سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

24‏/11‏/2012

علاقات قانونية ودستورية في الإسلام

علاقات قانونية ودستورية في الإسلام

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .


1_ التكليف :
     قال اللهُ تعالى : (( لا تُكَلفُ نَفْسٌ إلا وُسْعها ))[ البقرة : 233] .
     إن القدرات البشرية محدودة وقاصرة ، ولها طاقةٌ مُعيّنة لا يمكن تجاوزها . واللهُ تعالى خالق الإنسان ويَعلم مقدار تحمّله ، لذلك لم يفرض _ سبحانه وتعالى _ على الإنسان فوق ما يَستطيع ، ولم يُحمِّله فوق طاقته . والشريعةُ جاءت لرفع الحرج عن الناس ، والتخفيف عنهم ، لا الضغط عليهم وتدمير حياتهم وحشرهم في الزاوية الضيقة . فالنفسُ البشرية لا تُلزَم إلا بما يسعها .
     وقال ابن الجوزي في صيد الخاطر ( 1/ 219) : (( رُوِيَ عن الحلاج الصوفي أنه كان يقعد في الشمس في الحر الشديد ، وعَرَقه يسيل ، فجاز بعض العقلاء ، فقال له : يا أحمق ، هذا تقاوي على الله تعالى )) اهـ .
     فالمرءُ ينبغي ألا يُضيِّق على نفسه ، ويَضطرها إلى أضيق المسالك ، ويُعذِّبها أشد العذاب . فاللهُ تعالى لو أراد أن يُهلِك خلقَه لحمّلهم فوق طاقتهم ، وجعل حياتهم جحيماً لا يُطاق ، وقضى على وجودهم . لكنّ الرحمة الإلهية قد وَسعت كل شيء . فعلى المرء أن يَلتزم بالشريعة بلا إفراط ولا تفريط ، فالفضيلةُ هي المسار المستقيم الواضح بين قيمتَيْن متطرفتَيْن . وعلى المرء ألا يُشدِّد على نفسه فيُشدِّد اللهُ عليه . فلا معنى لتحدي الشريعة ، أو محاولة التفوق عليها .
     وفي صحيح البخاري ( 1/ 23) : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الدينَ يُسْرٌ ، ولن يُشَاد الدينَ أحدٌ إلا غَلبه )) .
     فلا يمكن لأحد أن يُغالِب الدينَ أو يتفوق عليه . فالعاقلُ يلتزم بالرِّفق واللين والوسطية ، فلا يُحمِّل نفسَه فوق طاقتها فيُهلِكها ، ولا يُهمِل التعاليمَ الدينية ويستخف بها فيُضيع نفسَه . فالإسلامُ يُسْرٌ بلا ضعف . فكل متعمِّق في الدين وفق مبادئ التشدد سَتنقطع به السبل ، فإذا ترك الإنسانُ الرفقَ والهدوء فسوف يَسقط حتماً .
     وفي فتح الباري ( 1/ 94) : (( قال ابن المنير : في هذا الحديث علم من أعلام النبوة ، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدِّين ينقطع ، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة ، فإنه من الأمور المحمودة ، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال ، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل ، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة ، أو إلى أن خرج الوقت المختار ، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة )) اهـ .
     إن الكثيرين يَفتقدون إلى الحكمة في التعامل مع الدِّين . فترى الواحدَ حريصاً على الصف الأول في المسجد في حين أنه عاق لوالدَيْه ، ولا يَسْلم من شرِّه أحد . والبعضُ يَحرص على السنة ويُضيِّع الفَرضَ . وقد رأينا الجهالَ من الصوفية يَحرصون على أوراد شيوخهم ليلاً ونهاراً ، في حين أنهم لا يقرأون القرآنَ ، ولا يَعرفون الأذكارَ النبوية . وهذا الانهيار أتى من سوء الفهم للدِّين ، والجاهلُ عدو نفسه .
     وعن عائشة _ رضي الله عنها _ أنها قالت : (( ما خُير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرَيْن إلا أَخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً )).
{ متفق عليه . البخاري ( 3/ 1306) برقم ( 3367) ، ومسلم ( 4/ 1813) برقم ( 2327) . }.
