قُيودي هي ثلوجٌ صَاغها ضَوْءُ الموقدة في كُوخِيَ المهجور . يومَ دخلتُ السجن لأول مرةٍ ، شعرتُ أن شراييني تزوَّجت إسفلتَ الذاكرة . تنبثقُ شموسي من ضلوعِ الحيطان التي تقتربُ شيئاً فشيئاً لتطبق على أنفاسِ الأُقحوان الجبلي . هذه بدايةُ نهايةِ الضَّياع. هنا يأتي حَمَامُ الأماني ليبيضَ . هنا تأتي أَمطارٌ موسميةٌ تحملُ إشراقاتٍ غامضة كأقفاص من قصدير منهَك القوى. أُصافحُ أَيامي بيدٍ واحدة، واليدُ الأُخرى أُغَطِّي بها جراحاتي . وإذ أكتبُ هذه السطورَ أتذكر الفقراءَ الواقفين أمام قَبْري ينتظرون . إنني أعيش الربيعَ في قلب الخريف .
تتساقطُ أَوراقُ الشجر في الخريف، أيضاً قد تتساقطُ لحومُ السجناء في الخريف. قد يزوركَ أشخاصٌ يحملون سياطاً جافةً. يُحَوِّلون صمتَ الحائط إلى صراخٍ . أشخاصٌ ضد الفَرَاشِ. يُنزِلون السَّوطَ على ظهركَ وهم يبتسمون. قد ترى القحطَ يُخَيِّم على أَطرافكَ البعيدة كالقرى النائية.كلما حَطَّت الزنازين على سواحلِ دمي ازداد غضبُ البعوض لأنه فَقد مصدر غذائه.
الزنازين والبعوض والمخبِرون يتسابقون إِلى دمي . اتركوا دمي مصباحاً للأرامل الصاعدات من عِظام الفجر . سلامٌ على شجرةٍ تنتظر زوجاً كي يبكيا في ليلِ المنافي والملاجئ. والنجماتُ المتشحات بالسَّواد خيمةُ الفقراء . قمحةٌ تضع على أُذُن تابوتها مغارةً للذباب العاشق . والغيثُ يقتفي آثارَ النخل في عُطاسي . تبحث الشجيراتُ عن راية تكون فيها الدماءُ خطوطاً هندسية . تَزَعَّمَ بنكرياسي مجلسَ قيادةِ اليمام .
وكانوا يركضون في أفلاك الفرح . إن قلبَ العاصفةِ مثلُ الموتى . يذهب الغُزاةُ إلى انتحاراتهم كلَّ يومٍ ، ويعودون مُحمَّلين بالغرقد المنهَك والقصديرِ المغشوش . وُلِدَت السنابلُ لتثور . وعندما مات الشفقُ في المعركة حضنتُ أبناءه بعد أن تزوَّجت أرملتُه غضبَ المجرَّات . مِتُّ مثلما تُولَد الذكريات . مِتُّ في الحياةِ ومِتُّ في الموتِ .
الليلُ يحضن موتانا. اكْتَشِفْني أَكتشفْ جرحاً مرمياً كأطلال مجهولة . لا يُشرِّفني أن أكون دماً للمرعى لأن جسدي مكانٌ، والأمكنةُ ظِلُّها الرمادُ شاهدُ قبر مطموسٌ شَاهِدْني وأنا أُحتضَر . مُدَّ يديكَ إلى أُفقي . أفقتُ وما زال موتي عائشاً . سلامٌ على الأموات الذين يسكنونني . أين سَنَبْكي أيها الدمارُ الملتصق بحواسنا في خرائط لم تعد تَذْكر مجازرَنا ؟ . مقالةٌ قصيرة في رثاء القمر. تُوزِّع الأمطارُ الثورةَ على مفاصلي، وينتظر الزقاقُ المتشعِّب في كُلْيتي وجهاً للمغيب كما ينتظر الفقراءُ استلامَ الخبز في طابور الضياع . يستثمرُ الغروبُ بكل إمكانياته في غضاريفي . أنا الموتى والصحاري الذبيحة التي سقاها الأنبياءُ فاخضرَّت وعادت إلى الحياة .
