العمل الصالح
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
أ _ الدعوة إلى العمل الصالح :
قال الله
تعالى : (( وَعَدَ
اللهُ الذين آمنوا وعَمِلوا الصالحاتِ لهم مغفرة وأجرٌ عظيم )) [ المائدة : 9] .
وهذه دعوةٌ
جليلة للعمل الصالح لنيل رضا الله تعالى وجنّته . فاللهُ تعالى قد وعد المؤمنين
الذين يعملون الصالحاتِ بأن لهم مغفرة عظيمة وأجراً جليلاً . وفي هذا حافزٌ عظيم
على العمل المتقَن الذي يمتاز بالإخلاص والسيرِ وفق الشريعة .
وقال الطبري
في تفسيره ( 4/ 484 ) : (( وعد الله_ أيها الناس _ الذين صدقوا اللهَ ورسوله وأقروا
بما جاءهم به من عند ربهم ، وعملوا بما واثقهم الله به ، وأوفوا بالعقود التي عاقدهم
عليها بقولهم : لنسمعن ولنطيعن الله ورسوله ، فسمعوا أمرَ الله ونهيه ، وأطاعوه فعملوا
بما أمرهم الله به وانتهوا عما نهاهم عنه ... لهؤلاء الذين وفوا بالعقود والميثاق الذي
واثقهم به ربهم [ مغفرة ] وهي ستر ذنوبهم السالفة
منهم عليهم ، وتغطيتها بعفوه لهم عنها ، وتركه عقوبتهم عليها ، وفضيحتهم بها ... ولهم
مع عفوه لهم عن ذنوبهم السالفة منهم جزاءً على أعمالهم التي عملوها ، ووفائهم بالعقود
التي عاقدوا ربهم عليها [ أجرٌ عظيم ] والعظيم من خيره غير محدود
مبلغه ، ولا يعرف منتهاه غيره _ تعالى ذِكْرُه _ )) اهـ .
ب_ المسارعة في الخيرات :
قال الله
تعالى : (( ويُسَارِعون في الخيرات )) [ آل عمران : 114] .
إنهم
يبادرون إلى فعل الخيرات دون تكاسل أو تباطؤ لمعرفتهم بعظيم الأجر الذي ينتظرهم .
وهذه المسارَعة تعكس قوةَ الإيمان ، والصدق في القول والفعل ، والمثابرة في تحصيل
الأجر ، وقوة الوازع الديني ، والدافعية للتحدي والإنجاز .
وقال الطبري
في تفسيره ( 3/ 402 ) : (( ويبتدرون فعل الخيرات_ خشية أن يفوتهم ذلك_ قبل معالجتهم
مناياهم )) اهـ .
وقد مدح
اللهُ تعالى الصحابةَ الكرام الذين امتازوا بالسبق والمسارعة في الخيرات ، وعدم
التقاعس والركونِ إلى الدنيا. فقال_ سبحانه _: ((
والسابِقون الأولون من المهاجِرين والأنصار )) [ التوبة : 100] .
قال الطبري في تفسيره ( 11 / 6 ) : (( يقول تعالى ذِكْره :
والذين سبقوا الناسَ أولاً إلى
الإيمان بالله ورسوله من المهاجرين الذين هاجروا قومهم
وعشيرتهم ، وفارقوا منازلهم وأوطانهم ، والأنصار الذين نصروا رسول الله صلى الله
عليه وسلم على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسولِه )) اهـ .
وقد ذكر ابن
الجوزي في زاد المسير ( 3/ 490و491 ) ستة أقوال في قوله _ سبحانه _ :
[
والسابِقون الأولون ] : (( أحدها أنهم الذين صَلوا
إلى القِبْلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ... والثاني أنهم الذين بايعوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان ... والثالث أنهم أهل بدر ... والرابع أنهم جميع أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم حصل لهم السبق بصحبته ... والخامس أنهم السابقون بالموت والشهادة سبقوا
إلى ثواب الله تعالى ... والسادس أنهم الذين أسلموا
قبل الهجرة )) اهـ .
