عائلة النبي محمد
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
مما لا شك فيه أن
النبي صلى الله عليه وسلم هو الأب الروحي ، والمرشد الأعلى للأمة . وهو حامل مشعل
طموحاتها ، والمعبِّر عن تاريخها الحقيقي المصنوع في ظل الإيمان والعمل الصالح .
وهذا الالتصاق بالأُمة لم يأت كردة فعل أو عمل متكلف دبلوماسي ، بل هو كامن في
جوهر الرسالة النبوية الملتصقة بالناس ، والمعنية بهمومهم ، وتاريخهم ، وحياتهم
الدنيوية والأخروية .
والرسالة
المحمدية النبوية ليست تنظيراً من البرج العاجي ، أو أوامر عسكرية يلقيها القائد
النائم في غرفة العمليات على جيشه المسحوق، بل هي التصاق حقيقي بالواقع ، ونظام
حياتي متكامل لإيجاد الحلول الروحية والمادية للفرد والجماعة .
لذلك لا
يشعر الفردُ في ظل الرسالة النبوية _ مهما كانت منزلته الاجتماعية _ بأنه غريب في
مجتمعه، أو منبوذ في سياقه الاجتماعي ، أو مطرود بسبب وضعه .
فالفقير يشعر
بالانتماء إلى الجماعة المؤمنة قلباً وقالباً ، ويمارس هذا الانتماء روحاً ومادة ،
خيالاً وواقعاً ، لأن الجماعة الإيمانية هي الحاضنة له ، والتي تمثل خط الدفاع
الحقيقي عنه وعن أسرته وتاريخه ومستقبله .
والغني يشعر
كذلك بالانتماء ، لأن الجماعة تشكل الضمانة الحقيقية لاستمرار وجوده بكل تألق ضمن القالب العام للمجتمع الإسلامي المتعاون فيما
بينه ، والمعتمد على التكافل الاجتماعي بين طبقاته لتحقيق النهوض الفعال ، والمضي
قدماً نحو الازدهار . والأمر غير محصور بالفقير أو الغني ، بل يشمل الجاهل والعالم
، الضعيف والقوي ، ... إلخ .
وهكذا نجد
أن التعاضد بين طبقات المجتمع ليس شعاراً مفرغاً من معناه ، وإنما هو واقع ملموس ،
وحقيقة فعالة هي القوة الدافعة لمزيد من التحديث والازدهار ، فلم يأت الإسلام
ليسرق الفقراء ، ويكرس ثقافة السادة والعبيد في مجتمع إقطاعي ، ولم يأتِ لنهب
ثروات الأغنياء لصناعة مجتمع شيوعي أو اشتراكي وهمي يتاجر بأحلام العمال والطبقات
المتدنية .
فالإسلام نظام
واقعي شامل لكل مناحي الحياة، ويتعامل بواقعية منطقية مع الشهوات البشرية، والغرائز
المتأججة في الذات الإنسانية، وحب التملك والسيطرة . فهو يوجهها في مسارها الصحيح
ضمن ضوابط محددة تكفل عدم اختلال النظام الفردي والمسار الجماعي . وهو بذلك يكون
منهجاً وسطياً بين الكبت والانفلات ، وبين الإفراط والتفريط . وهذه المنظومة
المتوازنة قادرة على قيادة المجتمع إلى بَر الأمان وسط أمواج الحياة العاتية .
والنبي صلى
الله عليه وسلم ملتصق بالأمة ، فهو حامل لواء
تاريخها ، ونور طريقها في الدارين . فقد قال الله تعالى : (( النبي أولى بالمؤمنين
من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم )) [ الأحزاب : 6] .
وهذه
العلاقة الأسرية الوثيقة بين النبي القائد وأُمته من أسس الرسالة النبوية ، فليس
النبي صلى الله عليه وسلم حاكماً مستبداً وزوجته سيدة أولى ، يعيشان على أكتاف
الشعب المسحوق . فهو الأب الروحي للأمة ، وزوجاته أمهات المؤمنين . وهذا يدل على
شدة الروابط الأسرية بين القائد والرعية، ووجود المجتمع الإسلامي كأسرة واحدة ،
ونسيج اجتماعي متماسك، ضمن وحدة المسار والمصير، وترابط الوسيلة والهدف .