شُكْراً للملوك الذين باعوا الأندلسَ من أجل أثداء الإسبانيات . شكراً للمراهقات العائدات من الاحتفال بجنازة شَعْر رأسي . شكراً للزوجات الخائنات الماهرات في الطبخ على نار هادئة . شكراً لدمي الذي هجرني لأني لا أملك ثمن لاصقات الجروح . شكراً للآباء الذين باعوا بناتِهم بالتقسيط المريح . شكراً للفقراء المرضى بِالوهم يخافون من الثورة حين ترتعش أطرافُهم من البَرْد مثل أصابع المطر. شكراً للمرتزقة وهم يقتسمون كعكة عذاباتي في الأعياد الوطنية . شكراً للشعب الميت الذي لم يجد قبراً يتسع له . شكراً للجنود الذين يعملون بعد الدوام الرسمي حفاري قبور للأحلام .
هبط الظلامُ سريعاً. سراديبُ ترتمي أمامي متاهةً . (( أين أذهب ؟! )) ، قلتُ للسَّجان الذي يقتادني . فأجاب بصوتٍ ذابلٍ : (( السردابُ الذي في نهايته ضوء خافت أو الضوء الخافت الذي في نهايته سرداب )) .
تَوَجَّهْنا معاً بخطى تتمنى لو تغادرنا وترحل إلى مكانٍ أكثرَ غاباتٍ وينابيع . عُصفورةٌ انتفضتْ انتفضتُ رأيتُ الموتى المتحركين إنهم يرونني وكلما ساروا ماتوا في أوردتهم. أيتها الكمثرى الزئبقية أعرف أنكِ لم تنتخبي المنفى، ولكنه انتخبكِ . نعوش الصحاري في خِزانة بُحَّةِ صوت الوديان. جِرَاحي فلسفةُ حضارة أكباد الأسرى . ظلال الرياح ديدان موتانا . ومستودعات الميناء تنخرها أشرعة المحار الباكية . يقتحم الدودُ حفلةَ تتويج التراب مَلِكاً على عظام الصُّبح وأوردةِ اللوز الحار وأربطةِ جرح الفُستق . يخرج المصلون من صلاة الجمعة ، ويذهبون إلى بيوتهم كي يتناولوا الغَداء مع أهلهم ، أمَّا أنا فأخرجُ فلا أعرف أين أذهبُ ، فأنامُ على الرصيف وأتناول ورقَ الشجر .
مَشَيْنا ومشينا . كانت ظلالُنا تسير مَعَنا وبدا عليها وكأنها تَسْخر منا . رَجُلان يمشيان نحو المجهول . ضياءُ النجوم لا يصل إلينا . أشرعتنا ممزقة كأحلام حصانٍ مذبوحةٍ في الحقول الواسعة . زهرةٌ على وشك الانهيار يحيط بها كلابُ حراسةٍ مدرَّبة. والضبابُ الذبيحُ ضيفُ القمرِ الأسير في جسم الندى القرميدي . صافحتُ الغسقَ الرَّاجعَ من تأبين قَوْس قُزَحَ. احتضاراتٌ في أدمغة حفيدات القَيْصر . ضِفدعةٌ تَحْمل على رأسها بحيرةَ الشَّظايا وأوصالَ اللحوم البشرية المهترئة .
سألته وأنا أصارع رحيقاً يحاول امتصاصَ صَوْتي : (( ألم نصل بعد ؟! )) .
فرد قائلاً : (( عندما ترى باباً ضيقاً مفتوحاً على مصراعيه ، فاعلم أننا وصلنا)).
قلت : (( وَصَلْنا أم وصلتُ أنا ؟ )) .
قال : (( بل وَصَلْنا )) .
شعرتُ أنه يَسْخر مِنِّي كما ظلالنا . إذ إنني المعني بالحبسِ وهو السجان . فكيف يجتمع سجين وسجان ؟ . قلت في نفسي : (( عليَّ انتظار ذوبان الثلوج التي تحجب رؤية الماء )) .
ولم تكد تمضي بضع دقائق حتى لمحتُ باباً كما وُصِفَ لي . لم أعرفْ وقتها شكلَ البارود في صدري . هل أفرح أم أحزن ؟ . هل أذهب إلى مَسْكني الجديد أم أترك مسكني الجديد يأتيني ؟. الأرض سوف تموت ، وستذهب الشمسُ إلى قبرها . يُحِبُّنا تَشَرُّدُ الزرنيخ في خيامِ الفاكهة غير الطازجة . وتشربنا القهوةُ عند نافذة مطلة على مقبرة النجمات .