وكل هذه الأقوال تشير إلى أهمية المسارعة في
الخيرات ، والمبادرةِ إلى فعل الطاعات ، والحرصِ على مسابقة الأقران إلى الأمور
الطيبة. فعلى المرء أن يكون حريصاً أن لا يسبقه إلى الله تعالى أحد. فهذا هو مجال
التسابق والتنافس والإصرار والعزيمة . فالإيمانُ حينما يملأ الكيانَ البشري فإن الفرد
يتحول إلى شعلة نشاط ، ويؤول المجتمع إلى خلية نحل لا تتوقف عن العمل الجاد .
ج _ التوسط في العمل :
قال الله
تعالى : [ ولا تجعل يَدَكَ مغلولةً إلى عُنُقِكَ ولا
تبسطها كل البسط ][ الإسراء: 29].
فاللهُ
تعالى يأمر بالاقتصاد في المعيشة والاعتدال في الإنفاق، فقد ذَمّ البخلَ والإسراف
معاً . ومعنى الآية (( أي لا تكن بخيلاً مَنُوعاً، لا تعطي أحداً شيئاً كما قالت اليهود_
عليهم لعائن الله _: يد الله مغلولة ، أي نسبوه إلى البخل ... ولا تسرف في الإنفاق
فتعطي فوق طاقتك ، وتُخرج أكثر من دخلك )).[تفسير
ابن كثير ( 3/ 53 ) .].
فالإسلام
منهجٌ متكامل يمتاز بالوسطية ، فلا إفراط فيه ولا تفريط . إنه نظام حياة يمتاز
بالشمولية والاعتدال ، فلا غُلُو فيه ولا تقصير . وهذه النهج الوسطي شاملٌ لكل
الأمور الدينية والدنيوية .
وقال الله
تعالى : (( ولا تَجهر بصلاتكَ ولا تُخافِت بها وابْتَغِ
بَيْن ذلك سبيلاً ))
[
الإسراء : 110] .
وهذا التوسط في العمل له حكمة بليغة ، ولا
يجيء عبثاً . إنما هو في سياقه المنطقي حيث المسار المعتدِل بين الجهر بالصلاة
والمخافتة بها .
وعن ابن
عباس _ رضي الله عنهما _ في قوله تعالى : [ ولا
تَجهر بصلاتكَ ولا تُخافِت بها ] . قال : نزلت ورسول الله
صلى الله عليه وسلم مختفٍ بمكة ، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فإذا سمعه
المشركون سَبوا القرآنَ ومن أَنزله ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله
عليه وسلم : [ ولا تَجهر بصلاتكَ ] ، أي بقراءتك فيسمع المشركون
فيسبوا القرآنَ،[ ولا تُخافِت بها ] عن أصحابك فلا تُسمعهم.
{ متفق
عليه . البخاري ( 4/ 1749 ) برقم ( 4445) ، ومسلم ( 1/ 329 ) برقم ( 446) . }.
د _ تطابق العمل مع القول :
قال الله
تعالى : (( أَتأمرون الناسَ بالبِر وتَنسَوْن أَنفسَكم
)) [
البقرة : 44] .
فهؤلاء
يأمرون الناس بالخير وينسون أنفسهم . إي إن كلامهم يتعارض مع واقع حالهم . وهذا
الانفصام في الشخصية يؤدي إلى ضياع البوصلة الإنسانية، وتحول الفرد إلى كيان مفرغ
من المعنى، حيث تصبح الكلماتُ مجرد شعارات رنانة لا تنعكس على السلوك البشري .
