أغنية للبحيرات الجافة ( قصيدة )
للشاعر/ إبراهيم أبو عواد
جريدة العرب اللندنية 20/11/2012
للشاعر/ إبراهيم أبو عواد
جريدة العرب اللندنية 20/11/2012
احْضُنْ تضاريسَ الغيمِ الأحمر لكي تَعرفَ
مَلامحَ الرِّجالِ في المقابر الجماعية. لو أني أَقْدرُ على تهريب الموانئ من
جِلدي، لو أني أَهْربُ من رموشي . أَحْملُ وحشاً بين أضلاعي لا أستطيع قَتْلَه .
كسرتُ ألواحَ صدري لِتَدْخلَ عواصفُ الكهرمان . أيها الشجرُ البِكرُ ، لا تَرفع
سِلاحَكَ في وجهي، إن أمي تنتظر عَوْدتي بكيس الخبز . أنا ساعي البريد الذي باع
الرسائل ليشتريَ أكفاناً لأرامل القرى المنبوذة . أضعتُ خارطةَ لحم آبائي في طريق
المجزرة . وكانت أجفانُ عُمَّالِ النظافة تتساقط على المكانس. أرجوكِ يا أُمِّي لا
تتركيني للضبابِ . لم يَبْقَ في بطاقتي الشخصية سوى تاريخِ ميلاد العواصف . أبيعُ
قططَ الشوارع لأُسدِّد دُيونَ أبي . أُفَصِّلُ من جِلد الزوابع معاطفَ للبحر المشرَّد
.
عندما تنامُ
براميلُ البارود على مناديل الصَّبايا السائرات في الجِنازات العسكرية أخجلُ من
أدغال رموشي على بلاط المطارات . وُلدتُ في السراب . وكانت الصراصيرُ تُلقي
الأوامرَ العسكرية على الصحاري .
أُمِّي
تُرضعني كي يَسْتَلمني الموتُ وأنا في أَوْجِ عُنفواني . أعيشُ في جنوب الصليل أموتُ
في شمال الصهيل . لقد جاء الجرادُ يا جارتي ، فلا فائدة من إغلاق النوافذ . تعالَيْ
إلى جُثمان النِّسرين كي تلمحي البطاقةَ الشخصية للأمواج التي أَخذت مِشْطَ
جَدَّتي . تَكْسرنا الذكرياتُ فَنُعَلِّقُ أصواتَ أمهاتنا في براويز الصدى .
البيتُ صار فارغاً. والأحلامُ تنسكب في المدافن. تلك الملاءاتُ البيضاء على الأثاث
القرمزي ، والأغرابُ يَكتبون تاريخَ رموشنا . تَخدعنا المرايا في الطريق إلى ضوء
المذبحة . كَم هِيَ الأسرارُ التي دُفنت مع هؤلاء الموتى ! .
هل يَشتاق
الكَمانُ إلى أصابع العازف القتيل ؟ . اتْبَعْ جِنازةَ السنديان حتى مَسقط رأس
الغيمات . فليكن شهيقُ الزيتون منفاي الاختياري . وحينما تأتي العواصفُ من جلود
الأسرى تتوقف الشلالاتُ عن الزواج . وما مَوْتي سوى ميلاد عصافير اللهب . تضاريسُ
غرفة الإعدام هِيَ التاريخُ السِّري للفراشات .
اعزفي على
البيانو في ليالي الشتاء بينما الجيوش تتقاتل على السراب خلف نافذة الشفق . أيتها
الغيومُ التي تترك بَصمتها على سُعال أبي . لقد نامت قلوبُ أشجارنا ، ولم يَقرع
جرسَ منزلنا غَيْرُ البعوض . قد نسيتُ توقيعَ الذباب على لحم البنادق . ولم تعد
براميلُ البارود تتذكر مناديلَ الأسيرات .
جارتي
العمياء تنتظر أن أشتريَ لها خبزَ الأمواج . أَبيعُ حواجبي للضِّباع كي أشتريَ
شامبو ضِدَّ الذكريات . قد تحررتُ من جاذبية الأموات . الموتُ أنجبني ، لكني
اليتيمُ الأبدي . وُلدتُ في زمن احتراق اليمام بالأمنيات ، ارحميني، ما زلتُ أحترق
في مداراتكِ . أنا الاشتعالُ الأخضر في خاتِمِكِ الزُّمردي .
وداعاً
أيتها الرمالُ المتحركة . دفنتُ فيكِ حُبِّي الدَّامي وأحبائي العُميان . وكان
عَرَقُ الأشجار يتناثر على مكاتب السنونو . لم أستفد شيئاً من عشقيَ الصَّافي
كالبنزين الخالي من الرصاص . بلدي القريبَ من تيجان السَّراب ، لا وقتَ للرومانسية
كي نُزوِّجَ الإماءَ للسَّلاطين . لا وقتَ في نزيف الحطب كي نكتشفَ ملامحَ غرناطة في
خدود لاعبات التنس الإسبانيات . لا وقتَ يا أمي كي نلمحَ دماءَ أبي المتفرقة بين
القبائل .
أَعْطُوا الزبدَ فرصةً كي يتشققَ قِناعُ
الضحية في أغنيات العطش. أوردتي مِضَخَّةُ مِياهٍ لحقول اللهبِ . وحارسُ المقبرة
المتقاعد لم يجد قبراً يَغتصب رموشَه ويَقتل أحلامَه . أُربِّي أطفالَ البحيرة بعد
مقتلها في حادث سَيْرٍ . وألملمُ أجفانَ النوارسِ المنثورةَ على رُقعة الشطرنج .
أنتظر الليمونَ الذي يأتي من عظام الموتى كي أشرب عصيرَ الذكريات . أيتها الوردةُ
الطالعة بين شواهد القبور البرونزية . ارقصي أيتها الذبابةُ العرجاء بين جثامين
القَصْدير .
عندما تصبح قارورةُ عِطْري أرشيفَ المجاعات
، تتكاثر الطحالبُ في رعشاتِ الحِبر . فلا تُشفِق عليَّ أيها الإعصارُ . خُذ ما
تبقى من عظامي . اغتصبْ قِرميدَ أكواخ الذاكرة . قد ماتت أمي على جدائل الزوبعة ،
وانتحر حُبِّي الأولُ في الغسق الثاني. لم يعد للمسافرين قطارٌ ينتظرونه في ممالك
الدمع اللزج . فما فائدةُ الجلوس على كرسي هزَّاز في سفينةٍ تَغرق ؟! .
لا تنظر في
عيوني أيها المساءُ الحارق . هذا البحرُ يقتفي آثارَ أقدام البجع على أجساد الأسرى
. والماءُ ينتظر موتَ الينابيع لِيَرِثَها . أجلسُ في محطة القطارات ، لا أنتظرُ
أَحداً ولا أَحدٌ ينتظرني . فتعالَيْ أيتها الأمواجُ الرَّصاصية نُواسي عائلةَ
الرماد ونَنْصبُ الخِيامَ للإوز اللاجئ . ذَهبت دَوْلةُ البحر ولم تجيء الأسماكُ .
والأسرى يَنتظرون قدومَ الأسرى . وسَيَبْقَى الفجرُ فارسَ أحلامِ البحيراتِ
الجافَّةِ .