شكلاً للذكريات كنتُ . إن سَيْفي الصدى وقلبي الصوتُ . وطنَ اللصوص ، اقْتُلْني وأَرِح السجانين من رؤيتي. كنتُ أنا والشلالات نبيع العلكة على إشارات المرور في النهارِ ، وفي الليلِ نكتب المنشوراتِ السرية ضد نزيف القمر ، ونوزِّعها على النوارس .
كان البابُ طريقاً خشبياً يُفضي إلى تقييد أوصالي . ضَيِّقاً باكياً تنهمرُ دموعُه على رائحةِ البُن المهاجرة. إنه الحبسُ خليطٌ من الروائح والألوان، اندفاعاتُ أشياء تبحث عنكَ في أماكن الحصار . دخلتُ وصِرْتُ البابَ والدمعَ اليابس . أنا الآنَ في غرفةٍ مُعتمةٍ. بيني وبين أوراقي آلافُ الوديان وعواءُ الذئاب اليقظة . أَجَلْتُ بصري في المحيط فلم أجد سواي. لقد كان السجان بجانبي ، أنظر إليه ولكني لا أراه . وهو ينظرُ إلي ولم أكن أعرف هل يراني أم لا . إن هذا الأمر يُشبه شخصاً مصاباً بالحمى تلعبُ الخفافيشُ برائحة عَرَقِه .
استلقيتُ على الأرضِ لأن التعبَ هدمني . أحسستُ أن الزوايا تخاطبني، وأن الفِراشَ الأرضي الخيالي الملقى يبتلعني ، والألوانُ تصمتُ تارةً وتهيجُ تارةً أخرى . هذا عالمي الجديدُ عالَمٌ مغلقٌ سجونٌ تتجمع لِتُشِعَّ سِجْناً واحداً . وسجنٌ واحدٌ يتَّحد ليقتل كُلَّ وردةٍ تعشقُ الحقول ، كُلَّ رمحٍ يواجه الطاغيةَ ، كُلَّ سَدٍّ يتصدى للسيول المندفعة .
وأُغلِقَ البابُ، ولكن مهلاً. (( أراك بقيتَ معي لم تتركني ! )). وَجَّهتُ هذا الكلام للسَّجان . فقد أَغلق البابَ ولم يغادر.
فقال وهو يضع المفاتيح في جيبه : (( سأظل معكَ ! )) .
ذُهلتُ للوهلة الأولى . كأن نهراً يحشرني في بئر عميقةٍ ، ويرصدني ليغتالني بعيداً عن أعين الفراشات .
قلتُ والدهشةُ تلاحقني : (( هل سيعيشُ سجينٌ وسَجَّانٌ في نفس البُقعة ؟! )).
فقال محاولاً تبديد دهشتي : (( ولِمَ لا ؟ . نحن نتكلم لغةً واحدةً ، إذن التفاهم ممكن ، فلنعمل على تكوين فريق عمل لتجاوز هذه المرحلة المريرةِ )) .
قلتُ : (( إذا كنتَ مريضاً راجع أحد الأطباء ! )) .
فقال مبتسماً : (( أنا أعذرك. لأني أظن أنك ما زلتَ مصدوماً جراءَ ما حدث، وهذا يمنع عقلك من التفكير بهدوءٍ . انظر حَوْلكَ . رَاقِبْ ، تَأَمَّلْ، حَدِّقْ إِلي.. إلى ملامحي . العُمُر سويعاتٌ تمضي ونرحل . أنا وأنتَ نقستم هواءَ المكان ، ننتظر الضوءَ ، والضوء قادمٌ )) .
صحيحٌ أن خبرتي في سجون كوكبنا طويلةٌ، ولكنني لم أر سَجَّاناً مثل سجاني . إنه ينطق بالحكمةِ. كلماته تبدِّد معاناتي ، تحملني إلى الفضاء. لقد أحال عنفَ السَّراديبِ إلى مكانٍ تنتشر فيه المعاني. وتذكرتُ حمامةً تُغني مع البحر أغنيةَ الموجِ ، أجساداً تذوب تحتَ السِّياط ، أطفالاً يضيعون في براميل اليورانيوم المخصَّب ، أمهاتٍ يبحثن عن فلذاتِ أكبادهنَّ ، دمعةً خرساء تنساب شلالاً يُغرقُ الأَفاعي . شواطئُ تَدمع شَوْقاً إلى بَحَّارةٍ اقْتَحَموا خَوْفَهم من البِحارِ ، ومَضَوْا .
