سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

02‏/11‏/2012

معاتبة الله للنبي

معاتبة الله للنبي

للمفكر / إبراهيم أبو عواد .


     لا شك أن الآيات القرآنية التي تحمل عتاباً للنبي صلى الله عليه وسلم هي معاتبة الحبيب للحبيب. فلا ينبغي الاعتقاد بأنها إهانة لمقام النبوة ، أو خفض درجة حامل الرسالة ، أو رسوب في الامتحان أمام الحضرة الإلهية . فهذه المعاني غير واردة البتة .
     لكن الله تعالى يُرَبّي أنبياءه ، ويحصي عليهم حركاتهم وسكناتهم لأنهم سادة البشرية ، وليسوا أناساً عاديين . والقاعدة العامة تقول إن حسنات الأبرار سيئات المقربين. فكلما ارتفع مقام العبدُ عند الله تعالى ازداد التدقيق عليه . وبما أن الأنبياء هم صفوة الإنسانية ، كان التدقيق عليهم شديداً، لأن الله يحبهم، ويريد أن يوصلهم إلى الكمال البشري عبر تطهيرهم من كل مخالفة ، وتنقيتهم بالبلاء والامتحانات الشديدة . 
     فعن سعد بن أبي وقاص قال : سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أشد الناس بلاءً ؟ ، قال : (( النبيون ثم الأمثل فالأمثل ، يُبتلى الرجل على حسب دينه ، إن كان صلب الدين اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه ، فما يبرح البلاء على العبد حتى يدعه يمشي على الأرض ليس عليه خطيئة)).
[رواه الحاكم في المستدرك( 1/ 100) . وصححه ابن كثير في تفسيره ( 3/ 536 ) .].
     ومن خلال هذا الفكر الشمولي يتأسس الوجود البشري في مركز الاختبار الإلهي الذي يرمي إلى تنقية البشر من الشوائب ، وتخليصهم من عبء الخطايا ، من أجل رفع درجاتهم ، وقيادتهم إلى النجاح بتفوق في الدارين . فلا بد من تجاوز الامتحان للحصول على درجة عليا ، ونيلِ المكانة الرفعية .
     كما أن العتاب الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن القرآن الكريم كلام الله لا كلام محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا يمكن لمؤلف كتاب أن يرد على نفسه ، ويعاتب نفسه ، ويكشف بعض أموره الشخصية أمام الناس ، وهذه الرؤية قلما ينتبه إليها أحد .  
     قال الله تعالى : (( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عَرَضَ الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم )) [ الأنفال : 67] .
     قال الطبري في تفسيره ( 6/ 286 ) : (( يقول تعالى ذكره : ما كان لنبي أن يحتبس كافراً قَدِرَ عليه وصار في يده من عبدة الأوثان للفداء أو للمن ... وإنما قال الله جل ثناؤه ذلك لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يعرِّفه أن قتل المشركين الذين أسرهم صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثم فادى بهم كان أولى بالصواب من أخذ الفدية منهم وإطلاقهم . وقوله  : [ حتى يثخن في الأرض ] .. حتى يبالغ في قتل المشركين فيها ، ويقهرهم غلبة وقسراً ... يقول للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم :  تريدون أيها المؤمنون عرض الدنيا بأسركم المشركين وهو ما عرض للمرء منها من مال ومتاع ... والله يريد لكم زينة الآخرة، وما أعد للمؤمنين وأهل ولايته في جناته بقتلكم إياهم ، وإثخانكم في الأرض )).