قال القاضي
عياض في الشفا ( 1/ 47 ) : (( [ وأزواجه أمهاتهم ] ، أي هُنّ في الحرمة كالأمهات ،
حُرِّم نكاحهن عليهم بعده ، تكرمة له وخصوصية ، ولأنهن له أزواج في الآخرة )) .
ومن خلال
هذا الفهم التأصيلي نستنتج أهمية الرابطة الأسرية في المجتمع الإسلامي بين القائد
وأمته ، أي تماسك الوشائج العائلية بين مختلف طبقات الهرم الاجتماعي من الرأس حتى
القاعدة . فالمجتمع المؤمن هو عائلة واحدة متماسكة ، وليس نظاماً إقطاعياً
استغلالياً يوظف الدينَ لتخدير الناس ، وسرقة الفقراء لصالح عِلْية القوم .
فقد أرسى
الإسلامُ دعائم الأُسرة المجتمعية الكبيرة التي تحنو على بعضها ، وتأخذ بأيدي
بعضها بعضاً إلى بر النجاة . وبالطبع فهذه الأسرة الإيمانية لها رأس ، وهو النبي
صلى الله عليه وسلم .
فعن أبي هريرة_
رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إنما أنا لكم مثل الوالد)).
{
رواه النسائي في المجتبى ( 1/ 38 ) برقم ( 40) ، وأحمد ( 2/ 250 ) برقم ( 7403 ) .
وصححه ابن حبان ( 4/ 279 ) برقم ( 1431 ). وصححه أبو عوانة [ قاله ابن حجر في
تلخيص الحبير (1/ 102) ] . وصححه ابن خزيمة ( 1/ 43 ) برقم ( 80) بلفظ " إنما
أنا لكم مثل الوالد لولده". }.
وهكذا تبرز
لنا معالم هذه العلاقة الدافئة بين الرسول القائد الراعي للمصلحة الفردية
والجماعية ، وبين الأمة بمختلف طبقاتها . وبالطبع فإن علاقة الأب بأبنائه من شأنها
إضفاء جو من الرحمة والثقة المتبادلة بين الطرفين ، فتختفي مشاعر الغربة والاغتراب
داخل المجتمع الواحد ، وتتعزز قيم الانتماء إلى المثل العليا ، ويزداد الإيمان
بالشعارات الكبرى التي يتم تطبيقها على أرض الواقع ، ولا تظل حِبراً على ورق .
وحينما يؤمن
الفرد بأن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين يزداد شعوره بالانتماء
إلى هذه الأسرة الواحدة، فلا يحس بأنه غريب أو ضائع في داخل الجماعة، ولا يشعر
كذلك باليُتم ، سواءٌ بمعناه الروحي أو المادي . فوجود النظام الأسري الحاضن للفرد
يعطيه الدافعية للاستمرار دون وجود عقد نفسية أو ثغرات في مسيرة التنمية الإيمانية
بكل تطبيقاتها الذهنية والواقعية. والأسرة الإيمانية المجتمعية المتماسكة تعطي
الفرد معناه ، والدافعيةَ الفعالة للانطلاق نحو أداء أكثر توازناً وإبداعاً .
ففي صحيح
مسلم ( 1/ 271 ) : أن أبا موسى استأذن على عائشة فأُذِن له ، فقال لها : (( يا
أماه _ أو يا أم المؤمنين _ إني أريد أن أسألك عن شيء ، وإني أستحييك )) ، فقالت : (( لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلاً عنه
أمك التي وَلَدَتْك ، فإنما أنا أمك )) .
ولنأت إلى
دراسة الظروف المصاحبة لحياة أمهات المؤمنين بشيء من التفصيل والتأصيل والاستنتاج
. فقد قال الله تعالى : (( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تُرِدْنَ الحياةَ الدنيا
وزينتها فتعالَيْن أُمَتعْكن وأُسَرحْكن سراحاً جميلاً )) [ الأحزاب : 28] .
قال ابن
كثير في تفسيره ( 3/ 633 ) : (( هذا أمر من الله _ تبارك وتعالى _ لرسوله صلى الله
عليه وسلم بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ، ممن يحصل لهن عنده الحياة
الدنيا وزينتها ، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال ، ولهن عند الله تعالى في ذلك
الثواب الجزيل ، فاخترن_ رضي الله عنهن وأرضاهن _ الله ورسوله والدار الآخرة ، فجمع
الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة )) اهـ .