أيتها السَّنابلُ التي يَلمعُ لونُها ويتوهج بكل ثقة، اسْكُبي في جُرْحِي بَريقاً . تلك الأزهارُ التي هَرِمَتْ قبل أَبي بِساطٌ مُلوَّنٌ . السِّجنُ دُنيا ، والدنيا سجنٌ . قلبٌ يضخُ الدمَ في حقول الغد . تعلمتُ الشُّموخَ من مئذنةِ المسجد التي لا تسقطُ .
يا أيها الفهدُ الموزَّع على اللصوصِ والجرذان الناضجةِ ، باعوا أقلامي للجلادين . يا بحرُ، خذ رقمَ هاتفي واتصل بي بين الفينةِ والأخرى لتطمئن على صحة المتفجرات في بطني. أشعرُ أن قططاً تتزاوجُ بين أصابعي. أشعر أن أبناءَ جِلدتي يَرْصدون أجفاني. وأنا المصلوبُ البريء أشكالُ الأموات ذكرياتُ الأحياء. أشعرُ أنهم أقاموا وزارةَ الحرب لاقتفاء آثارِ لحمي على الصليب .
أفتتحُ سكوتَ الزنزانةِ. لمعانُ أظافر الجدارِ ينعكسُ على الحصى الخشن. أقدامُنا على الحصى. حُفاةٌ نحنُ . خَلَعوا البلاطَ وصَبُّوه سُوراً جارحاً كي يصبح جُحراً للعقاربِ والطيورِ الجارحة . تغتصبني كلماتُ قلبي التي لا أطيق تفجرها . اكتشفتُ مجزرتي قبلَ أن أكتشف أعضائي . وموطني يبحث عن موطني كي يقتلني . مثلما ترجع البغايا من صيدٍ وافرٍ . مثلما يذهبُ الملوك المهزومون إلى مضاجعة عشيقاتهم . مثلما يُنظِّم الشواذُّ جنسياً مظاهراتٍ في شوارع الإبادة . مثلما تستحم لاعباتُ التنس بدم الحيض . مثلما تولد الأظافر المشروخة في أدغال محاكم التفتيش . مثلما تسرق حكوماتُ الطاعون حواسَّ الفقراء . رسموا طريقَهم إلى السُّلطةِ على أعضاءِ البشرِ الممزَّقةِ . وبالتلويحِ بالمقصلةِ وأعوادِ المشانقِ انْتَزَعوا الحلمَ من الحالِم . فأضحى الفرحُ تائهاً في قريتي منبوذاً في مدينتي شريداً . والحدودُ تَغُصُّ بالألغامِ ونقاطِ التفتيشِ والمسلَّحين الذين لا يُوَجِّهون بنادقَهم إلا إلى صدورِ إخوانهم .
يبزغُ في براعمِ المرافئ صدىً غير واضحٍ . أنهارٌ تَجرف تجتاحُ أكوامَ التُّربةِ ، ترميها على جوانب أدغال عُزلةِ العُقبانِ النَّازفةِ ، حيث تَطبعُ مملكةُ السَّناجبِ عاصمتها على خشبِ القواربِ المتآكلِ. ويصعدُ النَّرجسُ الوحيدُ من الزِّحامِ. كُحلُ المها أنشودةٌ ترددها حقائبُ السَّفر . كلما عَصَفَتْ ذِكرياتُ الجِمالِ في الصَّحاري تكدس رملٌ مبلَّل بالدِّماءِ على بواباتِ ألمِ الحِيتان . ماذا سيفعل البرقوقُ ليغسلَ ماضيه ؟ .
أَخرج المفاتيحَ من جَيْبه بسرعةٍ ملتهبةٍ واختارَ مِفتاحَ الزنزانة بدون أدنى ارتباكٍ رغم وجود الكثير من المفاتيحِ ، ولستُ أدري هل كانت لزنازين أخرى أم لا . أَدخلَ المفتاحَ في الفوهةِ المخصَّصةِ وأداره بحركةٍ دائريةٍ خاطفةٍ ، فَفُتِحَ البابُ وخرج منه كأسدٍ ينقض على الفريسةِ . لم يترك لي وقتاً كي أسأله . لقد غادرَ وتركني ، وترك البابَ مُشرعاً مثل فجوةٍ في جدارٍ مهدومٍ إلا أنه واقفٌ .
