الجهاد في سبيل الله
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
1_ الدعوة إلى الجهاد :
قال الله
تعالى : (( وقَاتِلوا في سبيل
الله الذين يُقاتِلونكم )) [ البقرة : 190] .
فاللهُ
تعالى يأمر المؤمنين بقتال مَن يرفع السلاحَ في وجوههم ، وهؤلاء الذين يُقاتِلون
المؤمنين كفارٌ محارِبون لا مجال للإجراءات السلمية معهم أو الحوار ، لأنهم اتخذوا
طريقَ العنف المسلح ، فلا بد من ردعهم عسكرياً . واللهُ تعالى يدعو المؤمنين إلى
الجهاد ويُعلِي من معنوياتهم .
أما عن سبب
نزول هذه الآية فقد روى السيوطي بإسناده في لباب النقول ( 1/ 137) عن ابن عباس_
رضي الله عنهما_قال: (( نزلت هذه الآية في صلح الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لما صُد عن البيت ، ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه القابل،
فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفيَ قريش بذلك
، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم ، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام ،
فأنزل الله ذلك )) اهـ .
وقال الطبري
في تفسيره ( 2/ 195 ) : (( اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية ، فقال بعضهم هذه
الآية هي أول آية نزلت في أمر المسلمين بقتال أهل الشرك ، وقالوا أمر فيها
المسلمون بقتال من قاتلهم من المشركين والكف عمن كف عنهم ثم نُسخت بِـ براءة ))
اهـ .
من الواضح
من سياق الآية الشريفة [ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ
وَلا تَعْتَدُوا ] [ البقرة : 190]
أن القتال في هذه الآية مقيّد ضمن ثلاث نقاط
مركزية ومحورية ، الأولى : أن القتال يجب أن يكون في سبيل الله تعالى، وليس في
سبيل المصالح الذاتية الآنية ، وليس من أجل استعباد الآخرين وسحقهم وابتزازهم
وسرقتهم ، والثانية : أن القتال مُوَجّه ضد الكفار المحارِبين فقط دون البدء في
القتال ، فهذه حالة رد فعلٍ وليس فعلاً ابتدائياً ، والثالثة : عدم الاعتداء
والتمادي والتجاوز ، فالهدف هو رد العدوان فقط .
ونحن لا
نعتقد بأن الآية منسوخة ، لأنها آية محكمة وقاعدة عامة تأصيلية شاملة لا يُمكِن أن
تُنسَخ مطلقاً ، أما الذين يعتقدون بنسخها معتمدين على آيات أخرى في القتال ، فكل حالة
لها وضعها الخاص بها ، وكل الآيات تُجمَع معاً دون تعارض يقتضي اعتقادَ النسخ . إذ
إن كل آية تتحدث عن حالة خاصة بعينها لا تتعدى إلى حالة أخرى . ومن غير المنطقي أن
نخلط بين أحكام
الآيات ، لأن كل حُكْم قادم لعلاج وضعية معينة ،
واستئصالِ كل القيم السلبية فيها .
ولا يخفى أن
القاعدة الشرعية العامة التأصيلية هي تقديم الجمع والتوفيق بين النصوص الشرعية قبل
الذهاب إلى النسخ أو الترجيح .
وقال الله
تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا خذوا حِذْرَكم فانفِروا ثُباتٍ أو انفِروا جميعاً
)) [
النساء : 71] .
والآيةُ
تُوضِّح منهجيةَ الجهاد المقدّس لإعلاء راية الإسلام ودحر المعتدين . فينبغي أخذ
الحِيطة والحذر والاستعداد لمواجهة العدو وفق أصول التخطيط العسكري لا الاندفاع
المتهور . فالجهادُ منظومةٌ إيمانية متماسكة ذات أصول ثابتة وفروع قوية ، لا هَبّةٌ
عشائرية جاهلة معتمدة على التعصب القَبَلي . وقد خيّرهم اللهُ تعالى بين الخروج
للجهاد جماعاتٍ متفرقة ، واحدة تلو واحدة ، أو الخروج دفعةً واحدة كجيش كثيف .
وعن
ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا هجرة
بعد الفتح _ أي فتح مكة _ ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا )).
[متفق
عليه . البخاري( 3/ 1025) برقم( 2631) ، ومسلم ( 3/1488) برقم ( 1864) .].