وهذا يدل
على رجاحة عقول نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، وحرصهن على الثواب الإلهي دون
النظر إلى زخرف الحياة الدنيا وزينتها ، وما تطمح إليه النساء من الحلي ، والملابس
الغالية، ومستحضرات التجميل، وتصدر المجالس النسائية للتفاخر بالمظاهر الخادعة ،
والشكليات الاجتماعية المفرغة من معناها .
وفي ذلك
دليل باهر على المكانة السامية لأمهات المؤمنين ، وقوة عقيدتهن ، وتماسك مستواهن
الإيماني، وسعة علمهن بأحوال الدنيا والآخرة . وهذا ليس بمستغرب على نساء بيت
النبوة الطاهرات العالمات اللواتي لم يلهثن وراء زينة الحياة الدنيا الظاهرية ، بل
نظرن إلى ما وراء هذه الدار الفانية ، إلى النعيم الإلهي الأبدي .
وعن عائشة زوج
النبي صلى الله عليه وسلم قالت : لما أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه
بدأ بي فقال : (( إني ذاكر لك أمراً ، فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك ))
. قالت : وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه. قالت: ثم قال : (( إن الله جل ثناؤه
قال : [ يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تُرِدْنَ الحياةَ الدنيا وزينتها
فتعالَيْن أُمَتعْكن وأُسَرحْكن سراحاً جميلاً (28) وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار
الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً
(29)][ الأحزاب] )). قالت : فقلت : ففي أي هذا أستأمر أبوي ؟ ، فإني أريد الله ورسوله
والدار الآخرة . قالت : ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت.
[متفق
عليه.البخاري ( 4/ 1796 ) برقم ( 4508 )، ومسلم ( 2/ 1103 ) برقم ( 1475).].
قال القرطبي
في تفسيره ( 14/ 144 ) : (( اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه
وسلم أزواجه على قولين : الأول : أنه خيرهن
بإذن الله تعالى في البقاء على الزوجية أو الطلاق ، فاخترن البقاء . قالته عائشة ومجاهد
وعكرمة والشعبي وابن شهاب وربيعة . ومنهم من قال : إنما خَيّرهن بين الدنيا فيفارقهن ، وبين الآخرة فيمسكهن
لتكون لهن المنزلة العليا كما كانت لزوجهن ، ولم يخيرهن في الطلاق . ذكره الحسن وقتادة
ومن الصحابة علي )) اهـ .
قال الحافظ
في الفتح ( 8/ 521 ) : (( والذي يظهر الجمع بين القولين لأن أحد الأمرين ملزوم للآخر
، وكأنهن خُيِّرْن بين الدنيا فيطلقهن ، وبين الآخرة فيمسكهن . وهو مقتضى سياق الآية
. ثم ظهر لي أن محل القولين : هل فُوِّض إليهن الطلاق أم لا ؟ . ولهذا أخرج أحمد عن
علي قال : لم يُخيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلا بين الدنيا والآخرة
)).
{
روى الإمام أحمد في مسنده ( 1/ 78 ): حدثنا عبد الله حدثني سريج
بن يونس ثنا علي ابن هاشم يعني البريد عن محمد بن عبيد الله بن علي بن أبي رافع عن
عمر بن علي بن حسين عن أبيه عن علي رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم خَيّر
نساءه الدنيا والآخرة ولم يخيرهن الطلاق .
[قال ابن كثير في تفسيره ( 3/ 633) تعليقاً على الحديث
السابق : (( وهذا منقطع )). وقال أحمد شاكر ( مسند أحمد 1/ 78 تعليق شعيب
الأرناؤوط ) : (( ثم إن هذا الحديث خطأ يخالف الأحاديث الصحاح أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم خيّر أزواجه الطلاق فاخترن الله ورسوله _ رضي الله عنهن _ )) ]. }.
قال الله
تعالى: (( يا نساءَ النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يُضاعفْ لها العذاب ضعفَيْن )) [
الأحزاب: 30] .
