وُلد الفيلسوف
الأمريكي من أصل ألماني ليو شتراوس ( 1899_ 1973 ) في مدينة كيرفهاين في ألمانيا
لأبوين يهوديين
مُتَدَيِّنَيْن . هاجر
لاحقًا من ألمانيا إلى الولايات المتحدة. وقضى معظم حياته العملية كأستاذ في
العلوم السياسية بجامعة
شيكاغو، حيث علَّم عِدَّة أجيال من الطلبة، ونشر خمسة عشر كتابًا . يعتبره البعض الملهِم لأيديولوجيا المحافظين الجدد ،
التي تسود داخل الحزب الجمهوري الأمريكي . تعمَّقَ شتراوس في فلسفة كانت ، برفقة
إرنست كاسيرير ، ودرس أعمال فلاسفة الظواهر مِثل: هوسِّرل وهايدغر. وفي فترة
لاحقة، ركَّز شتراوس دراساته على النصوص اليونانية لأفلاطون وأرسطو،
مُتَتَبِّعًا آثارهم في الفلسفة
الإسلامية واليهودية، وحضَّ
على تطبيق أفكارهم في النظرية السياسية المعاصرة .
عاش شتراوس في عزلة طويلة ، وأمضى وقتًا
طويلاً داخل المؤسسات الأكاديمية في أمريكا
الشمالية،ورغم
ذلك فقد كان يُعلِن بصراحة شديدة كراهيته للديمقراطية الليبرالية على حَد سواء
. وقد حاول أتباعه كثيرًا إخفاء هذه الحقيقة ، والحقيقة أن الصورة التي تَمَّ
رسمها لشتراوس باعتباره وطنيًّا أمريكيًّا يعشق الحرية هي صورة وهمية ، وبعيدة عن
الحقيقة .
كان شتراوس يميل بقوة نحو السِّرية ، لأنه
كان يؤمن بأن الحقيقة قاسية جدًّا بحيث لا يمكن لأي مجتمع أن يتحمَّلها، وأن أنصار
الحقيقة سوف يتعرضون للاضطهاد من جانب المجتمع وبخاصة المجتمعات الليبرالية، لأن
الديمقراطية الليبرالية أبعد ما تكون عن قول الحقيقة،كما يراها شتراوس.
ينظر شتراوس إلى الفلسفة
السياسية باعتبارها نسقًا مِعياريًّا . وهذه المعيارية تنبع مِن
كَوْن الفلسفة تُمثِّل القول
العملي لِمَا ينبغي أن يكون عليه الإنسان ، وذلك عندما يُدبِّر شأنه السياسي.
ويجعل شتراوس مفهوم الفضيلة هو مدار
الفلسفة السياسية التقليدية، وما سِواها ليس بفلسفة سياسية معيارية، ما دامت لا
تجعل الفضيلة الغاية الطبيعية للإنسان . ويُشخِّص شتراوس الأزمة السياسية للحداثة
في أزمتين : الأولى _ اختزال المشكلة السياسية والأخلاقية في المشكلة التقنية.
والثانية _ اصطناعية مفهوم الطبيعة لدى الْمُحْدَثِين ، مِمَّا حَوَّل الطبيعة
لأداة للسيطرة ، ومُعبَّأة بالفوضى، بدلاً مِن كَوْنها نظامًا ، وذلك كان عن طريق
كسر هَيْمنتها على الإنسان بالعلوم الطبيعية التي اخترعها الإنسان نفسه .
ركَّز شتراوس أبحاثه على الفلسفة السياسية
ما قبل الحديثة ، من اليونان ، مرورًا بالفارابي وابن ميمون حتى العصر الحديث .
ووصل إلى قناعة مُفادها أن أزمة الحداثة هي أزمة الفلسفة السياسية، لكن الفلسفة
السياسية في نظره ليست موضوعًا أكاديميًّا ، لأن معظم فلاسفة السياسة الكبار لَم
يكونوا أكاديميين .
والفلسفة السياسية هي التي تُعطي المعيار
لأحكام القيمة تقليديًّا . ولكنها حداثيًّا ، صارت محصورة بالأحكام الواقعية ،
مِمَّا جعلها تفقد حِسَّها المعياري . لذلك فإن الأزمة الحديثة في عُمقها "
تكمن في واقع كَوْن الإنسان الغربي الحديث لَم يعد يفهم ما يُريد،ولَم يعد يعتقد
أن بإمكانه أن يعرف ما هو خير وما هو شر ، وما هو صحيح وما هو خطأ " .
أي إن أحكام القيمة لَم تعد في مُستطاع
الإنسان الغربي ، وأصبح الحكم الواقعي فقط ما يستطيعه . وهذا _ وَفْق منظور شتراوس
_ هو في جوهره أزمة الفلسفة السياسية الحديثة، وليس مُجرَّد مشكلة تقنية صغيرة .
اعتبرَ شتراوس أن منشأ الحداثة ومأزقها
وانتهاءها سياسي بالأساس، وليس معرفيًّا حصرًا ، وأن العالَم ما قبل الحديث كان
يُواجه إشكالاً في الغرب يتعلق بالمأزق اللاهوتي السياسي ، وكيفية إدراة المجتمع
وتحقيق سياسات أكثر ارتباطًا بتحقيق الرفاه والتقدم .