فوجوبُ
الهجرة من مكة قد انقطع بفتحها لأنها صارت دارَ إسلام . ولكن بقي الجهادُ حسب
الأوضاع المختلفة ، وإذا تَمّت الدعوةُ إلى الجهاد فلا بد من الإجابة وعدم القعود
. فإذا طلب الإمامُ الناسَ للجهاد فعليهم الخروج . وإذا فات الناسَ تحصيلُ ثواب
الهجرة بسبب انقطاعها ، فما زال بابُ الخير وتحصيل الأجر مفتوحاً بالجهاد والنية
الصالحة . والجدير بالذِّكر أن في الحديث بشارة تتعلق باستمرار مكة دارَ إسلام حتى
يوم القيامة .
وقد نقل النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 13/ 8 ) تأويلَيْن للحديث : (( أحدهما
: لا هجرة بعد الفتح من مكة لأنها صارت دارَ إسلام،فلا تُتصور منها الهجرة. والثاني:_
وهو الأصح_ أن معناه أن الهجرة الفاضلة المهمة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازاً
ظاهراً انقطعت بفتح مكة ومضت لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة لأن الاسلام قَوِيَ وعَزَّ
بعد فتح مكة عِزاً ظاهراً بخلاف ما قبله )) اهـ .
والجهادُ فرضُ كفاية إذا فعله البعضُ سقط عن الآخرين ، وإذا لم يقم به أحد
فالجميعُ آثمون .
فإذا نزل العدو في بلد المسلمين فيصبح الجهادُ فرضَ عَيْن يجب على أهل ذلك البلد
، فإن لم
يقدروا على استئصال العدو ، فإن الذين يلونهم
يتوجب عليهم الجهاد ضمن دائرة تتسع وتضيق حسب القدرة على إزالة العدو أو عدمها .
وقد تتسع دائرةُ الجهاد فيُصبح فرضَ عَيْن على الأُمة كلها. وفي زمن النبي صلى
الله عليه وسلم كان الجهادُ فرضَ كفاية، لأن السرايا كانت تغزو ، وفيهم بعض
الصحابة دون بعض .
وقال الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتُم الذين كفروا زَحْفاً فلا
تُوَلوهم الأدبارَ ))
[ الأنفال : 15] .
وهذه الآيةُ فيها بيانٌ لكبيرة من الكبائر ، وهي التولي يوم الزحف ، أي
الهروب من الأعداء أثناء المعركة . وهذا كارثةٌ شنيعة لأنها تضرب جيشَ المسلمين في
الصميم ، وتكسر معنوياتِه ، وتثير البلبلةَ في الصفوف ، وتعطي صورةً سلبية عن
المجاهِدين بأنهم قوم جبناء خائفون ، وتُشوِّه سمعةَ الإسلام وتفتح المجالَ
للطاعنين فيه . فالهروبُ من المعركة يعطي نصراً مجانياً لأعداء الله تعالى ،
فتظهرُ رايةُ الإسلام ضعيفة منكسرة ، ورايةُ المشركين عاليةً خفاقة ، وهذه كارثة
ما بعدها كارثة .
والصمودُ في المعركة ليس عمليةً سهلة فهي بحاجة إلى تثبيت الله تعالى
وتأييده ، وقوةٍ إيمانية راسخة في قلب العبد . فالكلامُ عن بُعد سهلٌ ، أما حينما
يكون المرءُ في المعركة والسيوفُ تبرق والرؤوس تتطاير ، فهذا الاختبار الحقيقي الذي
يكشف عن معادن الرجال .
وقد عبّر القرآنُ عن جيش الأعداء بالزحف ، وفي هذا تصويرٌ بليغ لصعوبة
الموقف . فمن كثرة الجنود والكتائب المتراصة يبدو الجيشُ وكأنه يزحف زحفاً ، وهذه
الصورة تشير إلى عظمة المواجهة في المعركة ، وقسوتها ، فلا يصمد فيها إلا الرجالُ
المؤمنون حقَّ الإيمان .
وعن
أبي هريرة _ رضي الله عنه _ : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( اجتنبوا السبعَ
الموبقات )). قالوا : يا رسول الله وما هن ؟ ، قال : (( الشرك بالله ، والسحر ، وقتل
النفس التي حَرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتوَلي يوم الزحف
، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات )).