     وهذا يدل على المنهجية الإسلامية الوسطية . فالشريعةُ لم تُشدِّد على الناس ، بل حَبّبت إليهم الرفق واللين والأخذ بالأسهل ما يكن إثماً . وبالطبع فالحديثُ متعلق بالأمور الدنيوية لأن أمور الدِّين لا إثم فيها .
     والبعضُ يعتقد _ لجهله _ أن التشديد على النفس من علامات الزهد والتقوى . وهذا الوهمُ المنتشر على نطاق واسع جاء بفعل تأثيرات اجتماعية سلبية وتقاليد وعادات بشرية لا تمت للدِّين بصلة . فينبغي على المرء أن يضع الأمورَ في نصابها الصحيح ، فلا يجعل من الدِّين سُلطةً كهنوتية مغلقة وعقبةً في طريق الإبداع والتقدم ، وأيضاً لا يجعل الدِّينَ ألعوبةً بلا هوية تميل مع الرياح حيث مالت . فالتشديدُ في الدِّين وتمييعه قُطبا التطرف، والصواب هو الاعتدال ، وخيرُ الأمور أوسطها .
     وفي شرح النووي على صحيح مسلم ( 15/ 83) : (( قال القاضي : ويُحتمَل أن يكون تخييره صلى الله عليه وسلم هنا من الله تعالى ، فَيُخَيِّره فيما فيه عقوبتان ، أو فيما بينه وبين الكفار من القتال وأخذ الجزية، أو في حق أمته في المجاهدة في العبادة أو الاقتصار، وكان يختار الأيسر في كل هذا )) اهـ .
     والنبي صلى الله عليه وسلم قادر على الاضطلاع بأشد المسؤوليات وأخطر المهمات، لكنه أراد ألا يُحرِج أُمته ، فهو يسيرُ بسَيْر أضعف أتباعه ، ليس عجزاً منه ، ولكنْ رحمةً بهم . فالقائدُ الحكيم لا يَحمل أتباعه على الشدائد فينهارون ، بل يُعلِّمهم كيفيةَ التعامل مع الخطوب الجليلة بشكل تدريجي عملي كي يقدروا على استيعاب المواقف الخطيرة، والتعامل معها بدون مشكلات .
     وفي صحيح مسلم ( 1/ 490 ) : أن معاذ بن جبل _ رضي الله عنه _ سُئل عن سبب جمع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء ، فقال :     (( أراد أن لا يُحرِج أُمته )) .
     وهذا الحديثُ يوضِّح المنهجَ النبوي الشريف في التعامل مع المؤمنين . فالشريعةُ جاءت للتخفيف عنهم ، ورفع الحرج ، وتوجيههم إلى أيسر السبل وأوضحها بلا تعقيدات .
     وفي صحيح مسلم ( 4/ 2055) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( هلك المتنطعون )) . قالها ثلاثاً .
     أي : هلك المبالِغون المتعمِّقون في الأمور قولاً وفعلاً . فهؤلاء الغالون أضاعوا عمرَهم في تفاصيل التفاصيل دون مبرِّر شرعي أو مسوِّغ اجتماعي . فتراهم يَبحثون في قضايا لا فائدة منها ، ولا تؤثر على حياة الناس وشؤونهم اليومية . إنهم يعيشون في عوالم أحلامهم الذاتية ، ووساوسهم الشخصية . فهُم يتخندقون في شرانق خاصة بهم معزولين عن المسار الاجتماعي العام. وعلى الرغم من حياتهم على هامش الوجود الإنساني إلا أنهم يظنون أنفسهم علماء مؤثرين في مجتمعاتهم . وللأسف فهُم لا يَرَوْنَ أبعد من أنوفهم ، ويظنون أنهم يُحسِنون عملاً . وهذا هو الجهلُ بعَيْنه .
