سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

18‏/11‏/2012

الغزوات الإسلامية

الغزوات الإسلامية

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .


1_ غزوة بدر ( 2 هـ ) :
     قال الله تعالى : (( وإذ يَعِدُكم اللهُ إحدى الطائفتَيْن أنها لَكُم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد اللهُ أن يُحِق الحق بكلماته ويقطعَ دابرَ الكافرين )) [ الأنفال : 7] .
     وهذه الآية نزلت في قصة بَدْر. والطائفتان هما العِير ( مع أبي سفيان ) والنفير ( مع أبي جهل). فاللهُ تعالى وعد المؤمنين إحدى الطائفتين أنها ستكون لهم . والمؤمنون أحبوا أن تكون لهم العِير تجنباً للقتال وإهدار الدماء ، فأرادوا نصراً سهلاً دون خوض حرب ، لكن الله تعالى يريد إعلاءَ كلمته ، وتثبيت دعائم دِينه المقدّس ، واستئصال الكافرين ، فأمرَ المؤمنين بقتال قُرَيْش . والخِيرةُ فيما اختاره اللهُ تعالى لأنه أعلم بالنفوس من أصحابها .
     والإرهاصاتُ التي سبقت غزوةَ بدر تتمثل في وجود عِير لقُريش قادمة من الشام ، على رأسها أبو سفيان ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في جماعة من أصحابه يريد الاستيلاء على العِير لتعويض ما تركه المهاجرون للكفار بمكة. فعلم أبو سفيان بالأمر ، فأرسل من يُخبِر قُريشاً بذلك ، فخرج المشركون بأسلحتهم للدفاع عن تجارتهم ، وعلموا بنجاة القافلة ، لكنهم أصروا على قتال المسلمين . فالتقى الطرفان في بَدْر . وكان عدد أصحاب بَدْر ثلاثمائة وثلاثة عشر رَجلاً، أما المشركون فقُرابة الألف.
     وقد روى الترمذي في سُننه ( 4/ 152) وصححه: عن البراء_ رضي الله عنه _ قال : (( كنا نتحدث أن أصحاب بدر يوم بدر كَعِدة أصحاب طالوت ، ثلاثمائة وثلاثة عشر رَجلاً )) .
     وقبل خروج المسلمين للقتال شاوَرَهم النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر ، فهم لم يكونوا مستعدين للحرب .
     فعن أبي أيوب الأنصاري _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة : (( إني أُخبرت عن عير أبي سفيان أنها مُقبلة ، فهل لكم أن نخرج قبل هذا العير ؟ ، لعل الله يغنمناها )) ، فقلنا : نعم ، فخرج وخرجنا ، فلما سِرْنا يوماً أو يومين قال لنا : (( ما ترون في القوم فإنهم قد أُخبروا بمخرجكم ؟ )) ، فقلنا : لا والله ، ما لنا طاقة بقتال العدو ، ولكن أردنا العير . ثم قال :  (( ما ترون في قتال القوم ؟ )) ، فقلنا مثل ذلك . فقال المقداد بن عمرو : إذن لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى:[ فاذهبْ أنتَ وربكَ فقاتلا إنا هَهُنا قاعدون ] [المائدة : 24] . قال: فتمنيْنا معشر الأنصار لو أنا قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم.
{ رواه الطبراني ( 4/ 174 ). وحسّنه الهيثمي في المجمع ( 6/ 94 ) برقم ( 9950 ) .}.
     ونرى الإصرارَ الكبير من الصحابة على ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم والقتالِ معه وعدم التخلي عنه ، على الرغم من رغبتهم في العِير وتجنب النفير ( القتال ) في بداية الأمر . لكن الحق أحق أن يُتّبع .
     وفي صحيح مسلم ( 3/ 1403) : (( عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شَاوَر حين بلغه إقبال أبي سفيان. قال : فتكلم أبو بكر ، فأعرض عنه . ثم تكلم عمر، فأعرض عنه. فقام سعد بن عبادة، فقال : إيانا تريد ؟، يا رسول الله ، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها _ يعني الخيل_، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد_اسم مكان _ لفعلنا )) . 
     وهذا هو الصدقُ التطبيقي في أحلك الظروف لا الصدق الشعاراتي والأناشيد الوطنية المفرغة من المعنى الواقعي . لذلك جاءت أهلَ بدر البشارةُ بسبب إيمانهم وصبرهم ورباطة جأشهم وثباتهم عند تطاير الرؤوس في أرض المعركة. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( لعل الله_ عز وجل _ اطلعَ على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم )).
{ متفق عليه. البخاري ( 4/1855) برقم ( 4608)،ومسلم( 4/ 1941)برقم( 2494) . }.