[متفق عليه . البخاري ( 3/1017) برقم( 2615) ،
ومسلم ( 1/ 92) برقم ( 89) .].
فالتولي يوم الزحف ( الهروب من المعركة ) من الكبائر السبع الرئيسية التي
تُهلِك صاحبَها ، لأنها تدميرٌ للقوة الإسلامية ، وسحق للروح المعنوية ، وكسر
لراية الإسلام ، ويترتب على الهروب من المعركة انهيار جهود المسلمين ووقوعهم بين
قتيل وأسير ، وحدوث خسائر مادية كبرى . وهذا تدمير حقيقي للدولة الإسلامية .
وقال الله تعالى: (( إن الله يحب الذين يُقاتِلون في سبيله صَفاً كأنهم
بُنيان مرصوص ))[ الصف : 4] .
وهذا درسٌ إلهي لكيفية القتال . فاللهُ تعالى يحب الذين يُقاتِلون في سبيله
_ لإعلاء كلمته ورفع راية التوحيد _ صفاً متماسكاً متراصاً لا ثغرات فيه ، ولا ضعف
. فهم ثابتون كالبناء الشامخ الذي لا يتزعزع أمام التحديات الجسيمة .
قال ابن كثير في تفسيره ( 4/ 458 ) : (( فهذا إخبار من الله تعالى بمحبته عباده
المؤمنين إذا صَفوا مواجِهين لأعداء الله في حَوْمة الوغى يُقاتِلون في سبيل الله من
كفر بالله لتكون كلمةُ الله هي العليا ، ودينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان
)) اهـ .
ومن الأصناف الذين يحبهم اللهُ تعالى : (( رَجل غزا في سبيل الله صابراً محتسباً
مجاهداً فلقي العدو فقاتل حتى قُتل )) .
{ رواه
الحاكم في المستدرك من حديث أبي ذر_رضي الله عنه_ مرفوعاً ( 2/ 98) برقم ( 2446)
وصححه ووافقه الذهبي .}.
وهذا يشير إلى الصلابة في المواجهة ، والثباتِ على موقف الحق ، وعدم
الاهتزاز في لحظات الشدة . فالصبرُ هو مفتاح الفَرَج ، وهو مفتاح النصر . ولا يخفى
أن الجهاد قائم على منظومة الإيمان ، والصبر ، والاستعداد النفسي والمادي .
والشجاعة صبر ساعة ، والأقدر على التحمل هو من سيفوز في نهاية المطاف .
2_ النهي عن الاعتداء
:
قال الله
تعالى : (( ولا يَجْرِمَنكم شَنآنُ
قَوْمٍ أن صَدوكم عن المسجد الحرام أن تَعتدوا )) [ المائدة : 2] .
وهذه الآية
تشير إلى منهجية الإسلام في العدالة ونشرها ، وعدم تعلقها بالمحبة والكراهية . فقد
نهى اللهُ تعالى المؤمنين عن الاعتداء على المشركين مع أنهم قومٌ وثنيون قاموا بصد
المؤمنين عن البيت الحرام ، ومنعهم من الوصول إليه .
قال ابن
كثير في تفسيره ( 2/ 5 ) : (( ومعناها ظاهر : أي لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صَدوكم
عن الوصول إلى المسجد الحرام _ وذلك عام الحديبية _ على أن تعتدوا حُكمَ الله فيهم
فتقتصوا منهم ظلماً وعدواناً ، بل احكموا بما أمركم الله
به من العدل في حق كل أحد )) اهـ .
فعلى الرغم
من أفعال المشركين القبيحة واعتدائهم بدافع العناد والجهل والحمِية ، إلا أن
الاعتداء عليهم منهي عنه ، لأن الإسلام دين حق وعدالة يتم تطبيقه على كلِّ الناس _
مؤمنهم وكافرهم _ ، فالعدالةُ من المنظور الإسلامي ليست قيمةً نسبية أو إجراء
تمييزياً لصالح المؤمنين ضد الكافرين . إنها منظومة تشمل الجميعَ ، توقف الظالمَ
عند حده ، وتُنصِف المظلومَ ، سواءٌ كان مسلماً أم كافراً .