أَمسيتُ في موقفٍ غريب : سجينٌ في زنزانةٍ مفتوحةٍ ! . سمعتُ حبَّات الحصى تقول : (( هذه فرصة مواتيةٌ للهرب )) . فكرتُ بالهربِ ، ولكن إلى أين ؟! . عائلتي أبادها لورداتُ الحروب وأُمراءُ سُكارى !. أمراءُ قصفوا خيامَ أُسرتي في المنفى . أكاسرة يعتنون بحيواناتهم الشخصية أكثر من اعتنائهم بالشعبِ الذي يسمعون عنه في وسائلِ الإعلامِ الأجنبيةِ ! .
جلستُ على الحصى في إحدى الزوايا . ليس لي أتباعٌ سوى دماء الفصول ، ليس لي بيتٌ سوى قَبْري . كنتُ أنثرُ كرياتِ دمي للحمائمِ الجائعاتِ على كفي الصَّغيرةِ . وأبي حين قَتَلوه لم يجدوه في جَيْبه سوى الذكريات . وما عرفتُ أين قَبْره . قُبورُ عائلتي في المقابرِ الجماعيةِ العشوائية . حتى القبورُ لم تَسْلَمْ من فوضى العسكر. صُوَرُهُمْ في البراويز الصَّامتةِ في غُرفتي يومَ كان لي غرفةٌ .
ذئابٌ تشربُ التَّبغَ على ظَهر تمساح أَحْول ، وتُصَوِّبُ عُواءها باتجاهِ قوافلِ البَدْوِ الرُّحَّلِ . الرَّحيلُ يُطوِّقنا في أرضنا السَّليبةِ . جمعت الجبالُ عصافيرَ التلةِ في براميلَ لكي لا تراها سِهامُ الجندِ القادمين من الجريمة . ولأنني دافعتُ عن ضوء أعمدة الكهرباء في وطني المنطفئ صرتُ مجرماً ! .
يَوْمَ قَذَفوني خارجَ بيتي قالوا لي : (( مِن هنا ستمر سكةُ حديدٍ . خُذْ طائرتكَ الورقيةَ معك ، ولا تُرسِلها في الأفقِ إلا بتصريحٍ رَسميٍّ من الدولةِ . هيا انصرِفْ . واحذر أن تُدلِيَ بأحاديث صحفيةٍ للجرائدِ الأجنبية . لا تلتفت وراءكَ ، فطلقاتُ أسلحتنا موجهةٌ إليك )) .
حَمَلْتُ دموعي على ساعدي وسرتُ إلى الوجهة ذاتها التي سار إليها الحمَامُ الزَّاجلُ الممنوعُ من توصيلِ الرَّسائلِ إلا بتصريحٍ رسمي. لستُ رصاصتي كي تخونوها، ولستُ أُغنيتي كي تُعدموها . طائرتي الورقيةُ عاطلةٌ عن العمل . صارت كالشعبِ المسحوقِ تعاني البطالة . والحمَامُ الزَّاجلُ راح يتصفحُ الجرائدَ بحثاً عن وظيفةٍ .
لغتي تَصْعدُ . أساقفةُ الرَّمادِ يحتفلون في سفينةٍ تَسْحَقُ مِشنقةَ صَقْرٍ . عرباتُ الشِّتاءِ الزرقاءُ تغزلُ في دمعاتِ زنبقةٍ رصاصاً موجهاً إلى الأعداء . زِندي سريرٌ للخِرافِ المنهَكة . وهذي أوصالُ قطتي المشنوقةِ ، وحين يَظْهرُ الشَّفقُ أرى الأوصالَ مُفَرَّقةً على وَرثةِ القطة .
إن الليالي تَفتحُ في بُكاءِ البراري منجمَ فحمٍ ، ثم تُحَمِّلُهُ في قطارات لإيصاله إلى مواقدِ الغُزاةِ كي يُصابوا بالدفء . يا دمعةً تتأرجحُ في أحداقِ اليتامى ، لا توجد ذكرياتٌ تمسحكِ . يا طِفْلاً يذهبُ إلى المدرسةِ بلا حقيبةٍ وإلى المقبرة بلا كَفَنٍ ، لا توجدُ أمطارٌ تغسلكَ .
نخلةً أقفُ أمامَ جَرْي الصحراء في عُروقي . ومُستقبَلُ شجرِ اللوز حطبٌ تنهشه مواقدُ العشَّاق في الشتاء الدَّموي .