     ومعناه أن لهم الغُفرانَ في الآخرة والكرامة والنعيم المقيم جزاء صبرهم وثباتهم في الموقف الصعب ( يوم بَدْر ) ، أما إذا ترتب على أحدهم حَد أو غيره أُقيم عليه في الدنيا .
     وفي شرح النووي على صحيح مسلم ( 16/ 56 ) : (( ونقل القاضي عياض الإجماع على إقامة الحد )) .
     ولو عُدنا إلى مقدمات المعركة لوَجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى جرعةً معنوية عالية للمؤمنين بأن بشّرهم بمصارع المشركين .
     ففي سيرة ابن هشام ( 3/ 162) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم )) .
     ويتجلى الأخذ بمشورة الصحابة يوم بدر . فمضى النبي صلى الله عليه وسلم [ يُبادر قريشاً إلى الماء حتى إذا جاء أدنى من ماء بدر نزل به ، فقال حباب بن المنذر بن الجموح أحد بني سلمة : يا رسول الله ! ، أرأيتَ هذا المنزل ؟ أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ ، قال : (( بل هو الحرب والرأي والمكيدة )) ، قال : فإن هذا ليس لك بمنزل ، فانهض حتى نأتيَ أدنى قليب القوم فننزله ، ثم نُغور ما سواه من القلب ، ثم نبني حوضاً فنملأه ، ثم نُقاتِل القومَ فنشرب ولا يشربون ].
{السيرة لابن حبان( 1/ 157).وانظر تاريخ الطبري( 2/ 29)،وسيرة ابن هشام(3/ 167 ). }.
     فهذا الصحابي الجليل قدّم خبرته في سبيل الدعوة الإسلامية ، ولم يكتم المشورةَ الصادقة ، بل أعطى رأيَه مدعوماً بالحُجّة والبرهان من أجل صناعة انتصار المسلمين على المشركين . وقد كان ذكياً حينما سأل عن اختيار الموقع قبل إبداء النصيحة ، هل هو أمرٌ إلهي معصوم أم اجتهاد بشري وفق ظروف الحرب ؟ . فهذا السؤال له أبعاد دقيقة . فالأمرُ الإلهي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه ، ولا يمكن رفضه أو الاعتراض عليه ، أما الاجتهاد البشري فيمكن تغييره إذا ظهر رأي راجح . 
     وقد كانت معركةً قوية ، وأمدّ اللهُ المؤمنين بالملائكة ، وانتهت المعركة بانتصار المسلمين الباهر على الرغم من تفوق المشركين عددياً . وقُتل من المشركين سبعون ، وأُسر سبعون . وارتفعت معنويات المسلمين وعلا صوتُهم بعد هذا النصر الإلهي .
     وعن ابن مسعود قال : أدركتُ أبا جهل يوم بدر صريعاً ، فقلتُ : أي عدو الله ، قد أخزاك الله ، قال : وبما أخزاني الله من رَجل قتلتموه . ومعي سيف لي فجعلتُ أضربه ولا يحيك فيه ، ومعه سيف له جيد فضربتُ يدَه فوقع السيف من يده فأخذتُه ثم كشفتُ المغفر عن رأسه فضربتُ عنقه ثم أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه فقال : (( الله الذي لا إله إلا هو ؟ )) ، قلتُ : الله الذي لا إله إلا هو ، قال : (( انطلق فاستثبت )) ، فانطلقتُ فأنا أسعى مثل الطائر ، ثم رجعتُ وأنا أسعى مثل الطائر أضحك فأخبرتُه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( فانطلقْ فأرني ))، فانطلقتُ معه فأريته ، فلما وقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( هذا فرعون هذه الأمة )).
{ رواه الطبراني ( 9/ 84 ) برقم ( 8474 ) . وقال الهيثمي في المجمع ( 6/ 103 ) : (( ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن وهب بن أبي كريمة وهو ثقة )) . }.
     فأبو جهل ( رأس الشرك ) قضى حياته كافراً مُحارِباً لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مُعانِداً للحق ، حتى وهو على حافة الموت ما زال العنادُ مسيطراً عليه . وهذا يدل على التكبر والصفاتِ الجاهلية المغروسة فيه . وما قتلُه إلا إنجازٌ كبير في سبيل نشر الدعوة ، فهذا الفرعونُ الهالك رفض البرهانَ الساطع ، ولم يكتفِ بكفره ، بل حارب الإسلامَ بكل ما يملك ، فكانت هذه عاقبته المخزية .
2_ غزوة أُحد ( 3 هـ ) :
     قال الله تعالى : (( وإذ غَدوتَ مِن أهلكَ تُبَوئُ المؤمنين مقاعدَ للقتال واللهُ سميعٌ عليم )) [ آل عمران : 121] .
     وهذا يوم أُحُد . فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج من عند أهله في الصباح ، يُنْزِل المؤمنين في مواقعهم التي سيُقاتِلون فيها المشركين .
