وَلَوْ جعلناه قُرآناً أعجمياً ] أي بلغة غير العرب ، [ لقالوا لَوْلا فُصلَتْ آياتُه ] أي بُيِّنت بلغتنا ، فإننا عرب لا نفهم الأعجمية ، فبيّن أنه أنزله بلسانهم ليتقرر به معنى الإعجاز ، إذ هم أعلم الناس بأنواع الكلام نظماً ونثراً ، وإذا عجزوا عن معارضته كان من أدل الدليل على أنه من عند الله ، ولو كان بلسان العجم لقالوا لا علم لنا بهذا اللسان )) اهـ .
4_ الأسلوب الطيب :
     قال الله تعالى : (( وقُل لعبادي يقولوا التي هِيَ أَحْسَنُ )) [ الإسراء : 53] .
     ومن أهم أركان الدعوة إيصالها بأسلوب محبّب للنفس الإنسانية يعتمد على البشارة ، ويوازن بين الترغيب والترهيب ، ويحترم عقولَ الناس ومكانتهم الاجتماعية ، ويُنزلهم في مقاماتهم اللائقة . وهذا الأسلوب ينبغي أن يشتمل على العلم الشرعي ، والحُجّةِ الناصعة ، واللغةِ المستقيمة الهادئة ، ويبتعد عن الصراخ والضجيج وتنفير الناس وبعثِ اليأس فيهم . فالأسلوبُ الخشن حينما يحمل الحق ، فإن الناس تبتعد عن ذلك الحق من أجل أداة توصيله السيئة .
     وقال ابن الجوزي في زاد المسير ( 5/ 46 و47) عن الآية : (( في سبب نزولها قولان . أحدهما : أن المشركين كانوا يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بالقول والفعل ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : أن رَجلاً من الكفار شتم عمر بن الخطاب فَهَم به عمر _ رضي الله عنه _ فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل )) اهـ .
     كما أن تذكير الناس بالنعم الإلهية عليهم من شأنه جذبهم إلى محبة الخالق تعالى ، والالتزام بشريعته ، لأن النفوس مجبولة على محبة من أحسن إليها .
     وفي صحيح مسلم ( 4/ 2004 ) : عن عائشة _ رضي الله عنها _ : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا يُنْزَع من شيء إلا شانه )) .
     فالرفقُ _الذي هو ضد العنف_ عندما ينتشر في الأشياء، فإن هذه الأشياء تكسب زينةً وبهاء، وتصل إلى النفوس ، وتتحقق المطالب دون عناء . أما غيابُ الرفق عن الأمور ، فسببٌ رئيس في جعل الأمور قبيحةً بعيدة عن القبول . فأكبر ظلم يلحق بالمعاني السامية أن توضع في قوالب قبيحة.
5_ دفع السيئة بالحسنة :
     قال الله تعالى : (( ادْفَعْ بالتي هِيَ أحسنُ السيئةَ )) [ المؤمنون : 96] .
     وهذا أمرٌ إلهي عظيم للنبي صلى الله عليه وسلم وأُمته بأن يقابل الإساءةَ بالإحسان، وأن يتحلى بمكارم الأخلاق لجذب قلوب الناس ، وتحويل العداوة إلى صداقة ، ونقل الأعداء من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان فيصيرون حملةً للرسالة ، ودعاةً للفضيلة ، ومناصِرين للدعوة .
     وقال الطبري في تفسيره ( 9/ 241) : (( ادفع يا محمد بالْخَلة _ الصفة _ التي هي أحسن وذلك للإغضاء والصفح عن جهلة المشركين ، والصبر على أذاهم ، وذلك أمره إياه قبل أمره بحربهم . وعنى بالسيئة : أذى المشركين إياه ، وتكذيبهم له فيما أتاهم به من عند الله )) اهـ .
6_ الامتناع عن إثارة الخصم :
     قال الله تعالى: (( ولا تَسُبوا الذين يَدْعون من دون الله فَيَسُبوا اللهَ عَدْواً بغير عِلْم ))[ الأنعام : 108] .
     أي: لا تشتموا آلهةَ المشركين وأوثانهم، فيشتموا اللهَ تعالى جهلاً وظلماً وحميةً للباطل واعتداءً على مقام الله العظيم .