يا راعي الغنم الذي يُوَقِّعُ على مرسومِ إعدامِ المرعى. أنتَ إلى المحاكمة حتى ولو كبَّلتَ القُضاةَ بالأغلالِ الدَّاميةِ . يا رئيسَ محكمة الإبادة الجماعية الذي ينزلقُ كالأوساخِ على أعلامِ القراصنة : لماذا اخترعتَ قوانين لرمي شرايين الشمس في أقبيةِ الفئران ؟. لماذا حوَّلتَ حديقةَ بيتنا في القريةِ إلى مقبرةٍ ؟ . لماذا لا تعترفُ بوجودِ الشَّعْبِ ؟ .
أصعدُ أنا والعنب من وهجِ نزيفِنا ، ونعانقُ ديكَ الصَّباحِ. ثم نَلُفُّ على نزيفنا حشائشَ الزُّقاقِ، وضوءَ الشُّموعِ . لم يجيء الجنودُ المهزومون كي ينقذوا قططَ الشوارع الذبيحة. فقد كانوا يُجرِّبون الأوسمةَ المعدنية لكي يعرفوا أي وسامٍ يتأقلم مع لون القميصِ ! .
صَلَّيْنا لله ، وتزامنت دموعُنا مع انطلاقِ الأدعيةِ من شُغافِ قلوبنا، وسجدت أوصالُنا في أرضنا النازفة ، وانطلقنا إلى الصَّباح . البابُ مفتوحٌ على نوافذ طُحالِ الزَّرافة . الهواءُ يتجدد رغم أطرافنا المتعفنة بعد قطعها بالموجِ ، وقيودي هي هي. ذراتُ الأكسجين تُطَوِّق قيودي من كل الجهات . ضوءاً كانت سيرتي . سيفاً لاهثاً في رِقابِ الطرق الرماديةِ عاشَ ثعلبُ الخديعةِ الذي يسلخون من خلاياه الفِراءَ لكي يصنعوا منه حقائب للسَّيداتِ اللاهثات في الموضةِ القاتلة .
تناهى إلى مسامعي ضجيجٌ مُنَظَّمٌ آخذٌ في الاقترابِ مني . وهو يأتي من جهةٍ لا أعلمها. إنه يتربص بي. ارتديتُ الحذرَ ، وارتكزتُ على الأرضيةِ بثباتٍ ، أُحَدِّقُ إلى الظلام ، أرقبُ صوتاً يأتيني. وما هي إلا برهةٌ منِ أخشابِ الأبانوس المكسورةِ حتى ظهر رجلٌ ذو تعابير قاسيةٍ ، متجهم الوجه ، يلبسُ بِطْرِيقَاً مشلولاً ، ويمسك قفصاً وسخاً مملوءاً بالعصافير الملونة .
قال لي : (( أنا السَّجَّانُ الجديد )) .
قلتُ : (( وأين السجان السابق ؟! )) .
لم أكن مصاباً بالحنين وقتئذ ، وإنما فضولٌ جارفٌ يغرقني في كومة قش مبلولة . السجان البديل موجود وجاهز لتلقي الأوامر .
فقال : (( ذَهَبَ . ولا تناقشني لكيلا تظن العصافير أننا أصدقاء نتجاذب أطراف الحديث ، وبالتالي أَفقد مكانتي الاجتماعية في مملكة الحطب الديمقراطية )) .
ولَمَّا وصلَ عند آخر كلماته انقطع نَفَسُه كما لو كان قد أنهى حراثةَ أرض ما . ثم أخذ يستكمل حديثه : (( أحضرتُ لك عصافير لتساعدك في الحفر إن أردتَ الهرب ، والآن سأغلق باب الزنزانة وأغادر )) .
رمى القفصَ عليَّ بوحشية ، فتدحرجت العصافيرُ على بعضها وعلا صياحها . ثم هَدأتْ وسَكنتْ . صَمتتْ أصابعي وهي تراقبه يغادر ، وقد فعل ما قاله بالضبط . لا أعلمُ ماذا يحدث في هذا المكان . تساءلتُ هل هذا انتحاري الرومانسي ؟ . هل هذا الشخص من شَعْبي ؟ . طرحتُ أسئلةً كثيرة ، وتمنيتُ لو معي أطفال الشوارع لنتباحثَ حول مفهوم الزنزانة في الوطن الضائع. نظرتُ إلى العصافير فإذا بها تتأمل في تفاصيلي، وخُيِّل إلَيَّ أنها تتعاون مع المخبِرين، فقد سَجَّلتْ ملاحظاتِها على أعمدةِ القفص.