     والمشركون بعد هزيمتهم في بدر ومقتل الكثير من أشرافهم عقدوا العزمَ على الثأر فخرجوا في ثلاثة آلاف مُقاتِل ، ومعهم النساء لتشجيعهم على القتال ، ونزلوا عند جبل أُحُد . وعندما علم النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر استشار أصحابه وخيَّرهم بين الخروج لقتال المشركين أو انتظارهم في المدينة فإذا هاجموها قاتلهم. وفي نهاية المطاف اختار النبي صلى الله عليه وسلم الخروجَ في ألف من أصحابه الذين صاروا سبعمائة بعد انسحب ابن سلول ( رأس النفاق ) بثلث الجيش . وفي تنظيمه للمقاتِلين خصّص النبي صلى الله عليه وسلم فرقةً من الرماة على جبل أُحد لتحميَ ظهورَ المسلمين على رأسهم عبد الله بن جُبير ، وقد أوصاهم بعدم مغادرة أماكنهم مهما حصل ، فقال لهم : (( احموا ظهورَنا ، فإن رأيتمونا نُقتَل فلا تنصرونا ، وإن رأيتمونا قد غَنِمْنا فلا تشركونا )).
{ رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 324 ) برقم ( 3163 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .}.
     وقال الله تعالى : (( ولقد صَدَقَكم اللهُ وَعْدَه إذ تَحُسونهم بإذنه )) [ آل عمران : 152] .
     ودار القتالُ الشديد وانهزم المشركون أولاً ، ونساؤهم يَبكين ، وصدق اللهُ وعدَه حينما قَتل المسلمون المشركين أول النهار . والحس هو القتل . فتم قتل المشركين بإذن الله تعالى وتوفيقه . ووعدُ الله لا يتخلف .
     ثم حصل المنعطَف الحرج الذي غيّر مسارَ المعركة ، فعصيانُ أمر النبي صلى الله عليه وسلم المتمثل في ترك الرماة للجبل كان الضربةَ القاضية التي أَدخلت المسلمين في الهزيمة . فبعد أن انتصر المسلمون أول النهار أخذوا يجمعون الغنائمَ ، فلما رأى الرماةُ ذلك تركوا الجبلَ من أجل الحصول على نصيبهم من الغنائم . ولم يثبت على الجبل إلا قائد الرماة عبد الله بن جُبير مع عدد يسير ، وقد ذكّرهم بوصية النبي صلى الله عليه وسلم . ورأى خالد بن الوليد المشهدَ _ وقد كان مشركاً يومئذ _ فاستغل لحظة فراغ الجبل من الرماة فالتف على المسلمين ففاجأهم ، وعمّت الفوضى في صفوف المسلمين وداخلهم الرعبُ ، وازداد فيهم القتلُ . 
     قال الله تعالى : (( حتى إذا فَشِلْتُم وتنازعتُم في الأمر وعصيتُم مِن بعد ما أراكم ما تُحِبون مِنكم مَن يريد الدنيا ومِنكم مَن يريد الآخرةَ )) [ آل عمران : 152] .
     والمقصودُ هم الرماة الذين خالفوا الأمرَ النبوي طمعاً في الدنيا ( الغنائم ) ، وهذا أدى إلى حدوث الهزيمة بعد النصر الباهر أول النهار . وفي الآية مدحٌ للذين ثبتوا على الجبل ، فقد شهد اللهُ
لهم بأنهم يريدون الآخرةَ ( الأجر الإلهي ) .
     وعن عبد الله بن مسعود_رضي الله عنه_ قال : (( ما كنتُ أرى أن أَحداً من أصحاب رسول الله يريد الدنيا حتى نَزلت فينا يوم أُحُد : [ مِنكم مَن يريد الدنيا ومِنكم مَن يريد الآخرةَ ] )).
{ رواه الطبراني في الأوسط ( 2/ 106 ) برقم ( 1399) . وقال الهيثمي في المجمع ( 7/ 51 ) : ورجاله ثقات . اهـ . وقال العراقي في تخريج الإحياء ( 4/ 102 ) : (( أخرجه البيهقي في دلائل النبوة بإسناد حسن )) . }.
     والصحابةُ _ رضي الله عنهم _ ليسوا ملائكة . إنهم نُخبة بشرية ، ومهما قدَّموا من تضحيات فهم بشرٌ تجري عليهم أحوال البشر من حب الآخرة وحب الدنيا ، والقوة والضعف ، والشجاعة والجبن ... إلخ . مع العلم أن الصحابة طبقات ، ويتفاوتون في الإيمان والعلم والتضحية وخدمة الدين .
     وقال الله تعالى : (( ثم صرفكم عنهم لِيَبْتَلِيَكم ولقد عفا عنكم واللهُ ذو فضل على المؤمنين )) [ آل عمران : 152] .