وهذه الآية
الكريمة تشير إلى المكانة الاستثنائية لنساء بيت النبوة ، حيث تم التشديد عليهن في
حال إتيانهن لفاحشة مبينة، وذلك لرفعة قَدْرهن بسبب
ارتباطهن بالنبي صلى الله عليه وسلم . فأية فاحشة تصيب زوجة النبي صلى الله عليه
وسلم تُعتبَر طعناً في طهارة بيت النبوة ، وهذا يؤثر سلباً على مصداقية
المنهج النبوي، وقدرته على حشد الأتباع المؤمنين به.
قال القرطبي في تفسيره ( 14/ 155 ) : (( فأخبر تعالى أن من جاء
من نساء النبي صلى الله عليه وسلم بفاحشة _ والله عاصم رسوله عليه السلام من ذلك كما مر في
حديث الإفك _ [ يُضاعفْ لها العذاب
ضعفَيْن ] لشرف منزلتهن ، وفضل درجتهن ، وتقدمهن على سائر النساء أجمع.وكذلك بيّنت
الشريعة في غير ما موضع _ حسبما تقدم بيانه
غير مرة _ أنه كلما تضاعفت الحرمات فهتكت تضاعفت
العقوبات، ولذلك ضوعف حد الحر على العبد ، والثّيب على البِكر . وقيل : لما كان أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم في مهبط الوحي، وفي منزل أوامر الله ونواهيه، قوي الأمر عليهن،
ولزمهن بسبب مكانتهن أكثر مما يلزم غيرهن ، فضوعف لهن الأجر والعذاب . وقيل : إنما
ذلك لعظم الضرر في جرائمهن بإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت العقوبة على
قدر عظم الجريمة في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ))
اهـ .
وقال الله تعالى : (( يا نساءَ النبي لستن كأحد من النساء إِن
اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلنَ قولاً معروفاً )) [ الأحزاب
: 32] .
وفي هذا
دلالة واضحة على التميز والأفضلية. فنساء النبي صلى الله عليه وسلم
لهن مكانة سامية متقدمة على باقي النساء ، وهذه المكانة إنما جاءت نتيجة التقوى
والتزامهن بالمنهج النبوي في حياتهن الروحية والمادية . وهن أيضاً في دائرة
الصيانة الطاهرة والشرف الرفيع، لذلك أمرهن الله تعالى بعدم الخضوع بالقول ، أي
عدم ترقيق الكلام ، لئلا يطمع أصحاب القلوب المفعمة بأمراض الشهوات السيئة .
وقال الله
تعالى مخاطباً زوجات النبي صلى الله عليه وسلم : [ وَقَرْنَ في بيوتكُن ولا تبرجْنَ
تبرجَ الجاهلية الأولى ] [ الأحزاب : 33] .
أي :
لازِمْنَ بيوتكن ولا تخرجن إلا للضرورة. وفي ذلك صيانة لهن، وتشريف ، وإبراز علو
مكانتهن . فالجوهرة الثمينة لا بد أن تحاط بسياج واقٍ ضد كل عابث ، ولم نسمع بوجود
اللؤلؤ إلا داخل الصدف الذي هو الإطار الحامي . وهذا الخطاب لكل امرأة مسلمة ،
فعليها أن تلزم بيتها ، ولا تخرج إلا للمصلحة الشرعية ، ولا تُبعثِر وقارَها في
الأسواق والشوارع ، ولا تصبح سلعةً تتجول في الطرقات أمام عيون الناس .
وقد نهى الله تعالى نساءَ بيت النبوة عن
التبرج وإظهار الزينة الواجب سترها ، وقد كان التبرج شعار المرأة في الجاهلية، {قال :
تبرجت السماء ، أي تزينت بالكواكب . وتبرجت المرأة ، أي أظهرت زينتها ومحاسنها. (
انظر المعجم الوجيز ص 43 ). وعن ابن عباس_ رضي الله عنهما_ قال : (( كانت الجاهلية
الأولى ألف سنة فيما بين نوح وإدريس )) [ ذكره الحافظ في الفتح ( 8/ 520 ) وقال :
وإسناده قوي ] . }. فلما جاء الإسلام
حاملاً نظامه الاجتماعي المتماسك عزّز قيمَ الفضيلة، وذلك بمحاربة التبرج وظهور
العورات ، ومنع نشر الفواحش والشهوات بين أفراد المجتمع .