وعن أبي هريرة
_ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أَد الأمانةَ إلى من
ائتمنك ، ولا تخن من خانك )).
{ رواه
الحاكم في المستدرك ( 2/ 53) برقم ( 2296 ) وصححه ، ووافقه الذهبي . }.
فالمنظومةُ
الأخلاقية في الإسلام ذات طبيعة كَوْنية شاملة ، وليست معطفاً يرتديه المسلمُ متى
شاء ويخلعه متى شاء. إنها منظومة قِيَمِية جاءت لإسعاد البشرية جمعاء،وانتشالها من
مأزقها الوجودي الحاد. فالمسلمُ والكافر يجدان فيها العدالة وحماية مصالحهما .
وهذه نقطة شديدة الأهمية، ففي الحضارات المنقطعة عن السماء تكون المنظومةُ
الأخلاقية تياراً طبقياً احتكارياً لاضطهاد الآخرين والتمييز ضدهم . أما في
الحضارة الإسلامية المتصلة بالسماء فالفكرُ الأخلاقي هو سفينة نجاة للجميع ، وقد
رأينا نماذج كثيرة جداً في الحضارة الإسلامية تُصدَر فيها أحكام لصالح كافرين ضد
مسلمين ، لأن العدالة هي الشرعيةُ الأخلاقية الحضارية بغض النظر عن عقائد الناس .
3_ الجنوح إلى السلم :
قال الله
تعالى : (( وإن جَنَحوا للسلْم
فاجْنَحْ لها )) [ الأنفال : 61] .
إن الحرب في
الإسلام هي الاستثناء لا القاعدة ، وهي حالة مؤقتة لإعادة الأمور إلى نصابها
الصحيح عبر استئصال الشر ، وتعميم الخير . والنبي صلى الله عليه وسلم يُحارِب
بكرامة وعِزة ، ويُسالِم بشموخ وثقة . فالسلامُ والحربُ في حياة النبي صلى الله
عليه وسلم إنما هما تنفيذ للأوامر الإلهية لا الاستجابة
لحظوظ النفس.
قال الطبري في تفسيره ( 6/ 278 ) : (( وإن مالوا إلى مسالمتك
ومتاركتك الحرب ، إما بالدخول في الإسلام ، وإما بإعطاء الجزية ، وإما بموادعة ونحو
ذلك من أسباب السلم والصلح ...
فَمِلْ إليها ، وابذل لهم ما مالوا إليه من ذلك
)) اهـ .
ولا يخفى أن قرار الحرب والسلام مرتبط بمصلحة الأمة الإسلامية ، فأحياناً
تكون المصلحة واضحةً في الحرب لأن السلام طريقه مسدود ولا يؤدي إلى نتائج ،
وأحياناً تكون المصلحة في السلام إذا عجزت الأمة عن خوض الحروب ، وكان السلامُ
يحقق لها أهدافَها . وهذا الأمر تُحدِّده القيادةُ .
4_ المعاملة بالمثل :
قال الله
تعالى : (( فَمَن اعتدى عَلَيْكم
فاعتَدوا عَلَيْه بِمِثْل ما اعتدى عَلَيْكم )) [ البقرة : 194] .
إن الإسلام
دين السلام والتسامح والأخوة البشرية . والقيمُ الأخلاقية الإسلامية نابعة من موقف
قوة لا موقف ضعف واستسلام . فالقيمُ النبيلة في الشريعة تعكس شخصيةَ المؤمن الشامخ
الواثق بنفسه لا شخصية الفرد العاجز المغلوب على أمره .
وفي حالة
تعرض المسلمين إلى اعتداء فعليهم أن يَرُدوه دفاعاً عن أنفسهم دون تجاوز الحد . فاعتداءُ
الكافرين ظلمٌ ، ورد عدوانهم من قبل المسلمين عدلٌ . فعدوانُ الكافرين هو ابتداء
للظلم، وهو بمعنى التمادي في الباطل، وتجاوز طريق الحق. أما عدوان المؤمنين فمعناه
رد الإساءة والتصدي للباطل لردعه ودحضه . ومن الأهمية بمكان أن يؤخذ على يد الظالم
ويُوقف عند حده لكي يرتدع غيره ، أما ترك الأمور للفوضى والعبث بحُجة التسامح
والأخوة ، فهذا لا يقول به عاقل . لذلك ينبغي وضع الأمور في نصابها الصحيح . فلا
بد من استخدام القوة في المواضع التي تتطلب ذلك للحفاظ على الأرواح والممتلكات .