     أي ردّكم عنهم بالهزيمة من أجل اختباركم . فهذه الهزيمةُ هي امتحانٌ للمؤمنين لبيان درجة الثبات على الإيمان، ولحظاتٌ مؤلمة لأخذ الدروس والعِبر . وجاء العفو الإلهي عن عُصاة المسلمين ، فاللهُ تعالى لا حدود لفضله .
     وأخرج الطبري في تفسيره ( 3/ 468 ) : عن الحسن في قوله : [ ولقد عفا عنكم ] ، قال : (( وكيف عفا عنهم وقد قُتل منهم سبعون وقُتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكُسرت رباعيته ، وشُج في وجهه ؟ ... قال الله _ عز وجل _ : قد عفوتُ عنكم إذ عصيتموني أن لا أكون استأصلتكم ...  هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله ، غِضاب لله ، يُقاتِلون أعداءَ الله ، نُهوا عن شيء فصنعوه ، فوالله ما تُركوا حتى غُموا بهذا الغم ، فأفسق الفاسقين اليوم يتجرثم كل كبيرة ويركب كل داهية ويسحب عليها ثيابه ويزعم أن لا بأس عليه !! فسوف يعلم )) اهـ .
     فلا مجال للطعن في الصحابة الذين خالفوا الأمرَ النبوي، وفارقوا الجبلَ . فقد خرجوا إلى المعركة للجهاد في سبيل الله تعالى صادقين يحملون أرواحَهم على أكفِّهم ، وقد ارتكبوا إثماً تحت إغراء الغنائم ، ودفعوا ثمنَ ذلك ، وعفا اللهُ عنهم . والصحابةُ ليسوا معصومين ، ولم يطلب منهم أحدٌ أن يكونوا كالملائكة ، فرضي اللهُ عنهم . والمعصومُ مَن عصمه اللهُ ، والكمالُ لله وحده .
     وقد ورد وصف دقيق لما حدث يوم أُحد بعد غياب نصر المسلمين . فعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : وصاح الشيطان : قُتل محمد فلم يَشُكوا فيه أنه حق ، فما زلنا كذلك ما نَشُك أنه قد قُتل حتى طلع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين فعرفناه بتكفؤه إذا مشى ، ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا، فَرَقِيَ نحونا وهو يقول : (( اشتد غضب الله على قوم دَموا وجهَ نَبِيهم )) ، ويقول مرة أخرى : (( اللهم إنه ليس لهم أن يَعلونا )) ، حتى انتهى إلينا ، فمكث ساعة ، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل : أُعْلُ هُبَل أعل هبل _ يعني آلهته _ ، أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر: يا رسول الله ألا أجيبه ؟ قال : (( بلى )) ، فلما قال : أعل هبل ، قال عمر : الله أعلى وأجل ، فقال أبو سفيان : يا ابن الخطاب إنه يوم الصمت ، فعاد فقال : أين ابن كبشة أين ابن قحافة أين ابن الخطاب ؟ ، فقال عمر : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا أبو بكر، وها أنا ذا عمر ، فقال أبو سفيان : يوم بيوم ، بدر الأيام دُوَل ، والحرب سِجال ، فقال عمر : لا سواء ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ، قال : إنكم لتزعمون ذلك ، لقد خِبْنا إذاً وخسرنا ، ثم قال أبو سفيان : أما أنكم سوف تجدون في قتلاكم مُثْلة ، ولم يكن ذلك عن رأي سُراتنا، ثم أدركته حميةُ الجاهلية فقال : أما أنه إذا كان ذلك لم نكرهه .
{ رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 324 ) برقم ( 3163 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .
وقال الحافظ في الفتح ( 7/ 352 ) : (( قال ابن إسحاق : حَدثني صالح بن كيسان قال : خرجت هند والنسوة منها يُمَثلْنَ بالقتلى، يجدعن الآذان والأنف، حتى اتخذت هند من ذلك حزماً وقلائد ، وأعطت حزمها وقلائدها ، أي اللاتي كُن عليها لوحشي جزاء له على قتل حمزة  ،  وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها )) . }.
     وتتجلى الحمية الجاهلية في عقلية أبي سفيان حينما رفض الاعتذار عن التمثيل بجثث قتلى المسلمين ، فقد أخبر أن هناك مُثلةً ، لكنها لم تصدر عن رأي سُراة المشركين _ أشرافهم _ ، ومع هذا فلن يكره المشركون عملية التمثيل بالجثث، وهذا انعكاس للحمية، حيث أخذته العزة بالإثم ،
وساند قومَه في إثمهم تعصباً للشرك والقبيلة والعقلية الجاهلية ، ولم يعتذر عن فعل ذلك .