     وهذه الآيةُ منهاج متكامل في منع إثارة الخصم واستفزازه ، وحشره في الزاوية ، حتى لو كان في ذلك مصلحة إلا أنه ينتج عنه مفسدة أكبر وأشد خطورة . وهنا تتجلى حكمة سد الذرائع الموصلة إلى المفاسد الكبيرة . و(( قال العلماء : حُكمها _ أي الآية _ باق في هذه الأمة على كل حال ، فمتى كان الكافر في مَنَعة ، وخِيف أن يَسُب الإسلامَ ، أو النبي _ عليه السلام _ ، أو اللهَ _ عز وجل _ ، فلا يحل لمسلم أن يَسُب صلبانهم ، ولا دينهم ، ولا كنائسهم ، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك ، لأنه بمنزلة البعث على المعصية )).
[تفسير القرطبي ( 7/ 55) .].
     وفي الدر المنثور ( 3/ 339 ) : (( عن قتادة قال: كان المسلمون يَسُبون أصنامَ الكفار ، فيسب الكفارُ اللهَ ، فأنزل اللهُ : [ ولا تَسُبوا الذين يَدْعون من دون الله ] )) اهـ .
     فعلى المرء أن ينظر وراء الأمور من حيث الموازنة بين المصالح والمفاسد ، ولا يغرق في اللحظة الآنية بحماس وتسرّع دون معرفة عواقب الأمور . فقبل فتح الباب ينبغي التفكير فيما سيأتي منه . فلا مفر من ترك المصلحة إذا كان سينتج عنها مفسدة أكبر .
7_ لا غُلُو في الدين :
     قال الله تعالى : (( يا أهلَ الكتاب لا تَغْلُوا في دِينكم )) [ النساء : 171] .
     فاللهُ تعالى يأمر أهلَ الكتاب بعدم الغُلُو في الدين، أي عدم مجاوزة الحد، والتطرف ، والانحراف عن الطريق المستقيم . فالغلو طريقُ الضلال والابتعاد عن جادة الصواب ، وله تأثيرات سلبية على الحياة والأفكار والإنسان .  
     وقال الطبري في تفسيره ( 4/ 372 ) : (( لا تجاوِزوا الحق في دينكم فتفرِّطوا فيه ، ولا تقولوا في عيسى غير الحق ، فإن قيلكم في عيسى إنه ابن الله قول منكم على الله غير الحق ، لأن الله لم يتخذ ولداً ، فيكون عيسى أو غيره من خلقه لا ابناً )) اهـ .
     وقد غلا اليهودُ في المسيح صلى الله عليه وسلم حتى قذفوا أُمه السيدةَ مريم _ عليها السلام _ ، فرموها بالزنا . وقد قال الله تعالى : (( وَبِكُفْرِهِم وَقَوْلِهِم عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً ))           [ النِّساء:156].
     قال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 762 ) : (( قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني أنهم رموها بالزنا ، وكذلك قال السدي وجبير ومحمد بن إسحاق وغير واحد، وهو ظاهر من الآية أنهم رموها وابنها بالعظائم وجعلوها زانية وقد حملت بولدها من ذلك ، زاد بعضهم وهي حائض ، فعليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة )) اهـ .
     أما النصارى فقد غرقوا في التطرف والغُلُو عكس اتجاه اليهود ، فقد اعتبروا المسيح صلى الله عليه وسلم إلهاً . وكلا الأمرين تطرّف وغُلُو من جهتَيْن متعاكستَيْن. فالفضيلةُ هي المنزلة الوسط بين خُلقَيْن ذميمَيْن. وصدق الشاعر إذ يقول :
ولا تَغْلُ في شيء من  الأمر واقتصدْ           
كلا طَرَفي قصد الأمور ذميـــم
8_ الاضطهاد بسبب العقيدة لا يجوز :
     إن الذين يفتقدون إلى العقيدة الصحيحة ، ولا يملكون الحُجةَ الساطعة ، ولا يقدرون على المناقشة والمحاجَجة بالأدلة والبراهين سوف يلجأون إلى العنف اللفظي والجسدي ضد المخالِفين ، والتنكيل بهم، والتضييق عليهم بشتى الوسائل، في محاولة لدفعهم إلى التخلي عن عقيدتهم بالإكراه.
