وُلد
الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه ( 1844_ 1900 ) في روكن ، قرب مدينة لايبزيغ ،
ببروسيا ، ومات في فايمار . ينتمي إلى أسرة من القساوسة ، لكنه كان شديد الإلحاد، وجعله محور
كتاباته . تَيَتَّمَ باكرًا من والده، فَتَوَلَّت تربيته نساء العائلة اللواتي
أسرفنَ في تدليله وُملاطفته . وقد قضى طفولة سعيدة ، وكان تلميذًا مُهَذَّبًا
صادقًا مطواعًا حتى أُطلِق عليه اسم القِسِّيس الصغير. أرادته أُمُّه قَسًّا كأبيه
، فالتحق وهو في الثانية عشرة من عمره بمدرسة بفورتا ، لكنه عدل عن ذلك بعد أن فقد
إيمانه في الثامنة عشرة من عمره، ومرَّ بمرحلة من الشك والتشتت، خرج منها بالتحاقه
بجامعة بون ثم بجامعة ليبزيغ ( 1864_ 1869 ) . سُمِّيَ نيتشه عام 1868 أستاذ فقه
اللغة اليونانية (الفيلولوجيا) في جامعة بال بسويسرا ، بعد أن مُنح درجة الدكتوراة
ليتم التعيين طبقًا للوائح ، ولَفَتَ الأنظارَ إليه نشرُه عدة مقالات في مجلة
ريتشل .
وَلَمَّا نشبت الحرب بين ألمانيا وفرنسا (
1870 ) ، تطوَّعَ في الجيش . ولأنه أصبح مواطنًا سويسريًّا كان عليه أن يكتفيَ
بالعمل ممرضًا في الخدمة العسكرية . وبعد أن تدهورت صِحته أُعْفِيَ من الخدمة،
وأُعِيد إلى بال . ولَم يَشْفَ مِن الأمراض التي أصابته في أثناء تجنيده، فاضْطُر
إلى الاستقالة من الجامعة عام 1879 . وقد رصدت له الجامعة راتبًا جَيِّدًا يحيا
منه. وقد قضى الأعوام العشرة التالية متنقلاً بين سويسرا وإيطاليا، مُواصلاً عمله
التأليفي، وكان في معظم الأحيان منعزلاً لا يعترف به أحد . وانتهى به المرض عام
1889 إلى الشلل الكُلِّي والجنون، فأُرسِل إلى المستشفى العقلي في بال ويينا ،
ثُمَّ أُعِيد إلى أُمِّه في ناومبرغ عام 1890. ولَمَّا ماتت تعهَّدته أخته في
فايمار عام 1897 ، وباشرت نشر كتبه ، وظلَّت ترعاه إلى حين وفاته .
تأثَّرَ نيتشه بالنَّزعة التشاؤمية
لشوبنهاور ، والنَّزعة الجمالية عند الموسيقار فاغنر ، لكنه سُرعان ما انقلب على
شوبنهاور،واعتنق مبدأ الحياة،كما انفصل عن نزعة فاغنر الفنية.تميَّزت فلسفة نيتشه
باستيعابها أفكار الرومانسية الفلسفية والعدمية ومُعاداة السلمية . وكذلك نقدها
للدِّين ومبادئ الأخلاقية والنفعية والمادية والمثالية الألمانية، فكانت إلهامًا
للمدارس الوجودية وما بعد الحداثة .
تناثرت آراء نيتشه في مختلف كُتبه التي كان
أهمها : " مولد المأساة " ( 1872)، وهو أول كتاب له ، وموضوعه التشاؤم
والثقافة اليونانية . وقد كتبه بأسلوب شعري وجداني غنائي عَكَسَ آيات الفن
اليوناني .
ولا شك أن أهم كُتبه من الناحية المذهبية
كتاب"هكذا تكلَّمَ زرادشت"( 1883_ 1885) ، ويُعتبَر هذا الكتاب مِن عيون
الأدب العالمي ، بل أبلغ ما كُتِب في مجال الفلسفة. ألَّفه بأسلوب شِعري تَكَوَّن
مِن صُور جيَّاشة شابهت صُور المفكرين الرومانسيين، وتغنَّى فيه بقيم الحياة على
حساب قيم المعرفة. وكان مطمع نيتشه أن يكون كتابه بديلاً " للكتاب
المقدَّس" وبشارة بالأزمنة الجديدة. فالثفاقة الحديثة بحاجة لأن تُؤسَّس على
قيم غير تلك التي تُلْهِم المسيحية ومذاهب التشاؤم والعقلانية والأخلاقية
والاشتراكية . وزرادشت البطل الذي بشَّر به نيتشه هو الإنسان القوي الذي يُحطِّم
ألواح القيم القديمة ، ويعتمد على مبدأ إرادة القوة الذي وَجد فيه نيتشه مفتاح
أسرار الحياة كلها ، لأن الحياة ليست غريزة وجود النوع وبقائه ، فليس صحيحًا أن
الكائنات تتوق إلى البقاء، وأن الحياة إرادة حياة كما يقول شوبنهاور،وإنما الحياة
تتوق إلى الازدهار والانتشار والغزو، فهي إرادة قوة وليست إرادة حياة. فلا بد
للفرد من أن ينتصر على نفْسه، وأن يُثريَ نفْسه بالعلم والفلسفة وأن يسيطر على
الطبيعة ، ويُعبِّر عن انتصاراته بالفن .
اختص نيتشه ببلاغته العنيفة في هدم المسيحية
وسحقها، ونادى بضرورة نسف القيم الدينية جميعًا، وتحطيم كل ما يمكن أن يؤمن به
الإنسان ، لأن الإيمان نفي للخُلُق ، ولأن التقليد هو رفض الإنسان لأن يكون ذاته .
وهكذا ، مهَّد نيتشه لمجيء " الإنسان الأعلى وتمجيده " ، فأعلنَ
" موت الإله " حتى يُصبح الإنسان أسمى الكائنات جميعًا . جاهرَ نيتشه
بتطبيق نتائج قانون بقاء الأقوى في مجال الأخلاق، ونهض بهذا الدور، وأقامه على
أساس بيولوجي، بعد أن قوَّض داروين الأساسَ الديني للأخلاق الحديثة، لكنه أبقى على
الأخلاق القديمة. وكانت مهمة نيتشه إقامة الأخلاق على أساس جديد، وانتهى إلى توكيد
القوة والكبرياء والأنانية، وأحَلَّها محل الطيبة والمسكنة وإنكار الذات . لقد هدم
نيتشه التصور المألوف للقيم الأخلاقية ، حين تَصَوَّرَ المثَل الأعلى ماثلاً في
إرادة القوة، وتتجلى في توكيد الذات والسيطرة على الآخرين، وابتغاء السعادة
الفردية، والوصول إلى الإنسان الأعلى و"السوبرمان " الذي يُمثِّل صلابة
الخلُق وشجاعة الرأي ، ويُمجِّد الألم والقسوة، ويحتقر الدَّعَة والصبر والتواضع
والتعاطف.