وهذه الآفةُ موجودة في كل العصور ، وتكمن خطورتها في انشغال المجتمع بالكلام دون
العمل ، واختفاء العلم في حِبر الكتب دون القدرة على الاستفادة منه على أرض الواقع
. لذا فالعلمُ المجرّدُ من العمل يقود إلى غياب الثقة بين الفرد ونفسه ، وبين
الفرد والجماعة ، فيتحول المجتمعُ إلى جُزر متباعدة بلا هوية ولا رابط بينها ،
مشغولة بالجِدال ومحرومة من العمل . والمحك الحقيقي هو العمل ، لأن الكلام سهلٌ لا
يحتاج إلى جهود جبارة وخطط تنموية وبرامج إصلاح ومشاريع تطوير .
وقال ابن
كثير في تفسيره ( 1/ 124 ) : (( يقول تعالى : كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب ، وأنتم
تأمرون الناس بالبِر وهو جماع الخير ، أن تنسوا أنفسكم فلا تأتمروا بما تأمرون الناس
به )) اهـ . وكما قال الشاعر :
وصفتَ التقى حتى كأنك ذو
تقى
وريح الخطايا من ثيابك
يسـطع
وفي الدر
المنثور للسيوطي ( 1/ 156 ) : [ وأخرج الثعلبي والواحدي عن ابن عباس قال : (( نزلت
هذه الآية في يهود أهل المدينة ، كان الرجل منهم يقول لصِهره ولذوي قرابته ولمن بينه
وبينهم رضاع من المسلمين : اثبت على الدين الذي أنت عليه ، وما يأمرك به هذا الرجل
_ يعنون به محمداً _ ، فإن أمره حق ، وكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه )) ] .
وفي الحديث
المتفق عليه . البخاري ( 3/ 1191) ومسلم ( 4/ 2290 ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( يجاء بالرجل يوم القيامة
، فيُلقَى في النار ، فتندلق أقتابه _ أي أمعاؤه _ في النار ، فيدور كما يدور الحمار
برحاه فيجتمع أهل النار عليه ، فيقولون : أي فلان ، ما شأنك ؟ ، أليس كنتَ تأمرنا بالمعروف
وتنهانا عن المنكر ؟، قال: كنتُ آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه )).
وهكذا نرى خطورة عدم تطابق القول والعمل .
وهذا التناقض الصارخ يؤدي إلى عواقب وخيمة . ففي الدنيا يغدو الفردُ منفصمَ
الشخصية لا يشعر بحلاوة الإيمان وتطبيقاته العملية على أرض الواقع ، وهذا يجعل
الفردَ ضائعاً في متاهات القلق والحيرة وعدم الاستمتاع بالحياة . وفي الآخرة سوف
يُلاقي جزاءَ سيئاته، فقد كان يرشد الآخرين إلى المعروف، وهو يغوص في المنكرات.
فمثلُه كإنسان يُرشِد الآخرين إلى الطريق الآمن ويقع هو في الحفرة .
وقال الله
تعالى : (( يا أيها الذين آمَنُوا لِمَ تقولون ما لا
تَفْعلون )) [ الصف : 2] .
فقد أنكر
اللهُ تعالى عليهم أن يقولوا القولَ ولا يجاوز ألسنتهم . فأعمالهم مخالفة لأقوالهم
. وهذا الاختلاف بين الكلام والواقع ينعكس سلباً على نفسية المرء ، ويؤدي إلى
الشعور بالذنب وعدم الرضا عن الذات ، فتنشأ حربٌ بين الإنسان وذاته بسبب التناقض
في حياته ، وهكذا ينهار السلام الداخلي في ذات المرء ، وتصبح حياته كوابيس متناقضة
يقتل بعضُها بعضاً ، فيغرقُ الفردُ في متاهات لا ضوء في آخرها .
وهذه الآية
(( إنكار على من يَعِد وعداً ، أو يقول قولاً لا يفي به . ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة
من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقاً ، سواء تَرتب عليه عزم الموعود
، أم لا )).
[تفسير ابن كثير ( 4/ 458 ) .].
