إن قوة القصيدة تتجلى في قدرتها على رسم خارطة التحولات الإنسانية بشكل بالغ التكثيف والرمزية ، وصناعة منظومة خيالية تؤول إلى حياة جديدة لا تخضع لقوانين الأمر الواقع . الأمر الذي ينقل العلاقات الاجتماعية من التشظي إلى التجمع ، ويُحوِّل الجماعة البشرية من التشتت إلى التلاحم . وهذا الأداء التوحيدي الذي تضطلع به القصيدة يؤدي إلى إنتاج مضامين تفسيرية جديدة لتاريخ النص الشعري ، وتكوين نسيج اجتماعي متماسك لمنظومة الخلاص الشعرية .
وكلما ازداد الوعي الإنساني بالأبعاد السُّلطوية للفعل الشعري ، تكرَّس الجنين الإبداعي كأداة خلاص . وهذا يبعث الحياة في النظم الاجتماعية والثقافية على السواء . فلا يمكن للمجتمع أن يتحرك بدون القيمة الإنسانية والقيمة الثقافية ، تماماً كالطائر الذي لا يقدر على الطيران بدون جناحين .
ومن أجل توليد أنساق ثقافية بوسعها التعبير عن المضمون الجوهري للحياة الاجتماعية لا بد من تنمية العنصر الحياتي الخارج عن دائرة التشيؤ ( تحوُّل الكينونةِ البشرية إلى شيء ، والعلاقات الإنسانية إلى تيارات ميكانيكية خالية من المشاعر والقيم المطْلقة ) .
وإذا حافظنا على سُمُوِّ الحس الوجداني للإنسان في ظل البيئة الاستهلاكية الخانقة ، فإننا سنحصل على مجتمعات حية تكون فيها النظمُ الثقافية مغامَرةً مستمرة واكتشافاتٍ متعددة مناوئة للسياقات الحياتية الغارقة في الملل والروتين الوظيفي . فالحياة العادية القاتلة معلومة البداية والنهاية سلفاً لأنها محصورة في نطاق ضيق ، أما الحياة الثقافية الإبداعية فهي تجدُّد دائم في أُفق مفتوح على كل الاحتمالات والمغامرات . وهذا الأفق خالدٌ لا يَشيخ بسبب امتلاكه لسر الشباب الدائم الذي تمنحه القصيدة للنسغ الاجتماعي والطبيعة البشرية .
ومن الجدير بالذكر أن خلود النص الشعري ينبع من إشراقات الرُّوح التي تمضي في طريقها كمبادئ اجتماعية ذاتية تحفر في الرؤية العاطفية طوفانَ الكلمات. وهكذا يمكن تجاوز كافة المآزق الناتجة عن زواج القمع السياسي بالانهيار الفكري ، لأن الشِّعر سُلطة قادرة على تفكيك العُقد النفسية للأفراد والجماعات، وكسر الحواجز التي تحول دون التقاء البشر بآدميتهم .
وهذه العمليةُ التثويرية هي إعادة إنتاج للمجتمع . فالولادةُ الشعرية هي ولادة للمجتمع الإنساني ، والجنينُ الشعري هو المعنى الاجتماعي المعاش.وهذا الترابط الاجتماعي الثقافي يعكس وحدة المسار والمصير بين الإنسان وثقافة الشِّعر.