     ولا يدل معنى الآية على أن الإسلام دين سفك الدماء كما يعتقد بعض المغرِضِين ، وإنما تُفهَم الآية في سياق ردع المشركين الذين يرفعون السلاحَ في وجه الرسالة النبوية ، لذلك فهم ليسوا أبرياء أو مدنيين ، بل إنهم قتلةٌ حريصون كل الحرص على إيقاع أكبر خسائر بالمسلمين ، وبالتالي وجب ردعهم وإيقافهم عند حدهم . تماماً كما يتم استئصال العضو الفاسد في جسد الإنسان حفاظاً على حياة باقي أجزاء الجسد، وكذلك المجتمع الإنساني يستأصل العناصرَ الضالة للحفاظ على حياة المجموع الكلي ، وتوجيهه وفق الصراط المستقيم .
     لذلك كان لزاماً على الجماعة المسلمة أن تستأصل شوكة المشركين المحارِبِين ، وتردهم على أعقابهم خاسرين من أجل ضمان صلاح المنظومة الاجتماعية ، وانتهاء كل العوائق التي تقف في طريق التقاء الإنسان بإنسانيته .
     فالقتالُ في الإسلام له ضوابط واضحة ، وليس محكوماً بمزاج القادة أو أهوائهم الشخصية . فالقتالُ عبادةٌ منضبطة بقواعدها الشرعية، وليس أسلوباً همجياً للإبادة الجماعية ، والتطهير العِرقي، وقهر الآخرين ، ومحو ثقافتهم ، وشطب هويتهم .
     ولا يمكن التعامل مع العدو المحارِب الحريص على قتلك بالورود والمفاوضات ، بل ينبغي قتله ليكون عِبرةً لمن خلفه ، ولئلا يصبح المجتمع كومةً من ركام الفوضى ، وملعباً للمجرمين الذين لا يجدون من يعاقبهم .
     فينبغي الأخذ على يد الظالم ، وإيقافه عند حدِّه لئلا يعظم خطرُه وتأثيره السلبي . وكل الأممُ عبر الحقب الزمنية المختلفة متفقة على قتال المحارِبين رافعي الأسلحة ، ولم نسمع في التاريخ عن مقابلة الأعداء المدجّجين بالسلاح بالورود أو القبلات .
     وفي صحيح مسلم ( 3/ 1383 ) : قال ابن عباس : فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: (( ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ ))، فقال أبو بكر : يا نبي الله ، هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار ، فعسى الله أن يهديَهم للإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما ترى يا ابن الخطاب ؟ )) ، قلت : لا والله ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتُمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه ،  وتمكني من فلان ( نسيباً لعمر ) فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها ، فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت . فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله ، أخبرني من أي شيء تبكي ، أنت وصاحبك ، فإن وجدتُ بكاءً بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة )) _ شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم _ وأنزل الله عز وجل : [ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ] ... .
     وقد اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم بدون توجيه الوحي المعصوم ، وآثر أخذ الفدية مفضلاً رأي أبي بكر ، لما في ذلك _ حسب الرؤية النبوية _ من تقريب المشركين إلى الإسلام ، وحفظ أواصر القرابة ، وتعزيز الروابط الأسرية ، وتوفير القوة المالية والمعنوية في مواجهة الكفار .
     وفي الشفا للقاضي عياض ( 2/ 136 ) : (( فليس فيه إلزام ذنب للنبي صلى الله عليه وسلم بل فيه بيان ما خُصّ به ، وفُضِّل من بين سائر الأنبياء ، فكأنه قال : ما كان هذا لنبي غيرك ... فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : [ تريدون عَرَضَ الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ] ، قيل : المعنى بالخطاب لمن أراد ذلك منهم ، وتجرد غرضه لعرض الدنيا وحده ، والاستكثار منها، وليس المراد بهذا النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا .. أصحابه . بل قد روى عن الضحاك أنها نزلت حين انهزم المشركون يوم بدر، واشتغل الناس بالسلب وجمع الغنائم عن القتال حتى خشي عمر أن يعطف عليهم العدو )) اهـ .