وقال الطبري
في تفسيره ( 1/ 165 ) : (( فالعدوان الأول ظلم، والثاني جزاء لا ظلم ، بل هو عدل لأنه
عقوبة للظالم على ظلمه ، وإن وافق لفظُه لفظَ الأول )) اهـ .
5_ الحرب في الإسلام :
قال الله
تعالى : (( فإذا لقيتُم
الذين كفروا فَضَرْبَ الرقاب حتى إذا أَثْخَنتموهم فَشُدوا الوَثَاقَ فإما مَناً
بَعْدُ وإما فِداء حتى تضع الحربُ أوزارها )) [ محمد : 4] .
والآيةُ
تدعو إلى ضرب رقاب الأعداء واستئصالهم بكل قوة ، وهذا تعبير أقوى من القتال .
فالصورةُ التي توضحها الآيةُ تشير إلى حصاد الرؤوس . وهؤلاء هُم كفارٌ محارِبون
يرفعون السلاحَ، فلا مجال للرحمة في مواجهتهم . كما أن المسلمين لم يعتدوا عليهم
أو يظلموهم ، ولا يمكن الحوار مع الأعداء المحارِبين رافعي الأسلحة أو تقديم لهم
الورود ، فلا بد من قتلهم لكي يرتدع الآخرون ، وتستقيم حالُ الأرض . وبعد إهلاكهم
بالقتل وانتهاء الحرب ينبغي أسر من بقي على قيد الحياة ، والمؤمنون مُخيّرون بين
إطلاق سراحهم بدون مقابل أو أخذ الأموال منهم لقاء إطلاقهم .
6_ تفضيل المجاهدين :
قال الله
تعالى : (( فَضلَ اللهُ المجاهِدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين
درجةً )) [ النساء : 95] .
وتتجلى
العدالةُ الإلهية في إنزال الناس منازلهم،ومنح الأجر لكل فرد حسب اجتهاده
وإنجازاته. فمن الظلم أن يستويَ المجاهدون الذين يُضحون بأموالهم وأنفسهم مع
القاعدين . واللهُ تعالى مُنَزهٌ عن الظلم ، فقد فضل المجاهِدين على القاعدين
درجةً .
وقال ابن
الجوزي في زاد المسير ( 2/ 174 ) : (( في هؤلاء القاعدين قولان . أحدهما : أنهم القاعدون
بالضرر ، قاله ابن عباس ومقاتل . والثاني : القاعدون من غير ضرر ، قاله أبو سليمان
الدمشقي )) اهـ .
وفي صحيح
البخاري ( 4/ 1610) عن أنس بن مالك _ رضي الله عنه_ : أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم رجع من غزوة تبوك ، فدنا من المدينة ، فقال : (( إن بالمدينة أقواماً ما سِرْتُم
مسيراً ولا قطعتُم وادياً إلا كانوا معكم )) . قالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة ؟
، قال : (( وهم بالمدينة ، حبسهم العُذر ))
.
فالرحمةُ
الإلهية واسعة شاملةٌ لكل شيء . فهؤلاء الذين حبسهم العُذر هم مشارِكون في الجهاد
بأرواحهم وقلوبهم . ولو كانوا قادرين على الحركة لما تأخروا في الالتحاق بركب
المجاهدين . فالنيةُ الصالحة جعلتهُم في قلب الحدث يسيرون مع الجيش ويقطعون
الوديان معه ، وينالون أجورهم نتيجة نِيتهم الصادقة التي لم يقدروا على ترجمتها
واقعاً عملياً بسبب العُذر. وفي هذا المعنى يقول الشاعر :
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد
سِرْتُم جسوماً وسِرْنا
نحن أرواحا
إنا أقمنا على عُذر
وعن قَـدَر
ومن أقام على عذر فقد راحـا
وفي صحيح
البخاري ( 3/ 1028 ) : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : (( إن في الجنة مائة درجة أعدها اللهُ للمجاهدين في سبيل الله ، ما
بين الدرجتَيْن كما بين السماء والأرض )) .