2_ المسؤولية الشخصية :
     إن المؤمن ثابت القلب ، لا يميل مع الريح حيث مالت. وذلك لأن جذوره ضاربة في الأرض ، فلا يهتز عند الأزمات ، ولا يَنكسر أمام العواصف. فهو يَعرف طريقَه جيداً لذلك لا يَلتفت أثناء سَيْره . كما أن المؤمن رابط الجأش ، قوي الشكيمة ، يَنصح الآخرين ولا يُشاركهم في الإثم . فإن اهتدوا كان معهم ناصراً ومُعيناً ، وإن ضلوا لم يَغرق معهم في الضلال ، وإنما يحاول انتشالهم من مأزقهم . فالمؤمن ثابتٌ على موقفه بغض النظر عن مواقف الناس ، لأنه يستمد رسوخَه من تعاليم الشريعة لا أمزجةِ الناس وأهوائهم . أما الذين يَبنون مواقفهم الحياتية وفق أهواء الآخرين ، فسيبقون بلا هوية، تائهين في الدروب. وكما قيل: لا يَذهب بعيداً مَن لا يَعرف إلى أين هو ذاهب.
     قال اللهُ تعالى  : (( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسَكم لا يَضُركم مَن ضَل إذا اهتديتُم ))      [ المائدة : 105] .
     فإذا قام العبدُ بإصلاح نفسه ، وأمر بالمعروف ، ونهى عن المنكر ، فلن يؤثر عليه ضلالُ المنحرِفين وفسادهم . فإن التزم العبدُ بالهداية واعتصم بالشريعة ، فلا ضرر عليه من أهل الغواية والمعصية ، سواءٌ كانوا قريبين أو بعيدين . فلا يُؤاخَذ الإنسانُ بآثام الآخرين . فكل امرئ يتحمل مسؤولية نفسه لا أكثر ولا أقل .
     وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 2/ 22) : (( لأن المذهب الصحيح عند المحقِّقين في معنى الآية أنكم إذا فعلتُم ما كُلِّفْتُم به فلا يَضُرّكم تقصير غيركم )) اهـ .
     فالآيةُ لا يوجد فيها إعفاء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فالمسلمُ لا يكتفي بإصلاح نفسه ، بل عليه إصلاح الآخرين بالأسلوب الحسن ، ومَن رَفض النصيحةَ فإثمه على نفسه ، كما أن الناصح الذي أَصلح سِرّه وعلانيته لن يتأثر بمعصية غيره .
     وعن أبي بكر الصديق _ رضي الله عنه _ أنه قال : يا أيها الناس ، إنكم تقرأون هذه الآية
[ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسَكم لا يَضُركم مَن ضَل إذا اهتديتُم ]، وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن الناس إذا رأوا ظالماً فلم يأخذوا على يَدَيْه ، أَوشك أن يَعُمهم اللهُ بعقاب )) .
{ رواه الترمذي في سُننه ( 5/ 256) برقم ( 3057) وقال : (( حسن صحيح )) .}.
     إذن ، هناك فهمٌ مغلوط للآية . فالبعضُ يعتقد أن عليه إصلاح نفسه دون النظر إلى الآخرين وقضايا المجتمع . وهذا فهمٌ قاصر ، فلا يمكن السماح بتحول المجتمع إلى جُزُر معزولة غير متصلة فيما بينها . كما أن المؤمن صالح ومُصلِح دون تفريق . لذلك لا يَترك المجتمعَ غارقاً في انحرافه ، بل يُساهِم في توجيه دَفة السفينة الإنسانية إلى بَر الأمان ، فيُشجِّع أهلَ الصلاح ويشدّ من عزائمهم ، وفي نفس الوقت يُقاوِم الظلمَ والظالمين دون هوادة أو استسلام .
     وعن أبي أمية الشعباني قال : سألت أبا ثعلبة عن هذه الآية [ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسَكم لا يَضُركم مَن ضَل إذا اهتديتُم ] . فقال أبو ثعلبة : لقد سألتُ عنها خبيراً . أنا سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبلاً ، فقال : (( يا أبا ثعلبة ، مُرُوا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، فإذا رأيتَ شُحاً مُطاعاً ، وهوى مُتبعاً ، ودنيا مُؤْثَرة ، ورأيتَ أمراً لا بد لك من طلبه، فعليكَ نفسك ودَعْهم وعوامهم ، فإن وراءكم أيام الصبر ، صبرٌ فيهن كقبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين يعمل مثل عمله )).
{ رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 358 ) برقم ( 7912) وصححه ، ووافقه الذهبي .}.