     وقال الحافظ في الفتح ( 6/ 152 ): (( فقد حكى ابن القيم في الهدى اختلافاً أي الأمرين أرجح ، ما أشار به أبو بكر من أخذ الفداء ، أو ما أشار به عمر من القتل ، فرجحت طائفة رأي عمر لظاهر الآية ، ولما في القصة من حديث عمر من قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( أبكي لما عرض على أصحابك من العذاب لأخذهم الفداء )) . ورجحت طائفة رأي أبي بكر لأنه الذي استقر عليه الحال حينئذ ، ولموافقة رأيه الكتاب الذي سبق ، ولموافقة حديث : (( سبقت رحمتي غضبي )){ رواه مسلم ( 4/ 2107 ) برقم ( 2751 ) . }، ولحصول الخير العظيم بعد من دخول كثير منهم في الإسلام والصحبة ، ومن ولد لهم ، من كان ومن تجدد ، إلى غير ذلك مما يعرف بالتأمل ، وحملوا التهديد بالعذاب على من اختار الفداء فيحصِّل عَرَضَ الدنيا مجرداً ، وعفا الله عنهم )) اهـ .
     لذلك فمن يحاول أن يطعن في النبوة مستخدماً اجتهاداتِ النبي صلى الله عليه وسلم المخالِفة للأَوْلى ، سوف تبوء محاولاته بالفشل، لأن الله تعالى يعاتب أنبياءه لحبه لهم لا كرهه لهم ، ومن أجل رفع درجاتهم لا طردهم ، ولكي يظل الأنبياء الذين سادة البشرية في المستوى الإيماني الكامل بدون أية ثغرات ، أو اجتهادات مخالفة للأَوْلى . وهذا منتهى العناية الإلهية بهم،حيث إن الله تعالى لم يتركهم لعقولهم وتفسيراتهم الشخصية، وإنما أيدهم بالحق في كل حالاتهم ، وسدّد خطاهم على الصراط المستقيم ، واعتنى بهم في كل أمورهم، وصوّب اجتهاداتهم البشرية الناقصة ، ولم يتركهم لأنفسهم طرفة عَيْن.  وهذا يعكس مقدار العناية الربانية المحيطة بالأنبياء ، حيث توجههم باستمرار بلا انقطاع .   
     قال الله تعالى : (( عفا الله عنك لِمَ أذنتَ لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين )) [ التوبة : 43] .
     قال الطبري في تفسيره ( 6/ 380 ) : (( وهذا عتاب من الله تعالى ذكره : عاتب به نبيه صلى الله عليه وسلم في إذنه لمن أذن له في التخلف عنه _ حين شخص إلى تبوك لغزو الروم _ من المنافقين )) اهـ .
     وكما هول معلوم فإن اجتهادات النبي صلى الله عليه وسلم التي تستلزم العتابَ اللطيف نابعة من رؤيته الشخصية للأمور بحكم خبراته الحياتية لا بحكم الوحي المقدّس .
     وبالطبع فهو يستند إلى نظرته الذاتية للأمور انطلاقاً من حرصه على الآخرين، والشفقة بهم، والأخذ بأيديهم ، وهذا ليس غريباً على أخلاق مقام النبوة الهادفة إلى مساعدة الناس ، ورفع الحرج عنهم .
     ولا يخفى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسعى لتحقيق مصلحة شخصية أو منفعة مادية ذاتية من وراء هذه الاجتهادات غير المصيبة، بل كان يسعى إلى تعزيز الخير ، وتفريج الهموم على الناس . خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بالظاهر ، ولا يعلم الغيبَ إلا إذا أطلعه الوحي على الغيب .
     وهؤلاء الذين سمح لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتخلف ، لا بد أنهم قدّموا أعذاراً قوية مقنعة  ،  فلم يُرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يضيِّق عليهم ، أو يحمِّلهم فوق طاقتهم . وهو لا يعلم صدقَ هذه الأعذار أو كذبها ، لأن الحكم تم إجراؤه على الظاهر دون التفتيش في النوايا ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدر أن يكشف قلبَ الإنسان إلا بوحي .