     ولا يمكن للإيمان والإكراه أن يجتمعا في قلب شخص ما . فالإيمان قولٌ وعملٌ ، ينبع من إرادة داخلية ، وقبول ذاتي ، ولا سُلطة لمخلوق _ مهما بلغ من النفوذ والمكانة _ على قلوب الناس . والإيمان مقرّه القلب .
     قال الله تعالى : (( لَتُبْلَوُن في أموالكم وأنفسكم وَلَتَسْمَعُن من الذين أُوتوا الكتابَ مِن قبلكم ومن الذين أَشركوا أذىً كثيراً )) [ آل عمران : 186] .
     هذا الخطابُ الإلهي الجليل للنبي صلى الله عليه وسلم وأُمته بأنه سوف يصيبهم بلاء واختبار في أموالهم وأنفسهم (( بالمصائب والإنفاقات الواجبة وسائر التكاليف الشرعية المتعلقة بالأموال ، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض وفقد الأحباب والقتل في سبيل الله )).
{ فتح القدير للشوكاني ( 1/ 614 ) . }.
     كما أن المؤمنين سيتعرّضون من قبل اليهود والنصارى والمشركين لعنفٍ لفظي يتضمن تكذيبَ الله تعالى ، والطعنَ في الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين . وهذا هو منهج الكافرين في اضطهاد المؤمنين لإيمانهم بالله تعالى ، وثباتهم على الحق . وأهلُ الكفر يقومون بهذا في محاولة يائسة منهم لتشكيك المؤمنين بدينهم ، والسعي إلى ارتدادهم عن الإسلام .
     وفي الدر المنثور ( 2/ 396 ) : (( عن ابن عباس قال : دخل أبو بكر بيت المدراس ، فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص ، وكان من علمائهم وأحبارهم . فقال أبو بكر : ويلكَ يا فنحاص ! اتقِ الله وأسلم ، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله ، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة ، فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر ، وإنه إلينا لفقير ، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان غنياً عنا ما استقرض منا_كما يزعم صاحبكم _ ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنياً عنا ما أعطانا الربا . فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربةً شديدة ، وقال : والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكَ لضربتُ عنقكَ يا عدو الله، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا محمد ، انظر ما صنع صاحبك بي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : " ما حملك على ما صنعت ؟ " ، قال : يا رسول الله ، قال قولاً عظيماً : يزعم أن الله فقير، وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبتُ لله مما قال فضربتُ وجهه، فجحد فنحاص ، فقال : ما قلتُ ذلك. فأنزل الله فيما قال فنحاص تصديقاً لأبي بكر : [ لقد سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الذِينَ قَالُوا إِن اللهَ فَقِيرٌ ] الآية  .. [ آل عمران :  181]  . ونزل في أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب  : [ وَلَتَسْمَعُن من الذين أُوتوا الكتابَ مِن قبلكم ومن الذين أَشركوا أذىً كثيراً ] { قال الحافظ في الفتح ( 8/ 231 ) : (( وروى ابن أبي حاتم وابن المنذر بإسناد حسن عن ابن عباس أنها نزلت فيما كان بين أبي بكر وبين فنحاص اليهودي )) اهـ . }
 )) .
     وقال الله تعالى : (( الذين أُخرِجوا من ديارهم بغير حَق إلا أن يقولوا رَبنا اللهُ )) [ الْحَج : 40] .
     فالاضطهاد الذي تعرّض له المسلمون بسبب إيمانهم بالله تعالى ، وتمسكهم بالعقيدة وعدم الانحراف عنها، هو اضطهاد مبرمَج تم التخطيط له مسبقاً على أيدي المشركين لكي يَرُدوا المسلمين عن إسلامهم _ حسب رؤية المشروع الجاهلي الوثني _ . فالمشركون لا عقيدة صحيحة تحكمهم وتردعهم عن الباطل ، لذلك يسعون _ بكل جهدهم _ إلى إرهاب المؤمنين بشتى الوسائل .