وهذا يشير
إلى مكانة المجاهدين السامية ، وحجمِ النعيم الذي ينتظرهم ، جزاءً لهم على حسن
فعالهم ، وصمودهم في المعارك ، وجهادهم لرفع كلمة الله تعالى .
7 _ ذم المتخاذلين عن
الجهاد :
قال الله
تعالى : (( فَرِحَ المخَلفون بمقعدهم خِلاف رسول الله وكرهوا أن
يُجاهِدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قُل نارُ جهنم
أشد حَراً لو كانوا يَفقهون ))[ التوبة : 81] .
إن التخاذل
عن الجهاد ، والهروب منه ، ومحاولة التملص من استحقاقاته ، كل ذلك يكشف عن قلب
فاسد عامرٍ بالانحرافات لم يثبت فيه الإيمان . فهؤلاء المنافقون الذين فرحوا لأنهم
هربوا من الجهاد ( غزوة تبوك )، وكرهوا التضحيةَ بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله،
هم يلعبون بمصيرهم، ويُضيِّعون أنفسهم في متاع الدنيا الزائل معرِضين عن النعيم
الأُخْرَوِي الخالد . فلن يحصلوا من الدنيا إلا على نَزْر يسير من الراحة ثم يأتون
يومَ القيامة يحملون ذنوبَهم الثقيلة . فإن استراحوا في الدنيا من شدة الحر فما
موقفهم من حَر جهنم يوم القيامة ، ومن سيريحهم منه ؟ . فالتعبُ الدنْيَوي مهما كان
طويلاً فلا بد من نهاية له ، أما الشقاء في الآخرة فسرمدي بلا انتهاء .
قال ابن
كثير في تفسيره ( 2/ 496 ) : (( لو أنهم يفقهون ويفهمون لنفروا مع الرسول في سبيل الله
في الحر ليتقوا به من حَر جهنم الذي هو أضعاف أضعاف هذا )) اهـ .
وفي الدر
المنثور للسيوطي ( 4/ 255 ) عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ : (( أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أمر الناسَ أن ينبعثوا معه وذلك في الصيف . فقال رجال : يا رسول الله
، الحر شديد ، ولا نستطيع الخروج ، فلا تنفروا في الحر ، فقال الله : [ قُل نارُ جهنم أشد حَراً لو كانوا يَفقهون ] فأمره بالخروج )) اهـ .
وهذه الآية تشير إلى جهل المنافقين ، فقد
كان بإمكانهم أن يضحوا بساعة شاقة من أجل راحة دائمة ، لكنهم آثروا النعيمَ الوقتي
الزائل على النعيم الدائم الذي لا يزول . وبالطبع فحر الدنيا لا يُقاس بحر الآخرة
. وعلى الإنسان أن يبنيَ منهجه الحياتي على النظر إلى الماوراء . فالأمورُ مرتبطة
بنتائجها . وإذا تم إدراك شرف النتيجة ورِفعة الغاية يمكن تحمل تعب الوسائل وشدتها
المؤقتة . أما التوقف عن ظواهر الأشياء دون إعمال العقل في تحليلها والوقوف على
أبعادها وما يترتب عليها ، فمن شأنه ضياع المصير الإنساني . وعن أبي هريرة _ رضي الله
عنه _ : أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : (( نارُكم جزءٌ من سبعين جزءاً
من نار جهنم )).
{
متفق عليه.واللفظ للبخاري(3/1191) برقم ( 3092) .ومسلم ( 4/2184) برقم ( 2843). }.
8_ الفرار من المعركة :
قال الله
تعالى:(( قُل لن ينفعكم
الفِرارُ إن فَرَرْتُم من الموت أو القتل وإذاً لا تُمَتعون إلا قَليلاً)) [ الأحزاب : 16] .
فالفرارُ من
المعركة فعلٌ شنيع بلا جدوى ، ولا يعود بفائدة على الإنسان . فالإنسانُ مصيره إلى
الموت سواءٌ كان في المعركة أو في بيته . لكن هناك فرقاً بين الموت في سبيل الله ،
والموت في سبيل الشيطان.