3_ غزوة بني النضير ( 4 هـ على المشهور ) :
     قال الله تعالى : (( هو الذي أَخرج الذين كفروا مِن أهل الكتاب مِن ديارهم لأول الحشر ما ظننتُم أن يَخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم اللهُ من حيث لم يحتسبوا وقذف في
قلوبهم الرعبَ يُخرِبون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبِروا يا أولي الأبصار )) [ الحشر : 2].
     وقد كان سبب هذه الغزوة هو خيانة يهود بني النضير الذين حاولوا قتلَ النبي صلى الله عليه وسلم ضاربين بعرض الحائط المواثيق والعهود ، وهذا دَيْدن اليهود على مدار التاريخ .
     ففي الدر المنثور للسيوطي ( 3/ 36و37 ) : (( خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضيرِ يستعينهم على دِيَةِ العَامِرِييْن اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري فلما جاءهم خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنكم لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن فَمُروا رَجلاً يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه . فقال عمر بن جحاش بن كعب : أنا . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم الخبرُ ، فانصرف )) .
     وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلائهم من المدينة ، وأمهلهم وقتاً ، فمن شوهد بعد ذلك ضُربت عنقه . وأخذوا يستعدون للخروج لكن رأس النفاق ابن سلول طلب منهم عدم الخروج ، والإقامة في حصونهم، ووعدهم بمساندتهم في قتال النبي صلى الله عليه وسلم. فعدلوا عن الخروج . فاستعد المسلمون لقتالهم .
     وعن عائشة_ رضي الله عنها_ قالت : (( كانت غزوة بني النضير _ وهم طائفة من اليهود _ على رأس ستة أشهر من وقعة بَدْر ، وكان منزلهم ونخلهم بناحية المدينة ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء،وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة والأموال إلا الحلقة_ يعني السلاح_ ... فقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى صالحهم على الجلاء ، فأجلاهم إلى الشام ، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا، وكان الله قد كتب عليهم ذلك، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي ، وأما قوله : [ لأول الحشر ] ، فكان جلاؤهم ذلك أول حشر في الدنيا إلى الشام )).
{ رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 525 ) برقم ( 3797) وصححه ، ووافقه الذهبي .
وقد اختلفت الأقوال في سنة حدوث غزوة بني النضير . ففي صحيح البخاري ( 4/ 1476 ) : عن عُروة بن الزبير: كانت على رأس ستة أشهر من وقعة بدر قبل أُحد .اهـ. وقال ابن حجر في تلخيص الحبير( 4/ 90 ): (( وعن ابن شهاب أنها كانت في المحرم سنة ثلاث، وبه جزم ابن الجوزي في التلقيح والنووي في الروضة وغيرها،وقال الماوردي:كانت في ربيع الأول سنة أربع،وهذا قول ابن إسحاق )).}.
     فاليهودُ قد دفعوا ثمنَ خيانتهم ، وقد كانوا آمنين مطمئنين ، يعيشون بسلام في المدينة مع المسلمين . لكن مغامرات زعمائهم الطائشة قادتهم إلى فقدان ممتلكاتهم ، وخروجهم من ديارهم بكل خزي وعار . وهذا يُدل على أهمية القيادة ذات السُّلطة المعنوية والمادية . فالقيادةُ الرشيدة تقود الناسَ إلى بَر الأمان ، أما القيادةُ الطائشة فتقضي على نفسها وشعبها في آن معاً .
4_ غزوة الخندق / الأحزاب ( 5 هـ ) :
     قال الله تعالى: (( إذ جاؤوكم مِن فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصارُ وبَلغت القلوبُ الحناجرَ وتظنون بالله الظنونا (10) هنالك ابْتُلِيَ المؤمنون وزُلْزِلوا زِلزالاً شديداً (11) )) [ سورة الأحزاب ] .
     وعن عائشة _ رضي الله عنها _: [ إذ جاؤوكم مِن فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصارُ وبَلغت القلوبُ الحناجرَ ] ، قالت : (( كان ذلك يوم الخندق )).
{متفق عليه.البخاري( 4/ 1506)برقم( 3877)، ومسلم ( 4/ 2316 ) برقم ( 3020 ).}.
     وهذا الوصفُ الإلهي الدقيق لصعوبة الحادثة لا يُضاهيه أي وصف . فهؤلاء الأحزابُ الذين اجتمعوا على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يطمحون إلى استئصال الدعوة الإسلامية من جذورها. فجاءت أسد وغطفان من فوق الوادي ( جهة المشرق ) ، وجاءت قُريش وكنانة من أسفل الوادي ( جهة المغرب ) . ومالت الأبصارُ من هول الموقف ، وبلغت القلوبُ الحناجرَ ، وهذا تصويرٌ قرآني بليغ لشدة الرعب وكأن القلب قد انخلع من مكانه .
