فلسفةُ السلوك
الإنساني هي التعبيرُ الوجودي عن حركةِ الفِعل الاجتماعي الظاهري ، والتفسيرُ
المركزي للوعي الذهني المُستتر . وبما أن حركة الإنسان في تاريخه الشخصي وتاريخ
المجتمع ، لا تتم بمعزل عن العلاقات الاجتماعية الخارجية والخصائصِ النَّفْسِيَّة
الداخلية، فإنَّ هُويةً إنسانية جديدة ستنشأ بشكل مُستمر ، وتتولَّد مِن ذاتها
لاكتشاف ذاتها. وهذه الهُوية تَجمع بين تاريخ الإنسان وإنسانية التاريخ ، من أجل
فتحِ التاريخ الاجتماعي على أسئلة الوجود وتحدِّيات الواقع ، وأيضًا ، تَجمع بين
الماهيَّة الاجتماعية والطبيعة النَّفْسية ، مِن أجل توحيدِ الزمان والمكان، وبذلك
يتجسَّد الإنسانُ في التاريخ رُوحًا ومعنى ، ويتجسَّد التاريخُ في الإنسان نظامًا
ومعرفةً . وهذه التبادليةُ تعني أن كُل صِفة إنسانية لها امتداد تاريخي عميق ،
ولَيست وليدةَ اللحظة الآنِيَّة، وأن كُل عامل تاريخي له جُذور اجتماعية راسخة ، ولَيس
مقطوعًا عن الوَعْي الإنساني بالزمن المفتوح ( حركة الماضي والحاضر والمستقبل معًا
بلا فواصل في مكان يتشكَّل باستمرار ويُعاد صناعته مَعْنًى ومَبنى ) .
2
الزمنُ
المفتوح يهدف إلى مَنعِ تحوُّل التاريخ إلى فَخ ، ومَنعِ تحوُّل العلاقات
الاجتماعية إلى مِصْيَدة . والتاريخُ لَيس وقائع حدثت في الماضي وانتهت ، وذهبت
إلى طوايا النسيان. إن التاريخ وُجد ليبقى ، وهو في حالة صَيرورة مُستمرة ،
وانتشار مُتواصل في كُل الجهات ، وتكوُّن دائم على الصعيدين : الخَطِّي البسيط ،
والدائري المُركَّب . ومنطقُ التاريخ كامن وشديد التَّشَعُّب والتعقيد ، ويَصعُب
السيطرة عليه . والتاريخُ يتحرَّك وفق مسارات مُتوازية ومُتقاطعة ، وكذلك يتحرَّك
على شكل دوائر مُتشابكة.والتاريخُ لَيس شيئًا يأتي مِن الخَلْف، وإنما هو شيء نجده
أمامنا . ومُشكلةُ الإنسان الواقع تحت ضغط التفاصيل اليومية أنَّه يَبحث عن
التاريخ وراء ظَهْره لاستدعائه ، في حين أن التاريخ _ فكرًا وعاطفةً _ موجود أمام
أعْيُن الإنسان ، ولا داعي لاستدعائه ، لأنَّه حاضر بكُل تجلياته ، والاستدعاء لا
يكون إلا للغائب، والتاريخ لا يَغيب ، ولا يستطيع الإنسانُ تَغْييبَه حتى لَوْ
أرادَ ذلك . وفلسفةُ حُضور التاريخ لا تعني الحديثَ عن الماضي ، أوْ ذِكْر إنجازات
الآباء والأجداد ، أو دراسة الأُمم الخالية والشعوب السابقة. هذه أشكال للتاريخ،
ومُلامَسَة للسَّطْح الزمني العَرَضِيِّ ، وجوهرُ التاريخِ مُتمركزٌ في أعماق
الشُّعور وإدراكِ الذاكرة ، ومُتجذِّرٌ في الوَعْي المُسيطر على السلوك الإنساني
المكشوف ( الفِعْل ورَد الفِعْل ) ،
وراسخٌ في اللاوَعْي المُهيمن على التفاعل الإنساني المَكبوت ( الأحلام والذكريات
) .
3
كَينونة
التاريخ تتشكَّل في كِيان الإنسان اجتماعيًّا وقِيَمِيًّا . والإشكاليةُ في فلسفة
الوعي بالتاريخ هي أن الحضارة الإنسانية تبحث عن التاريخ في جسد الزمن ، ولا تبحث
عن التاريخ في جسد الإنسان ، لأنها تعتبر الزمن هو الحاضن للأحداث والوقائع ، في
حين أن الإنسان مُجرَّد كِيان واقع تحت تأثير عناصر البيئة المُحيطة وإفرازات
الواقع المُعَاش . وهذه نظرة قاصرة ، لأن الإنسان صانع للقرار ، وفاعل للتاريخ ، وعُنصر
مُؤثِّر ومُتَأثِّر بالتغيُّرات الزمنية ، والتحولات التاريخية، والانقلابات
الفكرية، ولَيس صفحةً بَيضاء يَكتب التاريخُ عليها مسارَه، أوْ مُمَثِّلًا على
مسرح التاريخ . إنَّ الإنسان تاريخ يتحرَّك ضِمن التاريخ ، ولَيس رَقْمًا مِن
الأرقام ، أوْ حَدَثًا عابرًا في سِجِلَّات الحياة العَامَّة ، أوْ وثيقةً
هامشيَّةً في أرشيف الحياة الخَاصَّة . وكما أن الجينات الوراثية تُوجَد في كِيان
الإنسان ، ولا تُوجَد في كُتب الطِّب والبيولوجيا ( عِلْم الأحياء ) ، كذلك الصفات
التاريخية تُوجَد في كِيان الإنسان ، ولا تُوجَد في كُتب التاريخ والجُغرافيا .
4
التاريخُ حياةٌ مُوازية تُعاش لحظةً بلحظة ، وتكمن سُلطته المعرفية في قُدرته على تجسيد الأفكار الإنسانية ، والتَّجَسُّد فيها لُغةً رمزيةً تبني العلاقات الاجتماعية على الصِّيَغ العقلانية ، وقُوَّةً توليديةً للمعاني في سِياق إعادةِ تعريف الشُّعور وإعادةِ إنتاج الوَعْي ، وبُعْدًا وُجوديًّا يَستطيع صناعةَ الدَّلالات الإبداعية في هوامش المجتمع المنسيَّة. وهذا الحراك على جميع الأصعدة يُؤَدِّي إلى اكتشافِ بُوصلة الزمن في خريطة المكان ، وبناءِ خريطة المكان في تشكُّلاتِ المعرفة،وتفسيرِ طبيعة الأنظمة الفكرية التي تصهر الأشكالَ والمضامين في بَوتقة الوجود، وكُلَّما اقتربَ الإنسانُ مِن ماهيَّة الوجود ، امتلكَ القُدرةَ والجُرأةَ على تفسيره ، لَفْظًا ومعنى ، تركيبًا وتَخييلًا ، شكلًا ونَوْعًا ، تنظيمًا وتوظيفًا ، تكوينًا وتأطيرًا ، شرعيةً ومشروعيةً .