الفن الشريف موقف وليس صفقة ( بين سلاف فواخرجي وأنجلينا جولي )
لا يمكن إنكار أهمية الفنون في إيصال الرسائل السياسية والاجتماعية . ومن أشد أنواع الفنون تأثيراً في الجماهير التمثيلُ، وذلك لأنه يستند إلى قوة بصرية واسعة الانتشار ، وقادرة على اختراق اختراق الحواجز، والوصول إلى كل البيوت دون عوائق. وقد انتبهت _ مبكراً _ السلطات السياسية في أنحاء العالم إلى خطورة هذا الفن البصري في توجيه قوى الشعب، وزرع الأفكار، ونشر الفلسفات الاجتماعية والمذاهب السياسية، لذلك اتَّجهت إلى احتضان نجوم التلفاز والسينما، واستيعابهم ، وتكريمهم ، ومنحهم الأوسمة والرتب الشَّرفية العليا ، وجعلهم من عِلية القوم بسبب إمكانياتهم الهائلة في التأثير داخل مجتمعاتهم . فالمؤسسةُ الحاكمة في كل دولة تنظر إلى الممثلين كأدوات يمكن استخدامها لتثبيت دعائم الحكم، وكسب تعاطف الناس، واستقطاب المؤيِّدين ، وتوجيه الرأي العام .
وقد رأينا منذ بداية الثورة السورية حرص الرئيس السوري بشار الأسد على الالتقاء بالممثلين، وإبراز صورته بينهم في وسائل الإعلام ، وذلك لاختراع هالة من الإعجاب وتوظيف شعبيتهم لصالح وجوده وزيادة رصيده الشعبي، وتلميع صورة النظام . وما وجود الممثلة السورية سلاف فواخرجي إلى جانبه إلا محاولة لاستقطاب الرأي العام . فهناك قاعدةٌ في علم النفس تسمى قاعدة الاقتران ، وتقول إنه إذا اقترن شيء بشيء آخر محبَّب للنفس صار الشيءُ الأول محبَّباً للنفس .
وقد قرأنا تصريحاتٍ للممثلة سلاف فواخرجي داعمة للرئيس الأسد وواثقة بقدرته على قيادة مسيرة الإصلاح والخروج من البلاد من المأزق ، وكل هذا يأتي في سياق التلميع الإعلامي لنظام دموي ، وتجميل وجه الدولة البوليسية ، ومحاولة لرش السُّكر على الموت ، وذر الرماد في العيون .
وقد سبق أن استخدمَ نظامُ الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي هذه اللعبة لحشد التأييد الشعبي . وقد ذكرت الممثلة التونسية هند صبري أنه تم إرغامها على توقيع عريضة تطالب الرئيس التونسي المخلوع بالبقاء لفترة رئاسية جديدة. وهذا الأمر يشمل العديد من نجوم التمثيل والغناء. وبالطبع فهذه ليست حركة عفوية ساذجة من قبل النظام السياسي ، بل إنها أمرٌ تم حبكه يعتمد على توظيف الفن لتحقيق أغراض سياسية . وهذه اللعبةُ مارسها نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك ، فقد نزل إلى ميدان التحرير عدة نجوم ، وطالبوا الشباب بالرجوع إلى بيوتهم . وهذه رسالة سياسية مرَّرها النظام السياسي إلى مشاهير الفن لثني الجماهير عن ثورتهم . فلا يمكن تفسير نزول المطرب تامر حسني وغيره ومطالبتهم بعودة المحتجين إلى بيوتهم بأنها جاءت بمحض الصدفة أو سوء الفهم . وللأسف الشديد فقد نجحت الأنظمةُ العربية القمعية في تدجين غالبية نجوم الفن وتوظيفهم وتمرير الرسائل السياسية من خلالهم .
ولكن على الجهة المقابلة نجد أن الممثلين الأجانب يتمتعون بقدرة فائقة على الحراك الاجتماعي ومعارضة أنظمة الحكم وبث الأفكار التي يؤمنون بها دون إملاء من أحد. وهذا طبيعي في ظل أنظمة ديمقراطية تحترم شعوبها ، ولا تقدر على تجاوز حركة الجماهير أو الاستخفاف بهم . فالممثلُ الأمريكي جورج كلوني قد تبنَّى قضية دارفور ، وجعلها من أهم أولوياته ، لكننا لم نسمع أن الممثل عادل إمام _ مثلاً_ بما له من شهرة قد فكَّر بزيارة الجارة السودان أو السؤال عن أهل دارفور أو أهل غزة، بل على العكس ، فقد كان عادل إمام يُحرِّض ضد المقاومة في غزة ، ويسير في ركب النظام المصري المخلوع الذي أحكم الحصار على القِطاع .
وعندما تقوم الممثلة العالمية أنجلينا جولي بزيارة اللاجئين السوريين في تركيا وتفقد أوضاعهم الصعبة ، فإنها تعطي درساً لكل النجوم العرب الذين يسيرون في ركب الأنظمة الحاكمة ، ويعيشون في عوالم الأحلام . فهل فكَّرت السيدة سلاف فواخرجي بتفقد أحوال أهل بلدها بدلاً من تلميع صورة النظام البوليسي ؟ . وما شعورُها حينما ترى ممثلةً أمريكية تأتي من وراء البحار لتقوم بمهمة إنسانية كان على نجوم سوريا أن يقوموا بها ؟! .
وقد يقول قائل إن الممثلين السوريين محاصَرون ضمن دائرة حكومية قمعية، فلا يقدرون على تبني قضايا الحرية والعدالة ونقد النظام السياسي خوفاً من اضطهادهم وتعريض حياتهم وأُسرهم للخطر. فنقول إن دماء مشاهير الفن ليست أعظم من دماء الشعوب الثائرة التي تُضحِّي بحياتها في سبيل حريتها. فهؤلاء النجوم عليهم أن يساهموا في قيادة حركة الجماهير نحو التحرر لا العبودية . فالفنُّ الشريف هو موقف، وله ضريبة ينبغي دفعها. وهذا ليس كلاماً إنشائياً في الهواء. فهذا المعنى جسَّدته الممثلة المصرية فاتن حمامة واقعاً ملموساً، وقد دفعت ثمن مواقفها السياسية المعارضة ، مما اضطرها إلى مغادرة مصر عام 1966م لكي تظل عصيةً على التدجين . والكثيرون أَبوا أن يكونوا أبواقاً جوفاء، وقد دفعوا ثمن مواقفهم ، لأن الفن _أولاً وأخيراً_ هو التزام فكري أخلاقي وليس صفقة انتهازية .