     وقال الواحدي في الوجيز ( 1/ 859 ): (( ظن المنافقون أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه يُستأصلون ، وأيقن المؤمنون بنصر الله )) اهـ .
     ويمكن أن تكون الظنون قد حصلت للمؤمنين بمعنى توارد الخواطر وأحاديث النفس بأن هزيمتهم قد حانت وأن القتل ينتظرهم ، وهذا لا يمكن للنفس دفعه ، ولا يقدح في إيمان الصحابة
وتوكلهم على الله تعالى ، لأن الخواطر لا يمكن السيطرة عليها .
     وقال الثعالبي في تفسيره ( 3/ 221 ) : (( عبارة عن خواطر خطرت للمومنين لا يمكن البشر دفعها ، وأما المنافقون فنطقوا ونجم نفاقهم )) اهـ .
     وحصل ابتلاءُ المؤمنين _ وقد أثبت اللهُ لهم الإيمانَ _ ، وزُلزلوا وحُرِّكوا بقوة بالغة ، كأن الأرض تميد من تحت أرجلهم ، وهذا امتحانٌ إلهي ليظهر المؤمن الصادق من المنافق . وهذه المواقف الصعبة يسهل الكلامُ عنها وتحليلها ، لكن التواجد فيها والثبات بحاجة إلى توفيق إلهي ، وإيمان راسخ ، وصبر كبير . فالكلامُ سهلٌ والفعلُ صعب .
     وقد هُزم الأحزابُ بأن بعث اللهُ عليهم ريحاً قلبت أمورَهم رأساً على عقب ، وبثّت في قلوب الكافرين الرعبَ . كما أيّد اللهُ المؤمنين بالملائكة للدعم المعنوي لا القتال .  
     وفي صحيح مسلم ( 3/ 1414 ) : عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : كنا عند حذيفة ، فقال رَجل : لو أدركتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلتُ معه ، وأبليتُ ، فقال حذيفة : أنتَ كنتَ تفعل ذلك ؟ ، لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب ،  وأخذتنا ريح شديدة وقر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ألا رَجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ؟ )) ، فسكتنا فلم يجبه منا أَحد ، _ أعادها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات دون أن يجيبه أَحد _ .
     وهذا يشير إلى خطورة الموقف ، واستيلاء الخوف على القلوب ، فعدمُ إجابة النبي صلى الله عليه وسلم لثلاث مرات متوالية يدل على صعوبة الموقف ، وشدة الرعب في النفوس ، وقسوة الظروف الاستثنائية .
     وقد سُمِّيت هذه الغزوة بالخندق ، لأن المسلمين حفروا خندقاً بينهم وبين العدو بمشورة سلمان الفارسي _ رضي الله عنه _ ، فنالت هذه الفكرةُ استحسانَ النبي صلى الله عليه وسلم . وقد كان المسلمون ثلاثة آلاف ، أما قُريش والأحزاب فكانوا عشرة آلاف .
5_ فتح مكة ( 8 هـ ) :
     قال الله تعالى: (( إذا جاء نصرُ الله والفتحُ (1) ورأيتَ الناسَ يَدْخلون في دِين الله أفواجاً  (2))) [ سورة النصر ].
     فهذا الفتحُ المقترن بنصر الله تعالى هو فتح مكة . والإعلامُ بفتح مكة قبل وقوعه يشير إلى أن القرآن من عند الله تعالى عالِمِ الغيب والشهادة ، كما يشير إلى صدق نُبُوة محمد صلى الله عليه وسلم . وقد كان هذا الفتحُ العظيم حَدثاً استثنائياً . فمكة ليست مكاناً عادياً مثل سائر الأمكنة. فهي ذات رمزية عالية سامية في الجاهلية والإسلام . إنها المركزُ وما سواها أطراف . والعربُ في الجاهلية تنظر إليها نظرة تقديس ، وتنظر إلى حُكَّامها على أنهم سادة العرب. وخضوعُها لراية الإسلام شجّع الناسَ على الدخول في دِين الله جماعاتٍ جماعات. والناسُ_عموماً_ ينظرون إلى القوي المسيطر نظرةَ تبجيل واحترام .
     وفي صحيح البخاري ( 4/ 1564 ) : (( وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح _ أي تنتظر فتح مكة حتى يُسلموا _ فيقولون : اتركوه وقومه ، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق ، فلما
كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم )) .
     أما الإرهاصات التي سبقت فتح مكة فتتمثل في نقض قُريش صلحَ الحديبية ، وذلك بمساعدتها بني بكر حلفاءها على خُزاعة ( حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ) ، فقُتل من خُزاعة عدد من الرجال ، الأمر الذي جعلهم يَطلبون نصرةَ النبي صلى الله عليه وسلم .