قال الطبري
في تفسيره ( 10/ 272 ) : (( وإذا فررتُم من الموت أو القتل لم يزد فراركم ذلك في أعماركم
وآجالكم ، بل إنما تُمتّعون في هذه الدنيا إلى الوقت الذي كُتب لكم ، ثم يأتيكم ما
كُتب لكم وعليكم )) اهـ .
وقد كان
النبي صلى الله عليه وسلم مضربَ المثل في الثبات في اللحظات العصيبة حيث تتطاير
الرؤوس ، ويتجول الموتُ في المعارك . فقدماه صلى الله عليه وسلم
ثابتتان في أرض المعركة ، يتقدم الصفوفَ ، ولا يفر من القتال ، أو يختبئ في غرفة
العمليات وهو يرى جنودَه يُقتَلون أمامه .
فعن أبي إسحاق
السبيعي : قال رَجل للبراء بن عازب_ رضي الله عنهما_ : أفررتم عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوم حُنَيْن ؟ ، قال : لكن رسول الله لم يَفِر ، إن هوازن كانوا قوماً
رُماة ، وإنا لَما لقيناهم حَمَلْنا عليهم فانهزموا ، فأقبل المسلمون على الغنائم واستقبلونا
بالسهام ، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفر ، فلقد رأيتُه وإنه لعلى بغلته
البيضاء ، وإن أبا سفيان آخذ بلجامها ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( أنا النبي
لا كَذِب ، أنا ابن عبد المطلب )) .
{ متفق
عليه . البخاري ( 3/1051) برقم ( 2709 ) ، ومسلم ( 3/ 1400) برقم ( 1776) . قلتُ :
أبو سفيان المذكور في الحديث هو ابن الحارث بن
عبد المطلب ، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وليس هو أبا سفيان بن حرب والد معاوية
. }.
ففي غزوة
حُنَيْن حصل اهتزازٌ للمسلمين، إذ إنهم هربوا لَما التقوا مع الكافرين، لكن النبي
صلى الله عليه وسلم أعاد تجميعهم بأن رَفَعَ من روحهم المعنوية ، وشَحَذَ طاقاتِهم
، وأثار في نفوسهم مواقفَ الإيمان والإخلاص والرجولة . وهذا الموقف يشير _ بلا ريب
_ إلى صِدق دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلو كان مُدّعياً للنبوة لهرب من
المعركة لكي ينجوَ بنفسه بعد تفرق أصحابه ، لكن عدم فراره يدل على التأييد الإلهي
له ، وصدق دعوته ، وصفاته النبوية الجليلة .
والمجتمعُ
الإسلامي يرفض الفرارَ من المعركة ، ويعتبره جُرْماً وعَيْباً ، لأنه مجتمع حي
وعزيز يستحيل تدجينه بسبب تحركه من منظور إيماني راقٍ . فالمجتمعُ الإيماني ثوري
بطبعه ليس لديه راية بيضاء لكي يرفعها ، وهو قادر على المواجهة _ بكافة أشكالها _
حتى يوم القيامة .
فعن أم سلمة
_ رضي الله عنها _ أنها قالت لامرأة سلمة بن هشام بن المغيرة : ما لي لا أرى سلمة يحضر
الصلاةَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين ، قالت : والله ما يستطيع أن
يخرج ، كلما خرج صاح به الناس: يا فُرار، أفررتم في سبيل الله_عز وجل _ ؟! ، حتى قعد
في بيته فما يخرج.
{ رواه
الحاكم في المستدرك ( 3/ 45) برقم ( 4355) وصححه ، ووافقه الذهبي . }.
وسلمة بن
هشام _ رضي الله عنه _ هو صحابي جليل أسلم قديماً ، وهو ابن عم خالد ابن الوليد _
رضي الله عنه _ . وهذه القصة حصلت بعد العودة من غزوة مؤتة .
قال البوطي
في فقه السيرة ( ص 239 ) : (( وأما سبب قول الناس للمسلمين بعد رجوعهم إلى المدينة
، يا فُرار ، فررتم في سبيل الله ، فهو أنهم لم يتبعوا الرومَ ومن معهم في هزيمتهم
، وتركوا الأرضَ التي قاتلوا فيها كما هي ولم يكن ذلك شأنهم في الغزوات الأخرى ،
واكتفى خالد بذلك فكرّ عائداً إلى المدينة )) اهـ .