     لكن الرحمة النبوية الخاضعة للرحمة الإلهية ، قد أسّست لمجتمع العدالة والتضامن الاجتماعي، ومساعدة الناس بعضهم بعضاً ، لكن المنافقين يستغلون الأخلاقَ النبوية السامية من أجل مصالحهم الشخصية الرديئة ، وعندئذ يتدخل الوحي الإلهي ليرد الأمور إلى نصابها الصحيح بكل قوة وصدق وعدالة .   
     فعن أم سلمة_ رضي الله عنها_ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إنما أنا بَشَر وإنكم تختصمون إِلَي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته _ أي أكثر إقناعاً _ من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع ، فمن قضيتُ له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار )).
[متفق عليه.واللفظ للبخاري( 6/ 2622)برقم( 6748).ومسلم( 3/ 1337 )برقم ( 1713).].
     وقال الشوكاني في فتح القدير ( 2/ 531 ) : (( للإنكار من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ، حيث وقع منه إذن لمن استأذنه في القعود قبل أن يتبين من هو صادق منهم في عذره الذي أبداه ، ومن هو كاذب فيه . وفي ذكر العفو عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن هذا الإذن الصادر منه كان خلاف الأَوْلى ، وفي هذا عتاب لطيف من الله سبحانه )) اهـ .
     ولا يخفى أن أسلوب الخطاب القرآني يحمل عتاباً لطيفاً لئلا يتسبب ذلك في كسر المشاعر النبوية . فالنبوة مقامٌ رفيع لها أخلاق سامية حساسة، لذلك فإن الأنبياء منزهون عن البلادة وقسوة القلب .
     وأي عتاب إلهي يؤثر فيهم بشدة ، لذلك يخاطب الله تعالى مبعوثيه بلين العبارة ، ووضوح الكلام النقي الطاهر، والتخفيف عنهم لرفع معنوياتهم ، وليس التشديد عليهم لتدميرهم. فالله تعالى لم يرسل الأنبياء ليهينهم في أقوامهم .  
     وقال السمرقندي : (( ولو بدأ _ اللهُ تعالى _ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لم أذنت لهم لخيف عليه أن ينشق قلبه من هيبة هذا الكلام، لكن الله تعالى برحمته أخبره بالعفو حتى سكن قلبه ، ثم قال له : لم أذنت لهم بالتخلف حتى يتبين لك الصادق في عذره من الكاذب . وفي هذا من عظيم منزلته عند الله ما لا يخفى على ذي لب، ومن إكرامه إياه وبره به ما ينقطع دون معرفة غايته نياط القلب )) .
[الشفا للقاضي عياض ( 1/ 28 ) .].
     قال الله تعالى : (( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم )) [ التوبة : 113] .
     ينبغي أن نعلم أن المشركين خالدون في النار ، فلا ينبغي الاستغفار لهم ، مهما بلغت درجة القرابة ، لأن الإسلام ليس ديناً قَبَلياً ، أو مساراً إقطاعياً يعتمد في أحكامه على درجة القرابة ، وشدة العلاقات الاجتماعية والمصلحية والواسطة . فهو الدين السماوي الوحيد المقبول عند الله تعالى . (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )) [آل عمران : 85].
     وقد أقام الإسلامُ الأواصرَ بين الناس على أساس مرجعية الدين ( الانتماء إلى الله تعالى ) لا مرجعية الدم أو أية مرجعية أخرى .
     وعن ابن المسيب عن أبيه : أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وعنده أبو جهل ، فقال : (( أي عم ، قل لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله )) .  فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ، ترغب عن ملة عبد المطلب ، فلم يزالا يكلمانه، حتى قال آخر شيء كَلمهم به : على ملة عبد المطلب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( لأستغفرن لك ما لم أُنه عنه )) . فنزلت : [ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ]  .