     وهذا الحديثُ منهجٌ متكامل ، يُرشِد إلى أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فإذا غرق المجتمعُ في المفاسد ، واختلط الحق بالباطل ، وصارت أهواءُ الناس هي المرجعية ، فعندئذ يهتم المرءُ بخاصة نفسه ، ويَترك أمر العوام ، ويُؤْثِر السلامةَ الشخصية محاولاً إنقاذ نفسه في زحمة المتناقضات الاجتماعية ، والمفاسدِ المنتشرة كالنار في الهشيم ، والفتنِ المتلاطمة كأمواج البحر .
     وقال اللهُ تعالى : (( فَمَن أَبصر فلنفسه وَمَن عَمِيَ فَعَلَيْها )) [ الأنعام : 104] .
     فمَن عرف طريقَ الحق والتزم به ، ولم يَنحرف عنه ، فإن الفائدة ستعود عليه ، وينال المكافأةَ الجزيلة ، أمّا المنحرِف عن الصراط المستقيم الذي فشل في معرفة الحق فإن الكارثة ستحل به شخصياً لا غيره . فالمرءُ إنما يَعمل لصالح نفسه ، والمذْنِب عدو نفسه . فاللهُ تعالى غني عن المطيعِ والعاصي ، لا تَنفعه الطاعة ولا تضره المعصية . 
     وقال الطبري في تفسيره ( 5/ 299) : (( فَمَن تَبَين حُججَ الله وعَرَفها ، وأقر بها ، وآمن بما دَلته عليه من توحيد الله وتصديق رسوله ، وما جاء به فإنما أصاب حظ نفسه ، ولنفسه عمل ، وإياها بغى الخير . [ وَمَن عَمِيَ فَعَلَيْها ] يقول : ومن لم يستدل بها ، ولم يُصدِّق بما دَلته عليه من الإيمان بالله ورسوله وتنزيله ، ولكنه عَمِيَ عن دلالتها التي تدل عليها ، يقول : فنفسه ضَرّ وإليها أساء لا إلى غيرها )) اهـ .
     وقال اللهُ تعالى : (( وَمَن جَاهَد فإنما يُجاهِد لنفسه )) [ العنكبوت : 6] .
     فالذي يُجاهِد في الدِّين ويُقاتِل الكافرين بالكلمة والسيف ، فإنما يَعمل ذلك لصالح نفسه ، أي لنيل رضا الله تعالى وجنّته، والهروب من الجحيم. فاللهُ تعالى لا يحتاج إلى أعمال البشر وتضحياتهم ، فهو _ سبحانه _ قد أمرهم بالطاعة ونهاهم عن المعصية رحمةً بهم ، وإنقاذاً لهم من النار . وليس لله حاجةٌ في ذلك . فالطبيبُ عندما يَصف الدواءَ للمريض فهذا لمصلحة المريض لا الطبيبِ .
     وقال ابن الجوزي في تلبيس إبليس ( ص 441) : (( مَن يَتوهّم أن الله _جل وعلا _ ينتفع بطاعة ، أو يتضرر بمعصية ، أو ينال بذلك غرضاً ، فما عَرف اللهَ _ جل جلاله _ لأنه مُقدّس عن الأعراض والأغراض ، ومن انتفاع أو ضرر ، وإنما نفع الأعمال تعود على أنفسنا )) اهـ .
3 _ السيئة بمثلها :
     قال اللهُ تعالى : (( وَمَن جاء بالسيئة فلا يُجزَى إلا مِثْلَها وهُم لا يُظلَمون ))[الأنعام : 160].
     إن المنحرِف عن طريق الحق المتلبِّس بالإثم سوف يُحيط به الإثم. فمن أساء فإنما يسيء لنفسه ، وسيجد العقوبةَ المناسبة لجريمته دون ظلم .
     وذكر ابن الجوزي في زاد المسير ( 3/ 159 ) أن هناك قَوْلين في معنى السيئة في هذا الموضع : الأول_ الشِّرك، والثاني _ السيئة بشكل عام .
     وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم ( 4/ 2068 ) : (( ومَن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر )) .