     فالمشركون قد أخرجوا المسلمين من ديارهم في مكة للضغط عليهم ، وإذلالهم ، وثنيهم عن الدعوة الإسلامية . وإخراجُ الإنسان من وطنه _ بشكل قسري _ مثل قتله . فهذا يُسبِّب له ألماً نفسياً بالغاً ، وجرحاً عميقاً في ذاته ، وهذا ما كان يطمح المشركون إليه من أجل إخضاع المسلمين لإرادتهم وردِّهم إلى الكفر، لكن الثبات على العقيدة كان السمة المميزة للمسلمين الذين لم يتركوا الدعوةَ الإسلامية في السراء ولا الضراء رغم الضغوطات الهائلة عليهم .
     وقال الطبري في تفسيره ( 9/ 162) : (( وعنى بالمخرَجين من دورهم : المؤمنين الذين أخرجهم كفار قريش من مكة ، وكان إخراجهم إياهم من دورهم وتعذيبهم بعضهم على الإيمان بالله ورسوله ، وسبهم بعضهم بألسنتهم ، ووعيدهم إياهم ، حتى اضطروهم إلى الخروج عنهم، وكان فعلهم ذلك بهم بغير حق لأنهم كانوا على باطل ، والمؤمنون على الحق )) اهـ .
9_ عدم التعصب :
     إن الدعوة الإسلامية منهاجٌ إنساني عقلاني متكامل ، لا مكان فيه للإكراه والتعصب والتسليم الأعمى . وهذا المنهاج قائم على الشريعة الدينية ، ويحتوي على الحجج والبراهين ، ويجيب عن أسئلة الناس بصدر رحب ، فيزيل الشكوكَ ، ويُثبِّت مكانها اليقين . لا يقمع الآخرين ، ولا يجبرهم على اعتناق الإسلام بالسيف ، فالدين هو تسليمٌ قلبي ، والسيفُ لا يمكن أن يصل إلى القلوب .
     وقد امتاز المسلمون بطرح التعصب جانباً ، واتباع الحق أيما وُجِد ، فالحكمةُ ضالة المؤمن أنّا وجدها فهو أحق بها ، وينبغي أخذ الحكمة لا يضرّكَ من أي وعاء خَرجتْ .
     وإننا لنجد المنهج القرآني واضحاً في اعتناق الحق ورفض التعصب : (( وإنا أو إياكم لعلى هُدىً أو في ضَلالٍ مُبين )) [ سَبأ : 24] .
     والمؤمنون يعلمون أنهم أصحاب الإيمان والحق ، وأنهم على الهدى ، وغيرهم على الضلال. وهذا الأسلوب اللغوي في المحاجَجة [ وإنا أو إياكم ] يشير إلى المسامَحة ، وتلطيف الأجواء ، وجذب قلوب الخصوم ، لا أن المؤمنين أصحاب شك أو عدم إيمان . وهذا من الأدب في المناظرة ، وحسنِ التخاطب والمحاوَرة .
     قال البغوي في تفسيره ( 1/ 399 ) : (( ليس هذا على طريق الشك ، ولكن على جهة الإنصاف في الحِجاج ، كما يقول القائل للآخر : أحدنا كاذب ، وهو يعلم أنه صادق ، وصاحبه
كاذب )) اهـ .
     فهناك فريقٌ واحد على الحق ، والآخر على الباطل ، فمن المحال أن يكون الطرفان على الحق . فأحدُ الفريقَيْن مهتدٍ، والآخر ضال. والمسلمون هم على الحق ، فقد قدّموا البراهين النقلية والعقلية على التوحيد ، وأقاموا الحُجّةَ على المشركين الذين عجزوا عن تقديم أي دليل يشير إلى صحة عقيدتهم الوثنية .
     وعلى الجانب الآخر نجد تعصبَ الكافرين، وعنادهم، واعتناقهم للباطل بدون حُجّة أو برهان. وقد ذكر اللهُ تعالى قولَهم : (( ولا تؤمنوا إلا لِمَن تَبِعَ دِينكم )) [ آل عمران : 73] .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 496 ) : (( أي لا تطمئنوا أو تظهروا سِركم وما عندكم إلا لمن تبع دينكم ، ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين فيؤمنوا به ويحتجوا به عليكم )) اهـ .
     وفي هذه الآية توضيح بليغ لتعصب الكافرين ، واتباعهم لأهوائهم ومصالحهم الشخصية ، وانحرافهم عن طريق الحق والبحث عن الحقيقة .