وبما أن نساء بيت النبوة هن السيدات صاحبات
الصدارة في المشهد النسائي في المجتمع المسلم، كان عليهن أن يَكُن القدوةَ الحسنة
لمن خلفهن من نساء المؤمنين ، لذلك كان التدقيق عليهن لأنهن مركزية الطهارة ،
ومنبع الفضيلة الخارجة من رحم بيت النبوة الشريف الذي ألغى المظاهرَ الشهوانية
الفاحشة في الجاهلية .
(( فالبيئة
الجاهلية أقنعت المرأة بأن وجودها مرتبط بما تقدمه وتعرضه من جسدها .
فكلما عرضت مساحاتٍ أكبر من لحمها وفتنتها صارت مطلوبة أكثر ، يُعجَب بها
الرجال، ويتسابقون لخطب ودها ... إن
هذا التبرج نتيجة طبيعية
لحالة الجماعة البشرية التي سلّعت المرأةَ _ أي
جعلتها سلعة _، وأدخلتها في التشيؤ الرخيص _ أي
جعلتها شيئاً غير ذي قيمة _. فأضحت المرأة تضحي بجسدها وتعرضه على العامة مقابل أن
تلقى الاهتمام والإشباع الذاتي ، ولكي تقنع نفسها أنها قادرة على الإغراء وجذب
الرجال.
[المرأة
الطبيعية تشعر بالانهيار حين تفقد القدرة على الإغراء ، أو حين تشعر أنها غير
مرغوبة . لذا يجب توجيه الإغراء وتفعيله داخل الحياة الزوجية ، لئلا تبحث المرأة
عمن تغريه خارج نطاق الزواج . ].
وقد كانت المرأة في الجاهلية تُبرز مفاتنها
وتمشي في الأسواق معطرة متكشفة للفت عيون الناس وجذبهم إليها . وقد وضّح الإسلامُ
العظيم مخاطر هذا الفعل ، وآثاره المدمرة في الحياة الاجتماعية للأفراد ، وألغاه
بصورة حاسمة قاطعة .
والإسلام لا يُغلق درباً محرّماً
إلا ويفتح بدلاً منه مئات الدروب المشروعة. فحث على الزواج، وأمر المرأة أن تتزين
لزوجها ، وأمر الرجل أن يتزين لامرأته ، لكي يحصل الإشباع العاطفي النفسي والمادي داخل نطاق الأسرة ، ولكي يحصل الاكتفاء الذاتي ،
فلا يبحث كل طرف عن الإشباع خارج نطاق الزوجية ، وهكذا سد الإسلامُ الذرائع
الموصلة إلى كل مفسدة )).
[الأساس الفكري للجاهلية، ص 81 و82،
إبراهيم أبو عواد، دار اليازوري ، عَمّان 2007م.].
وما زال التوجيه الإلهي مستمراً حول صيانة
نساء النبي صلى الله عليه وسلم وبناته ، وحفظهن من كل شائبة، وذلك بالتزامهن
باللباس الإسلامي الساتر للعورات ، والذي يعكس شخصية المرأة المسلمة العفيفة
الطاهرة ، فهي متميزة عن غير المسلمات بالأداء الأخلاقي المنضبط، والتمركز في
ذاتية الشرف والطهارة قبل الزواج وبعد الزواج .
قال الله تعالى: (( يا أيها النبي قل
لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدْنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يُعْرَفْنَ
فلا يُؤْذَيْن )) [ الأحزاب : 59] .
قال الصابوني في صفوة التفاسير ( 12/ 72 ) :
(( أي : قل يا محمد لزوجاتك الطاهرات _
أمهات المؤمنين _ وبناتك الفضليات الكريمات ، وسائر نساء المؤمنين ، قل لهن يلبسن
الجلباب الواسع الذي يستر محاسنهن وزينتهن ، ويدفع عنهن ألسنة السوء ، ويميزهن عن
صفات نساء الجاهلية ... ذلك التستر أقرب بأن يُعْرَفن بالعفة والتستر والصيانة ،
فلا يطمع فيهن أهل السوء والفساد ، وقيل : أقرب بأن يُعرفن أنهن حرائر ، ويتميزن
عن الإماء )) اهـ .