     وهذا يدل على سعة الرحمة الإلهية . فاللهُ تعالى يُضاعِف الحسناتِ لكنه لا يُضاعِف السيئات . كما أن المسيء تحت المشيئة الإلهية ، فإمّا أن يُعذِّبه اللهُ أو يَغفر له . وهذا الأمرُ يجب ألا يَدفع الناسَ إلى ارتكاب الذنوب قائلين إن الله غفور رحيم . فالعقوبةُ الإلهية قاصمة لأهل العصيان ، كما أن الرّحمة الإلهية تُظلِّل مَن كان أهلاً للرحمة . أمّا الغرقى في الآثام فهُم على شفير الهاوية ، وعليهم العودة إلى الطاعة لكي يستحقوا أن يُرحَموا .
     وقال اللهُ تعالى : (( وإن عاقبتُم فعاقِبوا بِمِثْل ما عُوقِبتُم به )) [ النحل : 126] .
     إن العدل والمساواة من صميم المنهج الإسلامي الذي جاء لإنقاذ المؤمن والكافر . وهنا تتجلى العدالة في القصاص ، والمماثلة في العقوبة بلا تجاوز أو طغيان . فينبغي تطبيق الشرع بكل دقة لا الاستسلام للعواطف أو فَوْرة الغضب وحب الانتقام . فمن ظُلم له أن يأخذ حقه ، أي يُعاقِب بمثل ما عوقب به دون مجاوزة للحد .
     وعن أُبي بن كعب _ رضي الله عنه _ قال : لما كان يوم أُحد أُصيب من الأنصار أربعة وستون رَجلاً ، ومن المهاجرين ستة ، فَمَثلوا بهم ، وفيهم حمزة . فقالت الأنصار : لئن أصبناهم يوماً مثل هذا لنربِيَن عليهم ، فلما كان يوم فتح مكة أنزل اللهُ _ عز وجل _ : [ وإن عاقبتُم فعاقِبوا بِمِثْل ما عُوقِبتُم به ] ، الآية.
{ رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 391) برقم ( 3368) وصححه ، ووافقه الذهبي . }.
     إن المسلمين محكومون بمنهاج سماوي لا يمكن تجاوزه ، فهُم لا يتحركون بدافع الثأر أو الأهواء الشخصية ، بل يتحركون استناداً إلى تعاليم الشريعة العادلة في تعاملها مع المؤمن والكافر على حَد سَواء . فالكافرون يوم أُحد قاموا بالتمثيل بجثث المسلمين ، فأراد الأنصار أن ينتقموا ويزيدوا على هذا الفعل ثأراً لقتلاهم، لكن اللهَ بَيّن لهم الطريقَ القويم، وكيفيةَ التعامل مع هذه الحالات بلا غُلُو.
4 _ توحيد الأمم بالدِّين :
     قال اللهُ تعالى : (( وإن اللهَ رَبي وربكم فاعبدوه هذا صِراطٌ مستقيم )) [ مريم : 36] .
     إن هذه الدعوة المقدّسة لا لبسَ فيها ولا اعوجاج. فاللهُ تعالى هو رب الناس. وكلهم خاضعون له . وهذه الحقيقة الباهرة لا مجاملة فيها أو محاباة لأَحد . فالنقلُ والعقل يرشدان العباد إلى خالقهم الإله الواحد الذي لا شريك له ، وهذا الصراطُ المستقيم قادرٌ على توحيد البشرية والأمم بغض النظر عن أشكالهم وأجناسهم .
     وقال اللهُ تعالى : (( إن هذه أُمتكم أُمةً واحدةً وأنا ربكم فاعبدونِ )) [ الأنبياء : 92] .
     فالدِّينُ واحدٌ لا لبسَ فيه ولا ضعف . واللهُ تعالى إلهٌ واحد يجب إفراده بالعبادة والتوجه إليه بكل إخلاص بدون أية شائبة شِرْكية . لذلك ليس غريباً أن تكون الأُمة متحدة على مبدأ واحد ، فكلمتها واحدة لا تتشتت ، كما أن مواقفها ثابتة على الحق لا تتزعزع لأنها تنطلق من عقيدة سماوية واحدة لا شك فيها ولا شُبهة . فالدِّينُ هو الذي وَحّد الأُمّة ، وصنع تاريخَها الناصع . وإذا زال الدِّينُ فإن الأُمّة ستتفرق شِيَعاً وأحزاباً ، كل حزبٍ بما لديهم فرحون . فالدِّينُ هو الموحِّد الحقيقي للأمة ، وبدونه ستفقد الأُمةُ معنى وجودها وتماسكها .