وعن عبد
الله بن سلام _ رضي الله عنه_ قال: (( قعدنا نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم ، فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عملنا )) . {
رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 248 ) برقم ( 2899 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .}. وهذا سبب نزول الآية
.
فالمسلمُ
تكون أقوالُه مطابقة لعمله ، وعملُه ذا وجود على أرض الواقع وليس شعاراً مرفوعاً
فحسب. وعليه أن يحرص على عدم حدوث انفصال بين القول والفعل لئلا يتحول إلى بُوق
أجوف لا مصداقية لكلامه ، فيخسر احترامه لنفسه واحترامَ الآخرين له .
هـ _ حُسن السلوك :
قال الله
تعالى : (( يا أيها الذين آمَنُوا لا تقولوا رَاعِنا ))
[
البقرة : 104] .
إن الآية
ترشد إلى حسن السلوك ، وانتقاءِ الألفاظ الطيبة ، والابتعادِ عن المعاني القبيحة ،
وتقليدِ الكافرين في كلامهم المليء بالنفاق والحقد والمعنى
الباطل الخفي . فإن اليهود كان يلجأون إلى الكلام المبطّن الذي فيه تَوْرِية (( لما
يقصدونه من التنقيص _ عليهم لعائن الله _، فإذا أرادوا أن يقولوا : اسمع لنا ، يقولون
: راعنا ، ويُوَرون بالرعونة )).{ تفسير
ابن كثير ( 1/ 206 ) .}.
وكان خبثاء اليهود
يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم
( راعنا ) وهي لفظة قريبة من معنى الرعونة . وهذه الكلمة باللغة
العبرية هي شتيمة . وهكذا يَلْوُون ألسنتهم بكلام يحتمل المعنيين الصالح والطالح ،
وبالطبع يقصدون المعنى الطالح . وهذا يدل على خبث السريرة ، والنيةِ السيئة المبيّتة
مسبقاً . وهذه الأساليب الدنيئة الغارقة في التحايل والاستهزاء ليست غريبةً على
اليهود .
قال ابن عطية في البحر
المحيط ( 3/ 264 ) : (( وهذا موجود حتى الآن في اليهود ، وقد شاهدناهم يُرَبّون
أولادهم الصغار على ذلك ، ويُحفِّظونهم ما يُخاطبون به المسلمين مما ظاهره التوقير
، ويريدون به التحقير )) اهـ .
والتلاعب بالألفاظ
والعبارات صفة لازمة لليهود عبر كل المراحل الزمنية . فهم يستعملون الكلامَ
الباطني الفضفاض الذي يحتمل المعاني المتعددة، ويقصدون المعنى القبيح.فهم بذلك
يكشفون عن حقدهم الخفي ، ويسعون إلى تنفيذ مخططاتهم الشريرة ذات الطبيعة المستترة
. وهم يلجأون إلى هذه الطرق للتنفيس عن حقدهم واحتراقِ صدورهم بالضغينة وكراهية
الحق . وهم يعتقدون أن هذه الأساليب تعكس ذكاءهم وانتصارهم ، لكن الحقيقة عكس ذلك
تماماً .
وقال الله تعالى : (( وإذا
حُييتم بتحية فَحَيوا بأحسن منها أو رُدوها )) [ النساء : 86] .
وهذا الإرشاد القرآني
إلى حسن التعامل في مسألة " التحية " . فلا بد من مقابلة التحية بأفضل
منها أو ردها . وقد ذكر ابن الجوزي في زاد المسير ( 2/ 152 ) أن الجمهور يَرَوْن
أن " التحية " هي السلام .
وفي الفقه إن إلقاء
السلام سُنّة ، والرد عليه فرض . وهذا يشير إلى مكارم الأخلاق التي جاءت بها
الشريعة المطهّرة لتعزيز الروابط الاجتماعية، وتوحيدِ المجتمع على قلب رَجل واحد.
