وُلِدَ الأديب البولندي فواديسواف ريمونت (
1867_ 1925) في قرية كوبيل فيلكي بوسط بولندا ، وكانت في ذلك الوقت واقعة تحت
السيطرة الروسية . تعلَّم القراءة والكتابة على يد قِس محلي في القرية. ثم تلقى
تعليمًا نظاميًّا في المدارس. أرسله والده إلى وارسو (عاصمة بولندا) في عام 1885،
من أجل تعلُّم إحدى المهن ، وذلك في رعاية شقيقته الكبرى وزوجها . وقد تَعَلَّمَ
مهنة الخِيَاطة، لكنه رفض العمل كخيَّاط ، وهذا أزعج عائلته بشدة ، لأنها شعرت أن
مستقبله في خطر. أحبَّ العملَ في المسارح ، والسفرَ مع الفِرَق المسرحية، فعمل ممثلاً
متجوِّلاً ، لكنه لَم ينجح في هذا المجال ، ولَم يستطع جمع الأموال . ورجع إلى
أهله مُفْلِسًا . وبفضل والده ، استطاع الحصول على وظيفة عامل في السِّكَك
الحديدية . وقد هرب مَرَّتين من هذه الوظيفة . المرة الأولى في عام 1888 ، حيث
سافر إلى باريس ولندن . والمرة الثانية ، هرب من أجل الانضمام إلى إحدى الفِرَق
المسرحية . لكنه فشل في إثبات نفْسه كَمُمثِّل بسبب انعدام الموهبة ، فعادَ إلى
الوطن مرة أخرى . استقرَّ في وارسو ، وقرَّر أن يتفرَّغ للكتابة ، فعمل كَمُراسِل
لإحدى الصُّحف ، وزار عِدَّة عواصم أوروبية ، مِن بينها برلين وبروكسل ولندن ،
وسافر إلى الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى . بدأ ريمونت في
كتابة القصص القصيرة ، وزار مكاتب التحرير في مختلف الصحف والمجلات ، وقد اهتمَّ
بعض المسؤولين بكتاباته ، واقتنعوا بإمكانياته الأدبية . في عام 1894 ، ذهب في
رحلة إلى الحج إلى شيستوشوا ( ثالث أكبر موقع حج كاثوليكي في العالَم ) ، وقد كتب
تفاصيل هذه الرحلة الروحية في كتابه " الحج إلى جبل النُّور " الذي نُشر
في عام 1895 ، ويُعتبَر هذا الكتاب تجسيدًا لأدب الرحلات في صورته الكلاسيكية .
لَم يستطع الأدبُ أن يُوفِّر له مصدر دخل
ثابتًا ، فعاشَ حياةً فقيرة ، ولَم يتمكن من ممارسة هوايته في السَّفر بسبب غياب
الموارد المالية . لكنه في عام 1900 ، حصل على أربعين ألف روبل ( العملة الروسية )
، كتعويض من مؤسسة السكك الحديدية ، وذلك بعد تعرُّضه لحادث خطير وإصابته بجروح
بالغة . وأثناء رحلة العلاج ، تعرَّف على إحدى النساء ، وتزوَّجها في عام 1902 بعد
أن قام بدفع قيمة فسخ زواجها السابق . وقد استغل التعويض المالي الذي حصل عليه
لتحقيق طُموحه بأن يُصبح أحد مُلاك الأراضي ، فاشترى عقارات في عام 1912 ، لكنه
فشل في إدارتها.
كتب ريمونت العديد من الروايات ، أشهرها على
الإطلاق رواية " الفلاحون " التي نشرها عام 1904 ، وكتبها أثناء فترة
إقامته في منطقة النورماندي الواقعة في شمال فرنسا ، وهي الرواية التي نال عنها
جائزة نوبل للآداب عام 1924. وهذه الرواية الضخمة التي تقع في أربعة مجلدات ،
تُجسِّد فلسفة الكاتب في حياته ، فقد عارضَ آراء المفكِّرين الذين آمَنوا بالتصنيع
، وانتقلَ من حياة المدينة إلى حياة الريف ، وصار الريف هو الركيزة الأساسية في
أعماله القصصية . وهذا يُشير إلى قناعة الكاتب بأهمية العودة إلى الطبيعة ، وأن
الأرض هي مستقبل الإنسان ، وليس الآلة الصناعية ، وعلى الإنسان العودة إلى التراب
بإرادته قبل أن يعود إليه رغم أنفه ( بالموت ) .
لقد رفض ريمونت الثورة الصناعية ، واعتبرها
خطرًا حقيقيًّا على وجود الإنسان وأحلامه وذكرياته . فهذه الثورة حوَّلت الإنسان
إلى آلة بلا مشاعر ، تكافح من أجل البقاء على قيد الحياة في مجتمع استهلاكي متوحش
، ليس لديه وقت للمشاعر الإنسانية ، والأحاسيس الحياتية .
وقد مَزَجَ هذه الأفكار بالسُّخرية ، وخلطها
بشريعة الغاب ، حيث تغيب الأفكار النبيلة ، وتنهار الأخلاق ، وتتساقط المشاعر ،
وينقلب الإنسان على نفْسه ، ويُقاتل أخاه الإنسان من أجل التصنيع الوحشي والتَّحضر
الزائف ، ويتم قتل الإنسان والطبيعة معًا .
اهتمَّ ريمونت في كتاباته بالواقع المادي
والعادات والسلوك والثقافة الروحية للشعب . وكان يستخدم لهجة الفلاحين البولنديين
في الحوار والسرد ، وكان حريصًا على إظهار إيقاع الحياة اليومية مع البساطة
الصارمة والأحلام الضائعة . وكانت كتاباته مرجعًا للتجربة الإنسانية والحياة
الروحية العميقة ، ولَم يكن لديه أفكار عقائدية أو تعليمية ، فلم يهتم بالمذاهب
الفكرية ، وإنما اهتمَّ بطبيعة الحياة ، وأفكار الناس ، والإحساس بالواقع الْمُعاش
.
كان آخر مؤلفات ريمونت بعنوان " نَطحة
" ، ونُشر عام 1924 ، ويصف فيه تمرُّد الحيوانات في المزرعة من أجل المساواة
ونَيل حقوقها ، كما يصف ما يحدث في المزرعة من اعتداء وإرهاب دموي . والقصة كناية
عن الثورة البُلشفية ( 1917 ) . وقد مُنع الكتاب في بُولندا الشيوعية في الفترة ما
بين ( 1945_ 1989 )، جنبًا إلى جنب مع رواية جورج أورويل الشهيرة " مزرعة
الحيوان " التي نُشرت في بريطانيا عام 1945. ومن غير المعروف ما إذا كان
أورويل قد تأثَّر بأجواء رواية ريمونت الممنوعة .