[متفق عليه. واللفظ للبخاري ( 3/ 1409 ) برقم ( 3671 ).ومسلم( 1/ 54 ) برقم ( 24).].  
     وهذا الحديث يدل على دور العلاقات الاجتماعية السالبية في إحلال تقليد الآباء مكان العقيدة الدينية ، فتصبح القبيلةُ هي الدين ، والعصبيةُ العائلية هي العقيدةَ الدافعة التي تقف خلف السلوك . وقد رأينا كيف أن أبا طالب قد رضخ للعقلية الجاهلية الأسرية ، وآثر متابعة آبائه بدافع الانتماء السلبي للقبيلة ، وكل هذا منبعه من اتخاذ التقاليد الأبوية صنماً متوارثاً يحجب النورَ ،
ويفسح المجالَ لانتشار الظلمات .  
     والعقلية العشائرية الجاهلية تتضح بصورة مباشرة في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه    ( 1/ 55) برقم ( 25): عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه : (( قل لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة )) ، قال : لولا أن تُعيرني قريش ، يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررتُ بها عينك .
     ومن هنا تنبع خطورة الإفرازات السلبية للقبيلة وسلطتها المقدَّسة في توجيه مسار الأفراد نحو الالتزام بالمظاهر الزائفة ، والعصبية للعائلة بغض النظر عن الصواب أو الخطأ . وفي واقع الأمر إن القبيلة تمارس سلطةً كهنوتية على الأفراد بحيث تغسل أدمغتهم ، وتقودهم إلى حيث شاءت ، ولا أحد يملك شرعيةَ السؤال أو النقد .
     ومن مظاهر العتاب اللطيف الموجّه إلى مقام النبوة في العلاقات الاجتماعية قوله تعالى : (( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمتَ عليه أَمْسِكْ عليك زَوْجَكَ واتقِ الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه )) [ الأحزاب : 37] .
     قال الصابوني في صفوة التفاسير ( 12/ 62و63) : (( اذكر أيها الرسول وقت قولك للذي أنعم الله عليه بالهداية للإسلام [ وأنعمتَ عليه ] بالتحرير من العبودية والإعتاق ( زيد بن حارثة ) ... أمسك زوجتك زينب في عصمتك ولا تطلّقها ، واتقِ الله في أمرها... وتضمر يا محمد في نفسك ما سيظهره الله ، وهو إرادة الزواج بها . قال في التسهيل : الذي أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر جائز مباح لا إثم فيه ولا عتب ، ولكنه خاف أن يقول الناس تزوج امرأة ابنه إذ كان قد تبناه ، فأخفاه حياءً وحشمة وصيانة لعرضه من ألسنتهم ، فالذي أخفاه صلى الله عليه وسلم هو إرادة تزوجها ليبطل حكم التبني فأبدى الله ذلك بأن قضى له بتزوجها )) اهـ .
     وهذه القصة لم تسلم من طعن المنافقين والمستشرقين وأذنابهم ، فاخترعوا مغامراتٍ رومانسية ألصقوها بالمقام النبوي الشريف المنزّه عن الفساد والإفساد ، ظناً منهم أنهم بذلك يطعنون في المقام النبوي ، فيشوهون الصورةَ النبوية السامية ، ومن ثم يجعلون الرسالةَ السماوية في مكانة النقص والعيب . وهذا كله بعيدٌ عن منالهم .   