فالتحيةُ ليست مجرد كلام . إنها منظومة دينية فكرية ثقافية شاملة تُعزِّز التكافل
الاجتماعي ، وتنتزع الأحقاد من صدور الناس ، وتُصفِّي الأجواء من كل الشوائب الاجتماعية
والأمراض النفسية كالحسد والحقد وحب الانتقام . فالتحيةُ تُشيع جواً من المودة
والطمأنينة وقبول الآخر ، فتنشأ علاقات اجتماعية صحيحة ، فتتضافر الجهودُ البشرية
وتلتقي لقيادة حركة الإصلاح الاجتماعي والازدهار والتقدم .
وعن ابن عباس _ رضي الله
عنهما _ قال : (( مَن سَلم عليك
من خَلْق الله فاردد عليه وإن كان مجوسياً ، فإن الله يقول : [
وإذا حُييتم بتحية فَحَيوا بأحسن منها أو رُدوها ] )).
{ واه أبو
يعلى في مسنده ( 3/ 100 ) برقم ( 1530 ) . وقال الهيثمي في المجمع ( 8/ 82 ) : ((ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق بن أبي إسرائيل وهو ثقة))اهـ.وفي
فتح الباري ( 11/ 42 ) : (( قال ابن بطال : قال قوم : رد السلام على أهل الذمة فرض
لعموم الآية . وثبت عن ابن عباس أنه قال : " من سلم عليك فرد عليه ولو كان مجوسياً
" ، وبه قال الشعبي وقتادة . ومنع من ذلك مالك والجمهور. وقال عطاء: الآية مخصوصة
بالمسلمين فلا يرد السلام على الكافر مطلقاً )) . }.
وعن الحسن : (( [ وإذا حُييتم بتحية فَحَيوا بأحسن
منها ] لأهل الإسلام ، [ أو
رُدوها ] على أهل الشرك )).
{ رواه أبو
يعلى في مسنده ( 3/ 100) برقم ( 1531 ) . وقال الهيثمي في المجمع ( 7/ 64 ) : ((
ورجاله ثقات )) .}.
وقال الله تعالى : [ يا أيها الذين آمَنوا لا تَدخلوا
بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتُسلموا على أهلها ] [ النور : 27] .
(( هذه آداب شرعية أَدّب اللهُ بها عبادَه المؤمنين ، وذلك في
الاستئذان ، أمرهم أن لا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم حتى يستأنسوا ، أي يستأذنوا قبل الدخول
، ويُسلموا بعده )).
{ تفسير
ابن كثير ( 3/ 372 ) .}.
وهذه الآداب الجليلة من شأنها حماية المجتمع من الفساد الأخلاقي ، والعمل
على التماسك الاجتماعي عبر إحاطة البيوت بسياج أخلاقي منيع من الآداب العامة والاستئذان
والسلام. فكيفيةُ الدخول إلى البيوت أمرٌ بالغ الأهمية، لأن فيه اطلاعاً على ما
وراء الأسوار والستائر المغلقة، فأعطته الشريعةُ مكانةً خاصة وأهمية كبرى .
وينبغي للمرء أن يستأذن ثلاث مرات، فإن أُذن له كان بها،وإلا فعليه الرجوع.
ففي الحديث : (( إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يُؤذن له فليرجع )) .
{ متفق
عليه.البخاري ( 5/ 2305 ) برقم ( 5891 )،ومسلم ( 3/ 1694 ) برقم ( 2153 ). }.
كما ينبغي للزائر أن يُعرِّف بنفسه حينما يطلب أهلُ الدار معرفته . فعن
جابر بن عبد الله _ رضي الله عنه_ قال
: أتيتُ
النبي صلى الله عليه وسلم في دَيْن كان على أبي، فدققتُ البابَ، فقال: (( مَن ذا
)) ، فقلتُ : أنا ، فقال : (( أنا أنا )) . كأنه كرهها.
{
متفق عليه.واللفظ للبخاري( 5/ 2306)برقم( 5896).ومسلم( 3/ 1697 )برقم ( 2155).}.