     وقال البيضاوي في تفسيره ( 1/ 158 ) : (( مِلتكم مِلة واحدة ، أي مُتّحدة في الاعتقاد وأصول الشرائع ، أو جماعتكم جماعة واحدة متفقة على الإيمان ، والتوحيد في العبادة )) اهـ .
5 _ الحق يُزهِق الباطلَ :
     قال اللهُ تعالى : (( وقُل جاء الحق وزَهَق الباطلُ إن الباطل كان زَهوقاً ))  [ الإسراء : 81] .
     إن دولة الباطل ساعة ، ودولة الحق إلى قيام الساعة . ومهما علا ضجيجُ الباطل ونال من الحظوة والمكانة والانتشار ، فسيظل هَشّاً كأوراق الخريف سُرعان ما يذهب أدراج الرياح . وفي نهاية المطاف لن يَصِحّ إلا الصحيح . والبقاءُ للحق لأنه قوي بذاته ، أمّا الباطل فعواملُ ضعفه كامنة فيه ، وهو يستمد سَطْوته من خارجه ، لذلك لا يتمتع بالبقاء والديمومة . فالشمسُ حينما تطلع سوف تذيب الثلوجَ مهما تراكمت وعَلَت . وكما يُقال : مَن يَضحك أخيراً يَضحك كثيراً .
     فالإسلامُ هو الحق الساطع الذي لا تَثبت أمامه أية قوة . فقد جاء الحق ليبقى ولن يَزول . أمّا الكفر فقد اضمحل وتلاشى .
     وقال ابن كثير في تفسيره ( 3/ 82): (( [ وقُل جاء الحق وزَهَق الباطلُ ] الآية تهديد ووعيد لكفار قريش ، فإنه قد جاءهم من الله الحق الذي لا مِرْية فيه ، ولا قِبَل لهم به ، وهو ما بعثه اللهُ به من القرآن ، والإيمان ، والعلم النافع . وزهق باطلهم ، أي : اضمحل وهلك، فإن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء )) اهـ .
     وعن ابن مسعود _رضي الله عنه_قال: (( دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة ، وحَوْلَ الكعبة ثلاثمائة وستون نصباً، فجعل يطعنها بعود في يده، وجعل يقول: [ جاء الحق وزَهَق الباطلُ ] _الآية_ )).
{ متفق عليه .البخاري ( 2/ 876) برقم ( 2346)،ومسلم ( 3/ 1408) برقم ( 1781) .}.
     فالنبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة فاتحاً رحيماً لا مغروراً . فهذه البُقعة المقدّسة كانت مركزاً للأصنام المعبودة من دون الله تعالى . فالعربُ قد نَصبوا ثلاثمائة وستين صنماً تُجسِّد ثقافتهم الوثنية البدائية المستندة إلى تقاليد الآباء الغابرين . فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يَطعن هذه الأوثان في إشارة واضحة إلى قدوم نور التوحيد وانكسار ظلام الشِّرك إلى الأبد . فالتوحيدُ قد علا صوته ولن يَنخفض ، والوثنية تلاشت ولن تَعود . فالحق قد جاء ، والباطل قد زال .
     وقال اللهُ تعالى : (( بَل نَقذفُ بالحق على الباطل فَيَدْمَغُه فإذا هُوَ زَاهِقٌ )) [ الأنبياء : 18] .
     فالقرآنُ _ وهو الحق الباهر _ يمحو الباطلَ ويُهلكه ، بحيث لا تقوم له قائمة بعد ذلك . فيذهب الباطلُ أدراج الرياح بكل ذِلة وخزي . فاللهُ تعالى يَرمي بالحق المبين على الباطل المتداعي ، فيقضي عليه قضاءً تماماً لا فرصة معه للعودة .
     وقال القرطبي في تفسيره( 11/ 244):(( وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ ))اهـ.
     وفي هذا إشارةٌ واضحة على أن الباطل سَيَفقد حياته ، بحيث تضمحل فرصةُ بقائه ، تماماً كالذي يتلقى ضربةً هائلة على رأسه فتُهشِّم الجمجمةَ ، وتصل إلى الدماغ . فضربُ الدماغ هو مَقتل . وهنا يبرز معنى الاستئصال والنهاية الحتمية .