ولدينا عدة
وقفات في هذا الموضوع . الأولى : عبقرية خالد بن الوليد _ رضي الله عنه _ الذي حفظ
كرامةَ جيش المسلمين وصورته العظيمة في أذهان الروم . وعرف متى ينسحب بالجيش
انسحاباً مُشرِّفاً بعد البلاء الطيب في أرض المعركة . لذلك
قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لَيْسوا
بالفُرار ولكنهم الكُرار _ إن شاء الله _ )).
{
البداية والنهاية لابن كثير ( 4/ 253 ) وقال : (( وهذا مرسل )) . وانظر تاريخ
الطبري ( 2/ 152 ) ، والسيرة لابن حبان ( 1/ 315 ) ، وسيرة ابن هشام ( 5/ 33 ) . }.
والثانية : عدم قدرة الصحابي الجليل سلمة بن هشام _ رضي
الله عنه _ على مواجهة الناس مع العلم أنه أبلى بلاءً حسناً ، وقام بواجبه على
أحسن وجه ، ولم يُقَصِّر ، ولم يرتكب ما يوجب الندم أو الخجل ، وهذا يشير إلى همته
العالية ، وطموحه العظيم لأداء الأفضل دائماً ، وشعوره المرهف تجاه كلام إخوانه
المسلمين . والثالثة : قوة المجتمع الإسلامي المبني على الإيمان والجهاد والمعتاد
على الانتصارات، فهو لا يرضى بأدنى من استئصال العدو، وإنهاء المعركة من كل
النواحي إنهاءً كاملاً . وهذا لا يتأتى في كل المواقف ، لأن الظروف القاسية
أحياناً تفرض شروطَها على المقاتِلين ، وخالد بن الوليد _ رضي الله عنه _ قائد
المعركة والعقلية العسكرية العالمية الخارقة يَعرف ماذا يَفعل . وبالطبع فإن الذي
يُشاهِد الحدثَ بعينيه على أرض الواقع ليس كمن يَسمع عنه .
9_ إعداد الجيش :
قال الله
تعالى : (( وأعِدوا لهم ما استطعتُم مِن قُوة )) [ الأنفال : 60] .
وهذا توجيهٌ
إلهي إلى أهمية الاستعداد للمعركة والإعدادِ لمواجهة العدو . وتظهر هنا أهمية
الأخذ بالأسباب ، واتخاذ كافة الاستعدادات المعنوية والمادية من أجل قهر العدو ،
والحفاظِ على مكانة الأمة الإسلامية كقوة عظمى مرهوبة الجانب لئلا يطمع فيها أحد .
فلا بد للعقيدة من قوةٍ تحميها ولا بد للقوة من عقيدة تُوَجهها . واللهُ تعالى
قادرٌ أن يَهزم الأعداءَ فوراً سواءٌ استعد المسلمون أم لا ، ولكن الله تعالى يختبر
الناسَ ليميز الخبيثَ من الطيب ، ولِيَعْلم _ سبحانه _ من يلتزم أوامرَه ومن
يُعرِض عنها .
قال القرطبي
في تفسيره ( 8/ 36) : (( فإن الله _ سبحانه _ لو شاء لهزمهم بالكلام والتفل في وجوههم
وبحفنة من تراب كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه أراد أن يَبتليَ بعضَ
الناس ببعض بعلمه السابق وقضائه النافذ )) .
وفي صحيح
مسلم ( 3/ 1522 ) : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( وأَعِدوا لهم ما استطعتُم
من قوة ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي )) .
والقوةُ لفظٌ شامل لكل الإجراءات المعنوية
والمادية الرامية إلى مقارعة العدو وبث الرعب في صفوفه ، واجتثاثه بشكل حاسم ،
وإبقاء صورة الأمة الإسلامية كجيش لا يُهزَم . لكن الحديث اختص الرمي بالذِّكر لما
فيه من مزايا .
وفي فتح
الباري ( 6/ 91 ) : (( قال القرطبي : إنما فَسّر القوةَ بالرمي وإن كانت القوة تظهر
بإعداد غيره من آلات الحرب ، لكَوْن الرمي أشد نكاية في العدو ، وأسهل مؤنة ، لأنه
قد يرمي رأس الكتيبة فيُصاب فيَنهزم من خلفه )) .