فهذه اللفظة " أنا " لا تكشف عن
هوية صاحبها ، فهي تنطبق على كل الناس . فلا يحصل بها دفء الاستئذان وآدابه . لذلك
أعاد النبي صلى الله عليه وسلم كلامَ جابر _ رضي الله عنه _ مُنكِراً عليه .
وفي شرح النووي على صحيح مسلم ( 14/ 135 ):
(( قال العلماء : إذا استأذن فقيل له : من أنت ؟ ، أو من هذا ؟ ، كُره أن يقول : أنا
، لهذا الحديث . ولأنه لم يحصل بقوله : أنا فائدة ولا زيادة، بل الإبهام باق، بل ينبغي
أن يقول: فلان، باسمه، وإن قال : أنا فلان ، فلابأس )) اهـ .
وقال الله تعالى : ((
وعِبادُ الرحمن الذين يمشون على الأرض هَوْناً وإذا خاطبهم الجاهِلون قالوا
سَلاماً )) [ الفُرقان : 63] .
وهذه الآية تتضمن مظهرَيْن لحسن سلوك
المؤمنين الذين هم عباد الرحمن وصفوته من خلقه . فالمظهر الأول هو المشي على الأرض
بوقار وسكينة بدون تكبر أو خُيلاء . وهذه طبيعتهم بلا رياء أو تصنع . وقد كان
النبي صلى الله عليه وسلم (( إذا مشى تكفأ تكفؤاً ، كأنما انحط من صبب )).
[رواه الترمذي ( 5/ 598 ) برقم ( 3637 ) وصحّحه، والحاكم
في المستدرك ( 2/ 662 ) برقم ( 4194) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .].
والمعنى العام أنه صلى الله عليه وسلم يمشي بوقار
وسكينة بلا رياء أو تكلف ، وكانت مِشيته هادئة متوازنة بلا إسراع ولا إبطاء.
أما المظهر الثاني فهو مقابلة الإساءة
بالإحسان والعفو عن الجهال ، ومقابلة كلامهم القبيح بالكلام الطيب الهادئ .
فالمؤمنون (( إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيئ لم يقابلوهم عليه بمثله ، بل يعفون
ويصفحون ولا يقولون إلا خيراً ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة
الجاهل عليه إلا حِلماً )). { تفسير
ابن كثير ( 3/ 433 ) . }.
وصدق القائل :
يُخاطِبُني السفيهُ بكل
قبحٍ
فأكرَهُ أن أكونَ له مجيبـاً
يزيدُ
سفاهةً وأزيدُ حِلمـاً
كعودٍ
زادَهُ الإِحراقُ طيباً
وقال الله
تعالى : (( يا أيها الذين آمَنوا إذا قِيل لكم تَفَسحُوا
في المجالس فافْسَحوا يَفْسَحِ اللهُ لكم )) [ المجادِلة: 11].
وهذا هو
الأدبُ القرآني في قضية المجالس ، وكيفية الجلوس فيها والتعامل بين الحضور . فقد
أمر اللهُ تعالى المؤمنين بالتأدب في المجلس والتوسعة فيه لكي يستطيع الجميع أن
يجلس دون مضايقة أحد لأحد .
إنه أمرٌ
إلهي جليل (( بتحسين الأدب في مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يُضيِّقوا
عليه المجلس ، وأمرَ المسلمين بالتعطف والتآلف حتى يفسح بعضهم لبعض حتى يتمكنوا من
الاستماع من رسول الله والنظر إليه )) .{
تفسير القرطبي ( 17/ 251 ) . }.