     (( والذي صح منها _ من هذه القصة_ أن المرأة هي زينب بنت جحش ابن أميمة بنت عبد المطلب جد رسول الله ، وأما بعلها فهو زيد بن حارثة مولى رسول الله ومعتقه ، وكان رسول الله قد رباه وتبناه، وكان يسمى ابن رسول الله حتى أنزل الله تعالى :[ وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم ] [ الأحزاب : 4] ، فنفى البنوة بالدعوى . وقال : [ ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ][ الأحزاب : 5] الآية . فلما أدرك زوّجه رسول الله زينب المذكورة وبقي معها حتى أمر الله تعالى نبيه _ عليه السلام _ أن يتزوجها أو أخبره به  ... وما تقوّله المنافقون والجهلة المجازفون من أن رسول الله رآها وأحبها وشغف بحبها ، حتى كان يضع يده على قلبه ، ويقول : يا مقلب القلوب ثبت قلب نبيك ، ويدخل عليه زيد المسجد ويقول ادن مني يا زيد شوقاً إليها ، إلى غير ذلك من هذيانات لا يرضاها صلحاء المسلمين لأنفسهم فكيف سيد المرسلين ، فكل ذلك باطل متقوّل )).
[تنزيه الأنبياء لابن حمير ( 1/ 50 و51 ) .].
     ولا يخفى أن أعداء الدعوة في كل زمان ومكان يتصيدون في ماء أفكارهم العكر،فيخترعون قصصاً وهمية للطعن في سلوك الأنبياء_ عليهم الصلاة والسلام_. ومما لا شك فيه أن طبيعة العلاقة مع النساء تؤثر في شخصية الرجل إيجاباً أو سلباً ، لذلك وجدنا بعض الفئات يخترعون قصصَ العشق المحرّم ، ويلصقونها بالأنبياء سعياً وراء تعريتهم من الأخلاقية والمصداقية ، وذلك لكي يفقد الشعبُ ثقته بأنبيائه ، ويصبح الأنبياء موضوعاً للتسلية والطعن واللمز . وهذا يؤثر سلباً على الدعوة ، لكن الله تعالى حفظ أنبياءه من كل سوء ، وعصمهم من الوقوع في الفواحش ، وكل ما يخل بمروءة الرجال .
     ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم غير صادق في الدعوة لكتم الآيةَ القرآنية التي تتناول قصة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش _ رضي الله عنهما _، وأخفى أمرها لئلا ينتبه إليها أحد . وبما أنه أظهرها فهذا يدل على أن القرآن الكريم ليس كلامَ محمد صلى الله عليه وسلم ، بل كلام رب العالمين ، ولا يقدر أي نبي على إخفاء كلام الله تعالى أو تغييره .   
     وعن أنس بن مالك _ رضي الله عنه _ قال : (( لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم هذه _ آية العتاب _ )).
[متفق عليه.واللفظ للبخاري( 6/ 2699 )برقم( 6984 ).ومسلم( 1/ 159 ) برقم ( 177 ).].
     قال الحافظ في الفتح ( 8/ 524 ): (( وقد أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة من طريق السدي، فساقها سياقاً واضحاً حسناً . ولفظه بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش ، وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه فكرهت ذلك ، ثم أنها رضيت بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوّجها إياه، ثم أعلم الله_عز وجل _ نبيه صلى الله عليه وسلم بعد أنها من أزواجه ،  فكان يستحي أن يأمر بطلاقها  ،  وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسك عليه زوجه ، وأن يتقيَ الله ، وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه ، ويقولوا تزوج امرأة ابنه ، وكان قد تبنى زيداً )).
[قال القاضي عياض في الشفا ( 2/ 165 ) : (( وأصح ما في هذا ما حكاه أهل التفسير عن علي بن حسين أن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه فلما شكاها إليه زيد قال له :  [ أَمْسِكْ عليك زَوْجَكَ واتقِ الله ] ، وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به من أنه سيتزوجها  مما الله مبديه ومظهره بتمام التزويج ، وتطليق زيد لها )) اهـ . قلتُ : وهذه القصة أوردها الطبري في تفسيره ( 10/ 302 ) ، وابن كثير في تفسيره ( 3/ 647 ) ، والسيوطي في الدر المنثور ( 6/ 615 ) . وفي سندها علي بن زيد بن جدعان ، وهو ضعيف . انظر تلخيص الحبير لابن حجر ( 1/ 28 ) ، ومجمع الزوائد للهيثمي ( 1/ 419 ) ، وفتح القدير للشوكاني ( 4/ 577 ) .    ].
