ولو كانت اتفاقية وادي عربة جاءت لمصلحة الشعب الأردني لارتفع الدخل القومي ، وازدادت القوة المالية والشرائية للأفراد ، وغطس الشعبُ في السمن والعسل والوظائف الجاهزة ورغد العيش . ولكن الذي حصل هو العكس تماماً . وإذا كان الأردن لا يجد ماءً للشرب في فصل الصيف فأين الحقوق المائية للأردن التي نصَّت عليها هذه الاتفاقية العبقرية ؟! ، وما فائدة التمسك باتفاقية متهاوية لا تساوي قيمةَ الحِبر الذي كُتبت به ؟! .
وهذا كله يشير إلى أن هذه الاتفاقية المشؤومة جاءت لصالح طبقة المتنفذين المرتزقة لزيادة أرصدتهم البنكية على حساب البلاد والشعب والمتاجرة بمصيره وجعله عائشاً في الأوهام . وكأن عَرَّابي اتفاقية وادي عربة قد تعلموا الخداعَ من الرئيس المصري الراحل أنور السادات الذي قال _ في نهاية سبعينات القرن العشرين في معرض تسويقه لاتفاقية كامب ديفيد_ إن المليارات ستنزل على الشعب المصري . وبالطبع فالمليارات لم تنزل ! . والذين وقَّعوا على اتفاقية وادي عربة لا يُمثِّلون إلا أنفسهم ، حتى إن مجلس النواب الغابر الذي صادق على الاتفاقية لا يتمتع بالشرعية ، فهو مُعيَّن وفق سياسة الأمر الواقع ، ويمتثل للأوامر التي تأتيه من خلف الكواليس، فهو يُمثِّل المصالح الفردية الآنية لا مصلحة الشعب . وكلنا يعلم أن المؤسسات السياسية في العالم العربي هي ديكور وأكذوبة متبخرة في فضاء زواج الثروة بالسُّلطة . وهذا الكلام ضروري لمعرفة أسباب انهيار الدولة الأردنية وتحولها إلى كيان فاشل على جميع الأصعدة .
وهذا التحدي الوجودي الشرس ينبغي أن يدفعنا إلى تبني الإصلاح كمنظومة خلاص وطنية وليس الاستسلام لليأس وندب الحظ والبكاء على الأطلال . فالوصولُ متأخراً أفضل من عدم الوصول . وما زالت الفرصة سانحة للنظام الأردني لكي ينتشل نفسه من المستنقع وينقذ البلاد والعباد . وهنا تتجلى أهمية توبة النظام السياسي النصوح والتكفير عن ذنب اتفاقية وادي عربة ، وذلك عبر إطلاق سراح الجندي أحمد الدقامسة المعتقَل ظلماً منذ العام ( 1997م ) ، والذي رفض المهانة وأبى أن يكون حارساً لحدود أعدائه ، ففتح النار على الغزاة الإسرائيليين الذين انتهكوا السيادة الأردنية ، ودافع عن شرف المؤسسة العسكرية التي تم تهميشها تحت ضغوطات خدعة السلام . ولو كان الدقامسة الذي تصدى للغزاة الذين انتهكوا السيادة الأردنية مجرماً لكان الجيش الأردني الذي قاتل بشرف إلى جانب الفدائيين في معركة الكرامة ( 1968م ) مجرماً، ولكان شهداء الأردن الذين سقطوا دفاعاً عن فلسطين مجرمين ، وهذا لا يقول به عاقل .
وقد يتساءل أحدهم باستغراب : هل مصير الدولة الأردنية بأكملها يتوقف على مصير جندي سجين ؟ . فنقول إن الدقامسة هو رمزٌ وطني شامل . فهو يُجسِّد _ بشكل فعلي _ قيمةَ الرفض والتحدي والدفاع عن السيادة حتى الرمق الأخير . والإفراجُ عنه هو المحك الأساسي الذي يدل على استقلالية القرار الأردني ، وانعتاقه من الهيمنة الصهيونية ، وإقامة قطيعة مع الماضي المخزي المتمثل في مهزلة عملية السلام ، وقدرة الأردن على الوقوف على قدميه اعتماداً على قدراته الذاتية وأوراق الضغط التي يملكها، خاصةً أنه يملك أطول حدود مع "إسرائيل " . ولا يمكن للدولة أن تقود مسيرةَ الإصلاح إلا إذا امتلكت قرارَها بيدها ، لذلك فالامتحانُ الحقيقي هو الإفراج عن الدقامسة . وإذا عجز النظام السياسي عن ذلك ، فهذا دليلٌ على أنه لا يملك قرارَه، وبالتالي فلا فائدة من شعارات الإصلاح. فالسادةُ _ وَحْدَهم _ هم القادرون على التغيير وليس العبيد . ومن المخزي أن تقوم السلطات الأردنية بتهريب رَجل الأعمال المحكوم بقضايا فساد ( خالد شاهين ) إلى الخارج بكل براعة مثلما هَرَّبت من قبله أحمد الجلبي المحكوم في قضية بنك البتراء الذي تم نهبه في وضح النهار ، في حين أن الدقامسة محكومٌ بالمؤبَّد ، وما زال في السجن منذ عام 1997م .
لذا فالعفو الملكي عن السجناء غير مقبول لأنه جاء ناقصاً ومليئاً بالثغرات ، وهو عملية تجميلية ترقيعية . وما استثناء الدقامسة من العفو الملكي إلا مؤشر سلبي بالغ الخطورة ، مع العلم أن الدقامسة لا يحتاج عفواً من أحد ، لأنه قام بما يمليه عليه ضميره ، ودافع عن شرف الأردن الذي باعه سماسرة وادي عربة .