وفي الدر
المنثور للسيوطي ( 8/ 82 ) : (( عن مقاتل بن حيان قال : أُنزلت هذه الآية يوم جمعة،
وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة، وفي المكان ضيق. وكان يُكرِم أهل
بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر ، وقد سُبقوا إلى المجلس ، فقاموا
حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته
، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ثم سَلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم ، فقاموا
على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام
فلم يُفسَح لهم ، فَشَق ذلك عليه ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل
بدر : قم يا فلان وأنت يا فلان ، فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام من أهل بدر
، فشُق ذلك على من أُقيم من مجلسه فنزلت هذه الآية )) اهـ .
فينبغي
للجماعة المسلمة أن تكون متماسكة كالبنيان المرصوص ، ومتعاطفة اجتماعياً في كل
المجالات . وفي المجالس تتجلى الآداب الإسلامية بإفساح المجال للآخرين كي يجلسوا
مرتاحين بلا ضيق ، وفي هذا احترامٌ بالغ ، وتطييب للنفوس، ومعرفة مكانة الرجال
وإنزالهم منازلهم . مما يؤدي إلى توليد حالة كبرى من الوحدة الاجتماعية بلا حقد أو
سوء أدب . فالاحترامُ المتبادل ينشر مناخاً من المودة والقبول النفسي الذي ينعكس
على السلوك الاجتماعي بشكل إيجابي .
وعن ابن عمر
_ رضي الله عنهما _ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا يُقيم الرجلُ الرجلَ من
مقعده ثم يجلس فيه ، ولكن تَفَسحوا وتَوَسعوا )).
{ متفق
عليه.واللفظ لمسلم( 4/ 1714 )برقم( 2177).البخاري( 5/ 2313 )برقم ( 5914 ).}.
ونحن نرى أن
الشريعة أَوْلت اهتماماً خاصاً بآداب المجلس . فجاء الإرشادُ النبوي بأن لا يقيم
الرجلُ الرجلَ من مكانه ثم يجلس محله لما في ذلك من سوء أدب، ونشر الحقد والضيق في
الصدور. والحل إنما يكون في التوسعة ، واستيعاب الآخرين. وهكذا يكون المجلس عاملاً
على تصفية النفوس من الشوائب ، وتطهيرها من الخصال الذميمة .
و _ التعاون مع الآخرين :
قال الله
تعالى : (( وَتَعَاوَنوا على البِر والتقوى ))[ المائدة : 2] .
وهنا تظهر
أهمية التعاون على فعل الخير وترك المنكر، وتضافر الجهد الجماعي من أجل التقرب إلى
الله تعالى . وقد ورد تعريفٌ جميل للتقوى : (( الخوفُ من الجليل ، والعمل بالتنزيل
، والرضا بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل )) .
وقد أَعْلت
الشريعةُ من قيمة التعاون وإرشاد الآخرين إلى الخير لما في ذلك من تقوية الأواصر
المجتمعية، وتوحيد كافة الجهود لنشر الفضيلة واجتثاث الرذيلة . فحب الخير للآخرين
من علامات المروءة واحترام الإنسان لنفسه . فالمؤمنُ مرآةُ أخيه ، وهو قوي بإخوانه
. وهذا الترابط الإنساني الجماعي لا يمكن أن يتأسس إلا بتعميم منظومة نشر الخير،
وإرشاد الآخرين إلى السعادة. فانكماشُ المرء على نفسه والعيش من أجل ذاته فقط ،
يشير إلى سوء أخلاق وأثرة مقيتة تنبئ عن أمراض اجتماعية ونفسية تستوطن كيان ذلك
الشخص . وفي الحديث النبوي الذي رواه مسلم ( 3/ 1506 ) : (( مَن دَل على خير فله مثل
أجر فاعله
)) .
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 13/ 39
) : (( فيه
فضيلة الدلالة على الخير ، والتنبيه عليه ، والمساعدة لفاعله . وفيه فضيلة تعليم العلم
ووظائف العبادات ، لاسيما لمن يعمل بها من المتعبِّدين وغيرهم . والمراد بمثل أجر فاعله
أن له ثواباً بذلك الفعل كما أن لفاعله ثواباً ، ولا يلزم أن يكون قدر ثوابهما سواء
)) اهـ .