     وكما نلاحظ من خلال سياق القصة حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تقوية العلاقات الاجتماعية عن طريق المصاهرة في المجتمع المؤمن العابر للطبقية الفجة. فقد زوّج صلى الله عليه وسلم ابنةَ عمته زينب بنت جحش الطاهرة الشريفة ذات المكانة الاجتماعية السامية من زيد بن حارثة الذي هو عَبْدٌ( مولى للنبي صلى الله عليه وسلم ).
     وفي ذلك دلالة باهرة على عظمة الإسلام الذي ألغى الاعتزاز بالفوارق الطبقية، وجعل التقوى هي المقياس . وهذا يرد على من يزعم أن الإسلام دين طبقي أو نظام إقطاعي . كما يرد على من ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم كزعيم قبلي يهدف إلى تعزيز مكانة قبيلته وعائلته ضمن العصبية الجاهلية . 
     ولا تخفى قوة إيمان السيدة زينب_ رضي الله عنها _ التي قدّمت الإرادةَ النبوية على إرادتها ، فخضعت لاختيار النبي صلى الله عليه وسلم ، وقبلت بالزواج من زيد بن حارثة _ رضي الله عنه_ على الرغم من مستواه الاجتماعي المتدني .
     وقد أعلم اللهُ تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ستكون من أزواجه مستقبلاً ، إذ إن العلمَ الإلهي محيط بكل شيء ، ولا يتوقف عن الحواجز الزمنية ( الماضي ، الحاضر ، المستقبل ) . مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يستحي أن يطلِّقها ، لأن بعض الأفراد قد لا يتقبلون الأمر لضعف طاقاتهم العقلية عن الاستيعاب ، خصوصاً في ظل وجود اليهود والمنافقين الذين يريدون أي أمر، أو شبهة في عقولهم، لكي ينسجوا حولها مؤامراتهم الرامية إلى الطعن بالنبوة ، والتشكيك بالنبي صلى الله عليه وسلم عن طريق رَمْيه بالأخلاق الدنيئة والتصرفاتِ المخلة بالآداب_ كما يعتقدون في عقولهم المريضة _ .
     لذلك خشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول الناس إنه تزوج امرأةَ ابنه ، حيث إن زيداً قد تبناه النبي صلى الله عليه وسلم قبل إبطال حكم التبني . فأراد الله تعالى أن يزيل من الأذهان البشرية فكرَ التبني وما يترتب عليه، فزيد ليس ابناً لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة ابنه _ كما يزعم المنافقون والجهال الذين لا يملكون حصيلةً إيمانية متماسكة _ . 
     وفي موقف آخر ، قال الله تعالى : (( يا أيها النبي لِمَ تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاةَ أزواجك والله غفور رحيم )) [ التحريم : 1] .
     وسبب نزول هذه الآية ، عن عائشة _ رضي الله عنها _ : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ، ويشرب عندها عسلاً ، فتواصيتُ أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير _ جمع مغفور وهو صمغ حلو رائحته كريهة_ ، أكلت مغافير ؟. فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال : (( لا ، بل شربتُ عسلاً عند زينب بنت جحش ، ولن أعود له )) . فنزلت : [ يا أيها النبي لِمَ تحرم ما أحل الله لك ] .
[متفق عليه.واللفظ للبخاري( 6/ 2462)برقم( 6313 ).ومسلم( 2/ 1100 )برقم ( 1474).].
     قال الحافظ في الفتح ( 12/ 344 ) : (( وقال ابن المنير إنما ساغ لهن أن يقلن أكلت مغافير لأنهن أوردنه على طريق الاستفهام بدليل جوابه بقوله : لا ، وأردن بذلك التعريض لا صريح الكذب ، فهذا وجه الاحتيال التي قالت عائشة لتحتالن له ، ولو كان كذباً محضاً لم يُسم حيلة إذ لا شبهة لصاحبه )) اهـ .
