وُلد عالِم الاجتماع
الألماني ماكس فيبر ( 1864 _ 1920 )في
مدينة إرفورت في ألمانيا ، في وسط عائلي بروتستانتي من الطبقة الثرية . عائلته
كانت كبيرة وتحوي صناعيين مختصين بالنسيج ، بالإضافة إلى موظفين كبار وأساتذة جامعيين
. وكان والده أحد الأعضاء المهمين في الحزب القومي الليبرالي ، وهو حزب المثقفين
والطبقة البرجوازية .
نشأ فيبر في بيت عِلم وسياسة وفكر. ومنذ
شبابه الباكر راحَ يقرأ كبار الفلاسفة من أمثال ماركس، ونيتشه، وهيغل، وكانت . كان
قارئًا نهمًا يحب المطالعة كثيرًا . أحبَّ التاريخ، والفلسفة، وعِلم اللاهوت،
والجماليات. ثُمَّ واصلَ دروسه في كلية الحقوق والاقتصاد، وراحَ يُحضِّر أطروحة
جامعية
عن المجتمعات التجارية في القرون الوسطى . وبعد أن ناقش هذه الأطروحة أمام كبار
الأساتذة ، وبحضور حشد من الطلاب، منحوه شهادة الدكتوراة بدرجة الشرف الأولى.
وبَدْءًا من ذلك الوقت راحوا ينظرون إليه على أنه أحد كبار علماء الاجتماع. ثم
عيَّنوه أستاذًا في جامعة فرايبورغ أولاً ( 1894)،وجامعة هايدلبرغ ثانيًا ( 1896)،
حيث درَّس علم الاقتصاد السياسي.
عانى من انهيار نفسي في عام 1898 ، أدى إلى
انسحابه من التدريس الأكاديمي ، إلا أن ذلك الانسحاب لَم يُؤثِّر على تدفق كتاباته
، وغزارة إنتاجه الفكري .
الفكرة الموحَّدة لديه كانت التركيز على
العلاقة المتبادلة بين التشكيلات القانونية والسياسية والثقافيه في جانب، والنشاط
الاقتصادي في الجانب الآخر. وفي عام 1904 أسَّس مجلةً سيكون لها دور في تطوير
نظريات علم الاجتماع لاحقًا ، وكان عنوانها " أرشيفات العلوم الاجتماعية
والعلوم السياسية " . ثُمَّ شارك عام 1910 في تأسيس الرابطة الألمانية لعلم
الاجتماع . وبعدئذٍ ، انخرطَ في العمل السياسي المحض ، وأصبح مُعارضًا سياسيًّا
للإمبراطور غليوم الثاني ، وعُضْوًا فاعلاً في الحزب الاشتراكي الديمقراطي
الألماني . شارك بعد الحرب العالمية الأولى كعضو في الوفد الألماني إلى مؤتمر
السلام الذي انعقد في فرساي عام 1919. وقد طلبت منه السُّلطات بعدئذٍ بَلْوَرة
دستور جديد للجمهورية الألمانية . ثُمَّ قدَّموا له كرسي عِلم الاجتماع في جامعة
ميونخ عام 1918. ولكنه مات بشكل مفاجئ عام 1920 .
لَم يحترف فيبر علم الاجتماع إلا قبل وفاته
بعامين، وقد تُوُفِّيَ قبل أن يُتم كتابه الأساسي الذي يدخل في ميدان النظرية
الاجتماعية ، وهو " الاقتصاد والمجتمع " ، لذلك كانت إحدى المهام الصعبة
في عام 1922 ، هي جمع شتات هذا المؤلف بعد أن تركها فيبر في صورتها المبدئية .
وهكذا لَم يصل إلى السِّتين مِن العُمر ، ولكنه ترك بصماته الكبرى على علم
الاجتماع، وأصبح أحد كبار الثلاثة المؤسِّسين له ، أي : كارل ماركس ، إميل دوركايم
، ماكس فيبر .
كانت دراسات فيبر الأولى عن شركات التجارة
في العصور الوسطى ، والمجتمعات الزراعية لروما وأوروبا الغربية، وعن سوق الأوراق
المالية في ألمانيا. لكن اهتمامه بالدين قاده إلى إجراء دراسات مُعمَّقة في
الديانات البوذية، والكونفوشية، والهندوسية، والتاوية، واليهودية القديمة، فقارنَ
قيم هذه الديانات بالمسيحية الأوروبية، ولاحظ أن البروتستانتية وخاصة الكالفنية تُشجِّع المبادرات
الفردية واكتناز رأس المال ، وبذلك يَقتنع الفرد أنه بتحقيق النجاح الاقتصادي يحظى
بحب اللَّه . كوَّنت هذه الفكرة أساس كتابه الشهير"الأخلاق البروتستانتية
وروح الرأسمالية " ( 1905). وقد أشار فيه إلى أن الدين عامل غير حصري في
تطوُّر الثقافة في المجتمعات الغربية والشرقية ، وكيف أن الأخلاق البروتستانتية
ساعدت في تكوين الرأسمالية الجديدة ، وأن البروتستانت أغنى من الكاثوليك. وفي عمله
الشهير أيضًا "السياسة كمهنة" عَرَّفَ الدولة على أنها الكيان الذي
يحتكر الاستعمال الشرعي للقوة الطبيعية . وأصبح هذا التعريف محوريًّا في دراسة عِلم السياسة. مَيَّزَ فيبر
بين ثلاثة نماذج مثالية للسُّلطة ، تعتمد على تصوُّرات مختلفة للشرعية، هي :
السُّلطة الْمُلْهَمَة ( الكاريزما ) ، والسُّلطة التقليدية ، والسلطة القانونية .
اشْتُهِر فيبر بأنه أحد المفكرين الذين انهمكوا في تحليل ظاهرة الحداثة وكيفية
نشوئها وتشكلها وسيطرتها على المجتمعات الصناعية المتقدمة. ولذلك فإن أي مثقف
معاصر يريد أن يتحدث عن الحداثة ، مُضطر للعودة إلى ما كتبه فيبر عنها من تنظيرات
وأطروحات . والسؤال الذي كان يطرحه فيبر هو: لماذا ظهرت الحداثة العلمية
والتكنولوجية والبيروقراطية في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية فقط ؟. بمعنى
آخر:لماذا تطوَّرت العقلانية في هذه المنطقة من العالَم أكثر مِمَّا حصل في سواها
؟ . والحداثة تعني عَقْلنة العالَم ، أي دراسته بشكل عِلمي، موضوعي، عقلاني ، لا
بشكل غَيْبي . وهنا يكمن الفرق بين مجتمعات الحداثة والمجتمعات التقليدية. فهذه
الأخيرة تُسيطر عليها الرُّؤيا القديمة المليئة بالخرافات والأساطير.ثم جاءت الحداثة
فتبخَّرت كل هذه الأساطير والخرافات.