ز _ التواضع :
قال الله
تعالى : (( ولا تَمْشِ في الأرض مَرَحاً إنكَ لن تخرق
الأرضَ ولن تَبْلغ الجبالَ طُولاً )) [ الإسراء : 37] .
إن الإرشاد
القرآني أعلى من شأن التواضع والمشي بالسكينة والوقار . وقد ذَمّت الشريعةُ المشي
في الأرض بتكبر وخُيلاء ورياء ، لما في ذلك من عدم تقدير للنِّعم الإلهية، واحتقار
للآخرين ، وعدم احترام مشاعر الناس ، ونشر سوء الأدب في الطريق . والمرءُ حينما
يتذكر أصله الطيني البسيط ، ويتذكر أنه يذهب إلى الخلاء ليُخرِج الفضلات ، سيُدرك
أن لا مجال للتكبر والاستعلاء في الأرض بغير الحق .
وقال الطبري
في تفسيره ( 8/ 81) : (( ولا تمش في الأرض مختالاً مستكبراً ... إنك لن تقطع الأرض
باختيالك ... [ ولن تَبْلغ الجبالَ طُولاً ] بفخرك وكِبْرك ، وإنما
هذا نهي من الله عباده عن الكِبر والفخر والخيلاء )) اهـ .
وفي صحيح
مسلم ( 3/ 1653 ): عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : (( بينما رَجل يتبختر يمشي في بُرْدَيْه _ يعني ثوبَيْه_ ، قد أعجبته نفسُه
، فخسف اللهُ به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة )) .
فعلى
الإنسان أن يدرك أنه حقير أمام عَظَمة الله تعالى ، فلا يتكبر ولا يتبختر . بل
يمشي بهدوء وسكينة مستشعراً الكِبرياء الإلهي . ومن عرف حدّه عليه أن يقف عنده . والإنسانُ
أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة ، وبين يدي ذلك يحمل العذرة . ومن كان هذا حاله
فلا يحق له أن يتكبر أو يمشي مختالاً .
وقال النووي
في شرحه على صحيح مسلم ( 14/ 64) : (( يتجلجل _ بالجيم _ أي يتحرك وينزل مضطرباً. قيل
: يحتمل أن هذا الرجل من هذه الأمة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيقع هذا
. وقيل : بل هو إخبار عمّن قبل هذه الأمة ، وهذا هو الصحيح )) اهـ .
وقد تم ذمّ
مشية التبختر والخيلاء. فعن خولة بنت قيس _ رضي الله عنها_ أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : (( إذا مَشَت أُمتي المطيطاء
، وخدمتهم فارس والروم سُلط بعضهم على بعض )).
[رواه
ابن حبان في صحيحه ( 15/ 112) برقم ( 6716 ) ، والطبراني في الأوسط ( 1/ 47 ) برقم
( 132) بسند حسّنه الهيثمي في المجمع ( 10/ 411) . ].
وقال الله
تعالى : (( ولا تُصَعرْ خَدكَ للناس )) [ لُقمان : 18] .
فلا تُمِل
وجهك عن الناس احتقاراً لهم، ولا تُعرِض عنهم تكبراً. وهذا درسٌ بليغ في التواضع،
واحترامِ الإنسان ، وأدب الحوار بين الناس . وكل هذه المعاني الطيبة تعمل على
تنقية المجتمع من الضغائن ، وشهوةِ الانتقام ، وعقليةِ الحقد والثأر . فكل الناس
أصلهم من التراب ومرجعهم إلى التراب فلا معنى للغرور والتكبر ، ولا فائدة من
التطاول على الآخرين .
وقال الطبري
في تفسيره ( 10/ 214 ) : (( وأصل الصعر داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رؤوسها حتى تلفت
أعناقها عن رؤوسها ، فيُشَبه به الرجل المتكبر على الناس )) اهـ .