وُلِد الشاعر الألماني
فريدريش هولدرلين ( 1770_ 1843) في مدينة صغيرة اسمها( لاوفن) تقع على ضفاف نهر
النيكار . يُعتبَر مِن أشهر الشعراء في تاريخ الأدب الألماني .
كان والده مُعَلِّمًا في الدَّير ، وكانت
والدته ربَّة بيت متواضعة الثقافة، رأت أن تُلْحقه بالمدرسة الكنسية المجانية التي
سَتُؤهِّله لسلك الكهنوت البروتستانتي .
تلقَّى تعليمًا دينيًّا في مدارس دينية
متعددة . وفي عام 1788 ، التحقَ بمعهد مدينة توبِنغن الديني لدراسة علم اللاهوت
تحقيقًا لرغبة أُمِّه المتدينة . وكان يَلجأ إلى عالَم الآداب هروبًا من المحيط
العام في المعهد ، الذي كانت تَسُوده وتحكمه قواعد صارمة وعادات متشددة .
تركت الثورة الفرنسية أثرًا عميقًا في
كتاباته ، سواءٌ الأدبية مِنها أَم الفلسفية التي وضعها بالاشتراك مع زملائه في
المعهد مِثل : هِيغل وشيلنغ .
لَم يعمل هولدرلين واعظًا دينيًّا ، وإنما
أرادَ أن يَكسب قُوته كمُدرِّس خصوصي . وفي عام 1796 ، عمل في مَنْزل المصرفي
ياكوب غونتارد في مدينة فرانكفورت ، حيث وقع في حُب أُم تلاميذه زوزيت غونتارد ،
والتي جسَّدها في شخصية ( ديوتيما ) في روايته ( هيبريون ) فيما بعد ، وكان هذا
تَيَمُّنًا بالكاهنة ديوتيما ، التي أعلمت سُقراط عن قُدسية الحب في " وليمة
" أفلاطون .
وقد اضْطُر هولدرلين إلى مغادرة
المنزل بعد افتضاح علاقته مع هذه السيدة ( زوجة المصرفي ) .
أثَّرت الأوضاع السياسية المضطربة في إنتاجه
الأدبي بشكل مثمر . وفي الفترة ( 1797_ 1799)، ظهر الجزء الأول من روايته "
هيبريون " . واشتغل على مسرحيته " موت إمبيدوقلس" ( 1798_ 1800) .
أُصِيب هولدرلين بانهيار عصبي بعد تَلَقِّيه
خبر وفاة زوزيت غونتارد ، وأُحْضِر إلى إحدى مستشفيات مدينة توبنغن ، حيث تم تشخيص
حالته الصحية كمرض عقلي .
كان وقع الصدمة على هولدرلين هائلاً،
فاهتزَّ كيانه ، وفقد توازنه العقلي ، وتخلى عن عمله ، وعادَ مشيًا على الأقدام
مِن بوردو حتى توبنغن . وعلى الرغم من أزمته النفسية الشديدة، استمر هولدرلين بنظم
الشِّعر ، والترجمة من اللغة الإغريقية .
عاشَ هولدرلين إلى حين وفاته في بيت نجَّار
، كان قد تكفَّل برعايته ، وخصَّص له مكانًا على نهر النيكار أُطلِق عليه "
صَومعة هولدرلين " .
يعود السبب في هذا المصير المأساوي للشاعر
الوطني والإنساني هولدرلين إلى بحثه اليائس عن مخرج من النظام الملكي الاستبدادي
المهيمن حينذاك ، والضاغط على الإنسان البالغ الحساسية على نَحْو مقلق . وكان
هولدرلين يتوق إلى نظام اجتماعي مثالي وجده في العالَم الإغريقي القديم .
يُمجِّد هولدرلين في أشعاره الأولى
المسمَّاة " أناشيد توبنغن " الْمُثُل الإنسانية الإغريقية ، مِثل
الجمال والحب والحرية والصداقة . كما رحَّب في أعماله بالتغيرات السياسية التي
شهدها عصره. وشكَّلت ثنائية ( الطبيعة والجمال ) جوهرَ كتاباته الشعرية .
وفي العديد من أناشيده
المتحررة مِن أوزان الشِّعر الكلاسيكية، يرتبط عالَم تجاربه الفردية مع صورة
التاريخ المتحوِّل الذي عاصره بشكل وثيق . وكغيره من مثقفي عصره المتأثرين بالمذهب
الكلاسيكي ، سعى هولدرلين إلى الْمُثُل العُليا ، أو المثال الأعلى الذي يتجلى
حَسَب رأيه في تحقيق الانسجام المنشود بين
"الإله "و"الإنسان " و"الطبيعة" على أرض
اليونان القديمة .
وتظل رواية "هيبريون" غَير
الْمُكتملة أبرز تجسيد لأفكار هذا الشاعر الكلاسيكي . والجديرُ بالذِّكر أن أعمال
هولدرلين لَم تلقَ الاهتمام الكافي والاعتراف الكامل ، إلا في القرن العشرين .
كان هولدرلين يحتقر أبناء ثقافته ، عَبر تجاهله للتيارات الأدبية والفكرية التي أخذت بالازدهار في ألمانيا معَ ظُهور فلسفة كانت ، حيث فضَّل الرجوع إلى الماضي ، والاستفادة من الإرث الفني عند اليونانيين القُدامى. وعلى الرغم مِن أن إنتاج هولدرلين الأدبي لَم يكن غزيرًا ، إلا أن صوته الشعري الصافي يُعتبَر مِن أُسس الشعر الحديث في أوروبا . سعى هولدرلين إلى تجديد مجتمعه ثوريًّا . وتجلى ذلك بوضوح في إبداعه الشعري والروائي والمسرحي ، وكذلك في كتاباته النظرية غَير الْمُكتملة . ومعَ هذا ، فقد أضافت كثيرًا إلى جوهر الفكر الكلاسيكي الألماني ، بتركيزها على مسؤولية الأديب تجاه مجتمعه ، وعلى ضرورة تربية الأجيال الجديدة إنسانِيًّا ، من أجل تفتُّح الذات الفردية بجميع إمكانياتها الإبداعية والعِلمية باتجاه المستقبل المتغيِّر . في مرحلة إبداعه الأخيرة ، اتَّسمت قصائده بالغموض الناتج عن تصوُّره لارتباط مصير الفرد المأساوي بانهيار الوطن. وقد عبَّرت هذه القصائد عن فلسفة التاريخ عند هولدرلين في صور شِعرية جريئة ، في حِين تأثرت قصائده اللاحقة بأزمته العقلية ، فَلَم يَفهمها أحد ، لَولا بعض الصور الواقعية المحسوسة . ويرى نُقَّاد الأدب والباحثون في اللغة أن اللغة الألمانية قد بلغت ذِروتها في شِعر هولدرلين ، وكذلك في نثره الإيقاعي الغنائي الذي يُعبِّر عن الحنين والرثاء .