وُلد الفيلسوف
الألماني فِلهِلم دِلتاي ( 1833_ 1911 ) في بيبرش في أسرة دينية . ودرس
اللاهوت والفلسفة في
جامعتَي هايدلبرغ وبرلين . خَلَفَ لوتسه بجامعة برلين ، وتأثَّرَ بفلسفة كُل مِن
كانت وهيغل وشلايرماخر، وبالتجريبية البريطانية . وأطلقَ على فلسفته اسم "
فلسفة الحياة".
والحياة التي يقصدها دلتاي هي الحياة
الإنسانية بكل تعقيداتها المعروفة ، وهي مُركَّب من هذا العدد الذي لا حد له من
الحيَوات الفردية التي تُؤلِّف الواقع الاجتماعي والتاريخي لحياة الإنسانية كُلِّها،
والتي تدخل فيها آمال الأفراد ومخاوفهم وأفكارهم وأفعالهم والمؤسسات التي
يقيمونها، والقوانين التي يَسترشدون بها، والديانات التي يعتنقونها، وكل الأعمال
الفنية والأدبية والمذاهب الفلسفية والنظريات العلمية . والحياة بهذا المعنى هي
موضوع الفلسفة الوحيد .
يُوصَف دلتاي بأنه تجريبي مُتشدِّد ، فهو لا
يؤمن بوجود أي شكل مُتعالٍ أو محايد للحياة ، ولا يعتقد بوجود حياة خارج هذه
الحياة ، ولا بوجود شيء في ذاته . وهو يرى أن الفيلسوف جزء من الحياة ، ولا يمكنه
فهم الحياة إلا من داخلها ، وكل التجارب والأفكار من الحياة، فلا وجود لمعايير مُطْلقة
خارج التجربة . والحياة عند دِلتاي كُل مُنظَّم له معناه. والفيلسوف يبدأ بالمعاني
التي يُعطيها الناس للحياة، ويُشاركهم المبادئ التي يستخدمونها في تنظيم خبراتهم ،
ويُسمِّيها دلتاي " مقولات الحياة " على طريقة " مقولات كانت
". وهي: مقولة الباطن والظاهر الداخلي والخارجي، ومقولة الكُل والجزء، ومقولة
الغاية والوسيلة، ومقولة النمو والتطور، ومقولة القيمة، ومقولة الهدف، ومقولة
المعنى. لكن دلتاي يرفض الاستنباط
المتعالي ،
ويعتبر المقولات تعميمات تجريبية . وهي تُمارس
تأثيرها تحت المستوى الشعوري ، إذ يُضفي الإنسان على خبرته معنى يستخدم المقولة
التي يتحقق بها ذلك ، فَيُنظِّم ويُؤوِّل الحياة شعوريًّا بهدوء ورَوِيَّة .
يرى دلتاي أن الديانات والأساطير والأمثال
والأعمال الفنية والأدبية ليست إلا تأويلات ، وليست المبادئ الخلُقية والمؤسسات
والقوانين إلا صياغات لتقسيمات وغايات مُتَوَخَّاة . وفلسفة الحياة الحقة هي التي
تقوم على أوسع معرفة ممكنة بالحياة، وهي المعرفة التي تتيحها العلوم الإنسانية
التي يُسمِّيها دلتاي العلوم
الروحية، وهي
مجموع الدراسات التي تبحث في حقيقة التاريخ والمجتمع. وتشمل علومًا هي عِلم النفس
والتاريخ والاقتصاد وفقه اللغة والنقد الأدبي والدين المقارَن وفلسفة التشريع ،
وكلها دراسات موضوعها الإنسان وأفعاله ومُبتكراته .
كان الرصد التاريخي أو نقد الفهم التاريخي
موضع اهتمام دلتاي، فقال بثلاثة مبادئ ، أسماها بالتاريخية . المبدأ الأول: إن
كل ما هو إنساني جُزء من العملية التاريخية ، وينبغي تفسيره تاريخيًّا، فالإنسان
تاريخي في جوهره ، بمعنى أن للإنسان بُعْدًا أساسيًّا هو التاريخ ، فينبغي دراسة
العقل الإنساني من زاوية التاريخ ، لأن الإنسان يعيش في الزمان ، ويتحدد بأحوال
وظروف تختلف باختلاف العصور . والثاني: إن المؤرِّخ لا يمكن أن يفهم هذه العصور
إلا بتصور آراء الناس الذين عاشوا فيها وآمنوا بها.والثالث: إن المؤرِّخ في فهمه
لهذه العصور وتفسيراته لها محدود بثقافة عصره، فحياة الإنسان تاريخية، وعالَم
الإنسان هو عالَم التاريخ، واتِّسَاقًا مع هذه التاريخية يرفض دلتاي المبادئ المطْلقة
والقيم المطْلقة ، ويُعوِّل على فعالية الفلسفة، وقدرتها على تحليل ودراسة آلية
عمل وعي الإنسان، لأنها تنفرد بمنهجها المميَّز وهو منهج الفهم، الذي يقوم على
أساس مَيل الإنسان الدؤوب لتكون له رؤية أو فلسفة شاملة ، يستطيع بها تأويل الواقع
وربط صورته بمبادئه هو نفْسه ومعانيه وقيمه التي يُصدِر بها أفعالَه ، فيمكنه بذلك
فهم الحركات الاجتماعية، والمذاهب الفلسفية، لهذا دعا دلتاي إلى فكر تأويلي يُوحِّد
ما بين الفلسفة والتاريخ .
كان لفلسفة دلتاي تأثيرها البعيد في الفكر
الألماني المعاصر، فقد ظهرت عدة محاولات تهدف إلى تحليل منظومة هيغل المثالية، في
ضوء تحليل دلتاي للزمانية، منها محاولة هايدغر في تحقيقه لكتاب
" نظرية الوجود عند هيغل ". كما أنها شغلت حَيِّزًا في الفكر الفلسفي ،
وأثَّرت في فلسفة التأويل.
يُعتبَر دلتاي من أبرز نُقَّاد الوعي
التاريخي في الفلسفة المعاصرة ، ومن الفلاسفة الأكثر نفوذًا في فلسفة الحياة . وقد
ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالحركة التاريخية أو بفلسفة التاريخ ، التي اعتبرها فلسفة
للفهم ، التي هي أداة للكشف عن الحياة في الحياة .
وتفكير دلتاي يرتكز بشكل أساسي على قبوله
للنظرية القائلة إن الفلسفة تنشأ من مشكلة الحياة اليومية ، وقبوله بأن الفلسفة
يجب أن ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمعرفة الحياة .