     وتفصيلُ ذلك : أن أُناساً من بني بكر كَلموا أشراف قريش أن يعينوهم على خزاعة بالرجال والسلاح ، فوعدوهم ووافوهم بالوتير _ اسم مكان _ متنكرين متنقبين ، فيهم صفوان بن أمية ، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص ، فبيتوا خزاعة ليلاً وهم آمنون ، فقَتلوا منهم عشرين رَجلاً ، ثم ندمت قريش على ما صنعت ، وعلموا أن هذا نقض للمدة والعهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم . وخرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكباً من خُزاعة ، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بالذي أصابهم ويستنصرونه ، فقام وهو يجر رداءه ، وهو يقول : (( لا نُصِرْتُ إن لم أنصر بني كعب مما أنصر منه نفسي )).
{ الطبقات الكبرى لابن سعد ( 2/ 134 ) . وانظر سيرة ابن هشام ( 5/ 48 ) .}.
     وندمت قُريش على فعلتها ، فأرسلت أبا سفيان في محاولة لرأب الصدع ، وتمديد الهدنة ، وتجديد العهد . لكن النبي صلى الله عليه وسلم رفض ذلك ، وأخذ يستعد للقتال ، فسار إلى مكة في عشرة آلاف رَجل . ودخلها النبي صلى الله عليه وسلم دون قتال .
     وفي صحيح البخاري ( 4/ 1559 ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة :      (( ... ولكن هذا يوم يُعظم اللهُ فيه الكعبة يوم تُكسَى فيه الكعبة )). وكُسرت الأصنامُ حول الكعبة ، ودانت مكة بالإسلام ، ودخل الناس في دِين الله أفواجاً .
     وفي صحيح البخاري ( 3/ 1327 ) : عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ في قوله تعالى :  [ إذا جاء نصرُ الله والفتحُ ] ، قال : (( أَجَلُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إياه )) .
     وفي هذه الآية نعيُ النبي صلى الله عليه وسلم، وقرب انتقاله إلى الرفيق الأعلى _ سبحانه _ . لذلك تُسمى سورة النصر بسورة التوديع .
     وقد قال الكرماني في أسرار التكرار ( 1/ 227 ) : (( فإن جواب إذا مضمر تقديره إذا جاء نصر الله إياك على من ناوأك حضر أجلُك )) اهـ .
6_ غزوة حُنَيْن ( 8 هـ ) :
     قال الله تعالى: (( ويومَ حُنَيْن إذ أعجبتكُم كَثْرَتُكم فلم تُغْنِ عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرضُ بما رَحُبت ثم وَليْتُم مُدبِرين )) [ التوبة : 25] .
     وسببُ الغزوة أن هوازن قد سمعت بفتح مكة وسيطرة المسلمين عليها وخضوعِ قُريش لهم . فَكَبُر عليها الأمر ، فجهّزت جيشاً لإنهاء انتصارات المسلمين ، وإيقاف زحفهم . فخرج النبي صلى الله عليه وسلم لملاقاة العدو في اثني عشر ألفاً من المسلمين . وقد كانوا مُعجَبين بكثرتهم. وانتشر الأعداء في وادي حُنَيْن يكمنون للمسلمين حتى يُباغتوهم . وحينما وصل المسلمون إلى المكان تفاجأوا بالعدو يظهر من شِعاب الوادي بشكل مباغت وكثيف. وهنا حصلت الفوضى في جيش المسلمين، ودب الخوفُ فيهم ، وبدأ المسلمون يهربون .
     وفي صحيح مسلم ( 3/ 1398 ) : قال العباس بن عبد المطلب_ رضي الله عنه _ : شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنَيْن فلزمتُ أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، ...فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين ، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض على بغلته قِبَل الكفار ، وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أَكُفها إرادة أن لا تسرع ، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أي عباس، نادِ أصحاب السمرة_شجرة بَيْعة الرضوان_ )) ... فقلتُ بأعلى صوتي : أين أصحاب السمرة ؟ ... فقالوا : يا لَبَّيْك يا لبيك ، فاقتتلوا والكفار ... فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( هذا حين حَمِيَ الوطيس ))، ثم أخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حصياتٍ، فرمى بهن وجوهَ الكفار، ثم قال:(( انهزموا ورب محمد )) .
     وتغير مسارُ المعركة لصالح المسلمين. بعد أن جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم على كلمة سواء، ووحّد صفوفَهم بأن أثار فيهم ذكرى بيعة الرضوان تحت الشجرة ، مما أدى إلى رفع معنوياتهم ، وعودتهم إلى القتال بكل بسالة . وقد أنزل اللهُ تعالى الملائكة لا للقتال ، بل لتشجيع المسلمين وتثبيط الكافرين .