     فالمتعصِّب هو إنسان فاقدٌ لبوصلة الإنصاف ، يتبع هواه بغير علم ، ويترك عقلَه جانباً . فلو كان باحثاً _ بجدية _ عن الحقيقة لبذل في سبيل تحصيلها الغالي والنفيس ، وأخذها بغض النظر عن مصدرها . لكنّ ضغوطات الأهواء والمنافع الذاتية والنفوذ والمكاسب الدنيوية الدنيئة أدّت إلى
حجب نور الحق عن عقل ذلك الإنسان، تماماً كالستارة التي تمنع وصول ضوء الشمس إلى الغرفة.
     والقاعدةُ الذهبية في هذا السياق هي : اعرف الحقّ تعرف رجالَه . فالرجالُ يُعرَفون بالحق ، وليس العكس . وهذا يطرح التعصبَ جانباً .
     كما أن التعصب يأخذ أشكالاً متعددة مثل التعصب للمذهب ، والتعصب للقبيلة ، والتعصب للآباء ، والتعصب للرأي ... إلخ . وهو بالتأكيد صفةٌ جاهلية ، تتفشى في البيئات الجاهلة المفتقدة إلى قيمة العلم ، وسُمُو الحق .
     وفي صحيح مسلم ( 3/ 1476 ) : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ... ومن قاتل تحت راية عِمية ، يغضب لعُصبة ، أو يدعو إلى عُصبة ، أو ينصر عُصبة ، فقُتِل ، فقتلةٌ جاهلية )) .
     فهذا المنضوي تحت راية عمياء ، إنما خضع لها لأنه أعمى تحرِّكه الأهواء والمنافع الذاتية والعصبية القبلية . فهو يقاتل لشهوة نفسه وغضبه ، ونزولاً عن رأي قبيلته وتعصباً لها دون تمييز الحق من الباطل . فهذا إن قُتل فقتلةٌ جاهلية لا نصيب للإسلام فيها ، لأنها لم تستند إلى الإخلاص
والسير وفق السنة النبوية الشريفة .
     فينبغي على المرء أن يُوطِّن نفسَه على الخضوع للحق ، وأن يتقبّله بكل صدر رحب بغض النظر عن مصدره لئلا يكون من الذين تأخذهم العِزّةُ بالإثم فيتمسكون بالباطل تبعاً للهوى ، وحفظاً لمكانتهم أمام الناس. فاتباعُ الحق هو الشرف الأسمى ، والسعي وراء الحقيقة في كل الأزمنة والأمكنة يدل على رجاحة عقل الإنسان ومكانته السامية . كما أن الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل ، والمراوغةِ ، ومحاولةِ الالتفاف على الحق هروباً منه .
     قال الشوكاني في فتح القدير ( 2/ 354 ) : (( والمتعصِّب وإن كان بصره صحيحاً ، فبصيرته عمياء ، وأُذنه عن سماع الحق صَمّاء ، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل ، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق غفلةً منه وجهلاً بما أوجبه اللهُ عليه من النظر الصحيح،وتلقي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم )) اهـ .
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى             
ومنهج الحق له واضـح
     إن الدعوة الإسلامية ليست فعلاً ارتجالياً حماسياً على غير هدى . ولا تكفي النيةُ الصالحة وَحْدَها في صناعة مشروع دعوي متماسك . فالنيةُ الصالحة لا تُصلِح العملَ الفاسد . وكما يقال إن الطريق إلى الجحيم مُعبّد بالنوايا الحسنة ! .
     إذن ، لا بد من وجود هدف تنطلق منه الدعوة ، ووجود مسار مستقيم لكي تسير عليه الدعوة . فيتوجب معرفة القواعد الشرعية التي تُوضِّح ماهيةَ الدعوة . وعلى الداعية أن يدرس طبيعةَ الناس واستعدادهم النفسي لتقبل الكلام الإيماني ، ويدرس _ كذلك _ حركةَ التاريخ والتغيرات المجتمعية والاختلافات البشرية ، كي تكون الدعوةُ أشد تأثيراً في النفوس ، وليس كلاماً في الهواء يملأ المجالس دون نتائج ملموسة .