     ويمكننا أن نستنبط بعض المسائل من هذا الحديث الشريف من شأنها توضيح المسار العام والخاص لهذه القصة :
     أ ) إن المرأة هي المرأة ، سواءٌ كانت صحابية أو غير ذلك . بمعنى أن غيرة النساء متأصلة في الجنس الأنثوي، والمشاعر النسائية متواجدة بكثافة بالغة من حيث الغيرة واستعمال الحيل والاستسلام لاجتياح العاطفة والاحتكام إلى القلب . وهذه هي جِبِلة المرأة كما خلقها الله تعالى . فلا يجوز الطعن في أمهات المؤمنين نتيجة هذه القصص أو ما يشبهها ، لأن الذي يدفع بهذا الاتجاه هو استخدام المرأة لعاطفتها  ، واحتكامها لمشاعرها الرقيقة ،  وليس محاولة خداع النبي صلى الله عليه وسلم أو الكذب عليه أو الاستخفاف به أو الانتقاص من قَدْره الشريف .
     ب ) استخدام الحيل والتعريض لا يعني الكذب بأية حال من الأحوال . كما أن العلاقة بين الرجل والمرأة ذات طبيعة بالغة الخصوصية، حتى لو كان ذلك الرجل نبياً ، إذ إن زوجته أقرب الناس إليه ، وبينهما من العواطف والأحاسيس ، ما لا يصل إليه أي إنسان آخر . وهذا لا يتعارض مع هيبة النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته .
     ج ) كراهية النبي صلى الله عليه وسلم لظهور رائحة سيئة منه ، وهذا يعكس مدى الاعتناء بالطهارة والنظافة على جميع الأصعدة .
     ومن المظاهر الأخرى للعتاب الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم ، قول الله_ سبحانه وتعالى _ : (( عَبَسَ وتولى )) [ عَبَسَ : 1 ] .
     وسبب نزول الآية ، عن عائشة _ رضي الله عنها _ قالت : أُنزلت  [ عَبَسَ وتولى ] في ابن أم مكتوم الأعمى، فقالت: أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: أرشدْني ، قالت : وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظماء المشركين  ،  قالت : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ، ويقبل على الآخر ، ويقول : (( أترى بما أقول بأساً ؟ )) ، فيقول : لا . ففي هذا أُنزلت [ عَبَسَ وتولى ].
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 558 ) برقم ( 3896 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .].   
     ونحن نلاحظ من سياق القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على إسلام عظماء المشركين لأن في ذلك إسلام أقوامهم . ولم يعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن أم مكتوم لحاجة شخصية أو تكبر أو إهانة له ، ولكنه حرص على إسلام سادة المشركين بُغية اتباع أقوامهم لهم في اعتناق الإسلام .
     ولو كان ابن أم مكتوم يرى المشهد أمامه لكان ذلك سوء أدب منه ، إذ يقطع كلامَ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث في سبيل الدعوة . لكن ابن أم مكتوم معذور بسبب عماه ، وعدم تمكنه من الرؤية ، فلم يقدر على تحديد أبعاد المشهد وملابساته . وقد عاتب اللهُ تعالى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ارتكب خلافَ الأَوْلى ، إذ انصب تركيزه على عظماء المشركين ، ولم يعر انتباهاً لابن أم مكتوم الأعمى . 
     قال القرطبي في تفسيره ( 19/ 184 ) : (( أقبل ابن أم مكتوم والنبي صلى الله عليه وسلم مشتغل بمن حضره من وجوه قريش ، يدعوهم إلى الله تعالى ، وقد قوي طمعه في إسلامهم ، وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم ، فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى، فقال: يا رسول الله عَلمْني مما عَلمك الله، وجعل يناديه ويكثر النداء، ولا يدري أنه مشتغل بغيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه )) اهـ .