وُلد الأديب الفرنسي فردريك ميسترال ( 1830_
1914 ) في مدينة
مايان البروفانسية لعائلة ثرية، وأبوَيْن يرجع أصولُهما إلى طبقة النبلاء ،
وتُوُفِّيَ في مسقط رأسه . تزوَّجَ لكنه لَم يُرزَق بأولاد .
لا يُمكن حصر ميسترال في دائرة الشِّعر
والمسرح ، لأنه كان منخرطًا بشكل كامل في الحراك الاجتماعي، وعضوًا فاعلاً في
الحركة الثقافية، وهذا الأمر جعل منه مفكرًا عضويًّا مرتبطًا بقضايا مجتمعه ، لا
يَنفصل عنها ، ولا يتهرَّب من الاستحقاقات الاجتماعية . لذلك ليس غريبًا أن يَقود
عملية إحياء اللغة الأوكسيتانية ( لغة أهل بروفانس في القرن التاسع عشر ) . وهو أيضًا كان شخصية مهمة في
حركة فليبريج التي هدفت إلى إحياء ثقافة بروفانس .
التحقَ
بالمدرسة عند بلوغه سِن التاسعة. درس الحقوق في إيكس (عاصمة بروفانس القديمة )
خلال الفترة ( 1848 _ 1851 ) . ثُمَّ انطلقَ يُطالب باستقلال مقاطعة بروفانس
مدافعًا عن لغتها ، وواصفًا إيَّاها بأنها " اللغة الأدبية الأولى لأوروبا
المتحضرة ". وقد اعتمدَ _ لتغذية النَّزعة الاستقلالية _ على إعادة إحياء
اللغة المحلية ، واستخدامِ الشِّعر لإشعال الروح القَومية .
وعندما كان يتابع تحصيله العِلمي في الحقوق ، درس تاريخ
المقاطعة ، التي كانت فيما مضى
دولة مستقلة . وبتشجيع من والده اتخذ قرارًا حاسمًا بإحياء شعور الانتماء الوطني ،
الذي عبَّر عنه بمفهوم العِرْق ، والذي عرَّفه ميسترال بأنه ذاك الذي يتجلى عند
شعب مرتبط برابط اللغة ، ومتجذر في وطن وتاريخ . والجديرُ بالذِّكر أنه لَم يعمل
في مجال الحقوق، بل كرَّس حياته لكتابة الشِّعر . لقد منحَ الشِّعرَ حياتَهُ بأكملها ،
فأعطاه الشِّعرُ المجدَ الأدبي والشُّهرةَ الواسعة ، وصارَ أهمَّ شعراء بروفانس .
ارتبطَ
ميسترال بالشاعر جوزيف روماني، وعَمِلا معًا من أجل إحياء اللغة البروفانسية.
وبدعم الشاعر الفرنسي ألفونس دو لامارتين ومساندته، أسَّسا حركةَ الشِّعر العامي ،
التي سمحت بتنشيط اللغة الأوكسيتانية . كتب ميسترال العديد من الأعمال الأدبية بلغة بروفانس ،
مِثْل : قصيدة الحصاد ( 1859) التي تَمَّ إعدادُها لتكون أوبرا، كما نشر عِدَّةَ
مجموعات شِعرية، وقاموسًا لغويًّا، بالإضافة إلى ترجمة سِفْر التَّكوين ، وهو أحد
أسفار التَّوراة .
وأعظمُ
أعماله الأدبية ( ميرايو )، وهي ملحمة شعبية بلغة بروفانس ، نشرها في عام 1859،
وتُعتبَر من روائع الأدب العالمي . وقد استغرقت كتابتها ثمانية أعوام من العمل
المتواصل ، واعتمد فيها طريقة مُبسَّطة لضبط
الإملاء ، بُغية تسهيل إعادة إحياء اللغة البروفانسية . وقد عُرفت هذه الطريقة
الإملائية في الكتابة بالميسترالية نِسبةً إليه، وهي تختلف اختلافًا جذريًّا عن
الطريقة التقليدية في الكتابة الموروثة عن شعراء التروبادور . ( تروبادور هو شاعر أو موسيقي عاش في القرون
الوسطى، وكان يُؤدِّي أدوارًا ، أو يُخصِّص شخصًا لتأدية هذه الأدوار ، مُنْشِدًا
أشعار ألَّفها عند الملوك والسلاطين في الجنوب الشرقي لفرنسا وسرقسطة في مملكة
أراغون وضواحيها بالخصوص . أصل هذا النوع الموسيقي هو أندلسي،
اسم الكلمة مُشتَق من طرب وكلمة دور. وكانوا يَعزفون الموسيقى متنقلين بين القصور
، يعني كانوا يدورون من قصر إلى آخر ) .
وتحكي (
ميرايو ) قصة حب جمعت الشاب فانسان بالجميلة البروفانسية ميرِيي . واستطاعَ
ميسترال عبر هذا العمل طرحَ لغته ، كما أنه جعل القارئَ يُشاركه
في مخزونه الثقافي عن تلك المنطقة من فرنسا .
وفي عام 1861، حازَ على جائزة الأكاديمية الفرنسية. وفي عام 1867 نشر
قصيدةَ كالندو، كما أصدرَ كتاب بعنوان " جزيرة الذهب " ، ضَمَّ عددًا
مِن القصص والقصائد .
استطاعَ
ميسترال بأعماله الأدبية ، إعادة مكانة اللغة البروفانسية ، فقد رفعها إلى قمة الشِّعر الغنائي . كما كتب مذكراته ، وألَّفَ
القصةَ والمسرحيةَ ، وانهمك في وضع معجم لهذه اللغة العزيزة على قلبه .
حَظِيَت
أعماله بأعلى درجات التقدير ، ونالت أرفعَ الجوائز . وفي عام 1904 حصل على جائزة نوبل للآداب بالاشتراك مع
جوزيه إيشيغاري . وقد عَلَّلت اللجنة ذلك " بسبب عفويته المنعشة ، قريظه
الرائع والفني الذي يعكس بأمانةٍ تامةٍ المناظرَ والحياة القروية في موطنه،وأيضًا
بسبب نشاطه كباحث للغة بروفانس ".
وقد خصَّصَ قيمةَ الجائزة المالية لإنشاء متحف أرلتان في مدينة آرل جنوبي فرنسا ، حيث أُقيم له تمثال تقديرًا لجهوده ، وتخليدًا لذكراه .