     قال الله تعالى : (( ثم أنزل اللهُ سَكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تَرَوْها وعذب الذين كفروا وذلك جزاءُ الكافرين )) [ التوبة : 26] .
     وفي هذا الغزوة درسٌ باهر على أن النصر إنما هو من عند الله تعالى ، وليس بالعَدد والعُدد . فقد كان المؤمنون مُعجَبين بكثرتهم ، وهذا الأمر ارتد عليهم سلباً . فقد أخرج الطبري في تفسيره ( 6/ 340 ) عن السدي : [ أن رَجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنَيْن قال : يا رسول الله لن نُغلَب اليوم مِن قِلة !، وأعجبته كثرةُ الناس وكانوا اثني عشر ألفاً ، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فَوُكِلوا إلى كلمة الرجل فانهزموا عن رسول الله غير العباس وأبي سفيان بن الحارث وأيمن ابن أم أيمن قُتل يومئذ بين يديه ، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أين الأنصار ؟ ، أين الذين بايعوا تحت الشجرة ؟ ))، فتراجع الناس، فأنزل الله الملائكة بالنصر ، فهزموا المشركين يومئذ ] .
     فمن اعتمد على الأسباب وُكِل إليها، أما من اعتمد على خالق الأسباب مع الأخذ بالأسباب، فعندئذ سوف ينال النصرَ بإذن الله وفضله ، لأن الله تعالى لا يتخلى عن عباده الصادقين الذين يُضحون بأرواحهم في سبيل إعلاء راية التوحيد .
7_ غزوة تبوك / العُسرة ( 9 هـ ) :
     كانت هذه الغزوة أيام حَر شديد ، والناس في عُسرة وضيق بالغ في عيشهم . وسببُها أن الأنباء وصلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الروم جمعوا أعداداً كثيرة ، وتقدموا جهة البلقاء في الشام . وقد تسابق المسلمون لتقديم ما لديهم . فقد روى الحاكم في المستدرك ( 1/ 574 ) وصححه : عن عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً أن نتصدق ، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلتُ: اليوم أسبق أبا بكر _ إن سبقته يوماً _ فجئتُ بنصف مالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما أبقيتَ لأهلك ؟ )) ، فقلتُ : مِثْله . وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال : (( يا أبا بكر ، ما أبقيتَ لأهلك ؟ )) ، فقال : أبقيتُ لهم الله ورسوله ، فقلتُ : لا أسابقك إلى شيء أبداً .
     وقال البوطي في فقه السيرة ( ص 270 ) : (( وإذا صح هذا الحديث ، فلا بد أن يكون هذا الندب بمناسبة غزوة تبوك كما قال ذلك فريقٌ من العلماء )) اهـ .
     وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثين ألفاً من المسلمين . أما جيش الروم فكانوا أربعين ألفاً . ولما وصل المسلمون إلى تبوك لم يجدوا جيش الروم ، ولم يحدث قتال . وعاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .
     وكانت هذه الغزوة فاضحةً للمنافقين . ونزلت آياتٌ في هذا الشأن . فقال الله تعالى : (( لو كان عَرَضاً قريباً وسَفراً قاصداً لاتبعوكَ ولكن بَعُدَت عليهم الشقةُ )) [ التوبة : 42] .
     وهذا توبيخٌ للذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم تبوك.وقال ابن الجوزي في زاد المسير( 3/ 444): (( قال المفسرون : نَزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك )) اهـ . ومعنى الآية: لو كانت هناك غنيمة قريبة وسَفر قريب لاتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن بَعُدت عليهم المسافة إلى الشام .
     وهناك حالة خاصة تتعلق بثلاثة صحابة تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن الله تعالى تاب عليهم . فقال _ سبحانه _ : (( وعلى الثلاثة الذين خُلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرضُ بما رَحُبَت وضاقت عليهم أنفسُهم وظَنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا )) [ التوبة : 118] .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 510 ) : (( وهم : مرارة بن الربيع ، وكعب بن مالك ، وهلال بن أمية . قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد ، كسلاً وميلاً إلى الدعة والحفظ وطيب الثمار والظلال ، لا شكاً ونفاقاً )) اهـ .
     وفي صحيح البخاري( 4/ 1718 ): عن كعب بن مالك :_ [ وعلى الثلاثة الذين خُلفوا ]. قال : إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم  :  (( أمسكْ بعض مالك فهو خير لك )) .
     فهذا الصحابي الجليلُ قد استشعر حجمَ الكارثة التي أقدم عليها ، وندم أشد الندم . فأراد أن يتصدق بماله . وهذا يدل على صدقه في توبته ، وقوة عزيمته التي تجعله ينخلع من ماله كله ، وإصراره على اعتناق الحق ، وعدم العودة إلى الوراء . ومن تاب تاب اللهُ عليه . والعصمةُ للأنبياء وَحْدَهم .