وُلِد الروائي الفرنسي
مارسيل بروست ( 1871_ 1922) في باريس لعائلة غنية . وكان والده طبيبًا ناجحًا مِن
أسرة كاثوليكية محافظة . كانت طفولته سعيدة ومصدرًا من مصادر أعماله الأدبية
لاحقًا . أُصِيب بأول نوبة رَبْو قاسية، وهو في التاسعة من عمره ، وسيطرَ عليه المرض
طيلة عُمره . وكان لأمه المثقفة فضلٌ كبيرٌ عليه ، فأحبَّ المطالعة ، وكان أبوه
يأمل أن ينتظم ابنه في السلك الدبلوماسي بعد دراسة الفلسفة .
نشر بروست في بداية شبابه كتاب "
الملذات والأيام " ، مع مقدمة بقلم أناتول فرانس ، ثم ترجم لشاعره المفضَّل
راسكن عن الإنجليزية . وقام بتأليف رواية _ نُشِرت عام 1952_ بعنوان " جان سانتوى " ، وفيها تتَّضح ميول
الكاتب وانطباعاته وأفكاره الشخصية .
كانت وفاة أبيه عام 1903 ، ووفاة أُمِّه عام
1905 ضربةً قاسيةً له ، واشتدَّ عليه الربو ، وحاصرته الهموم والوساوس ، فابتعدَ
عن الناس ، واعتزلَ المجتمع ، وجلس في غرفته ، عاكفًا على روايته"البحث عن
الزمن المفقود"، إلا أنه لَم يجد ناشرًا للجزء الأول منها " جانب منزل
سوان " ، واضْطُر إلى نشره على نفقته الشخصية ، إلا أن الكتاب لَم يتم تقديره
، وكانت الحرب العالمية الأولى قد اندلعت ، وحالت دون نشر تتمة الرواية ، فاستغل
الفرصة لإعادة كتابتها والنظر فيها، وقبلت أخيرًا " دار غاليمار " أن
تنشر الرواية كاملةً . وفاز الكتاب بجائزة " غونكور " الأدبية ، وكانت
بداية المجد الذهبي . كان هذا في عام 1919 ، أي إنه لَم يبقَ مِن عُمر بروست سوى
ثلاث سنوات، أنهى فيها الفصول المتبقيةَ من الرواية المتعددة الأجزاء، وكانت هذه
السنوات سباقًا مع الموت . استخدم بروست كامل قُدراته وكُل عبقريته لإنهاء الرواية
، وكان أعجب وأروع ما قام به أنه أرجأ مشهدًا منها، يُصوِّر فيه احتضارَ ( بيرغوت
) _ أحد أبطال روايته _ إلى وقتٍ
يشتدُّ فيه مرضه، على نحوٍ مُماثلٍ لِمَا يُعانيه المحتضر فِعلاً، لينقلَ هذا
الوصفَ إلى مكانه من الرواية. استطاعَ بروست في رواية " البحث عن الزمن
المفقود" أن يُمْسِك بالزمن الضائع المتمرِّد ، ويحبسه لفترة محدودة ، ويتغلب
عليه . وكانت هذه الرواية نقدًا جارحًا وصريحًا للمجتمع الأرستقراطي والبرجوازي في
عصره .
يَعتبر بروست أن عَظَمَة الفن والإبداع
تتجلَّى في البحث عن الحقيقة العَصِيَّة الممتنِعة، التي تواكب الحياة، طَيِّعَةً
ميسورةً . وهذا يحتاج إلى بحث دائب .
استخدم بروست في روايته " البحث عن
الزمن المفقود " أسلوبًا خاصًّا مُتميِّزًا ، ينسجم مع تسلسل خواطره وأفكاره
وصُورَه وتداعيها . فالْجُمَل متشعبة ، مشحونة بالفواصل والأقواس ، وطويلة ،
ومُتنامية ، ومليئة بالتشبيهات .
وقد
استفادَ عِلمُ النفس من بروست فائدةً جليلة ، فقد استحدثَ أسلوبًا جديدًا في
التحدث عن الشعور واللاشعور . وكثيرٌ من النقاد يَرَوْنَ أن بروست قد تأثر
بالفيلسوف هنري برغسون تأثرًا بالغًا_ وكان بروست مُعْجَبًا به أشد الإعجاب _ ،
وأنه يُطبِّق في روايته أفكارَه الفلسفية تطبيقًا مُبْدِعًاً فَنِّيًّا،
فالتداعيات اللاإرادية التي تسوق الماضي الدفين في أعماق الذاكرة ، ودروبُ الحدس
المتشعبة في اللاشعور ، وتنامي الشخصية وتطوُّرها ضمن الزمن ، وقصور الذكاء وعجزه
عن معرفة الحياة وسبر أغوارها . كل هذه الموضوعات تظل متلائمةً ومُتناغمةً بين
فلسفة برغسون ورواية بروست .
بدأ
بروست كتابة روايته " البحث عن الزمن المفقود " عام 1909، ضمَّت سبعة
أجزاء ( مجلدات ) ، وتتوزع على 4300 صفحة ، وتحتوي على مليون ونصف المليون كلمة ،
وعدد شخصيات الرواية 2000 شخصية .
وبسبب
هذه الرواية ، وَصف غراهام غرين بروست بأنه " أعظم مؤلف في القرن العشرين
" . أمَّا سومرست موم فقد وصف الرواية بأنها " أعظم عمل خيالي "،
رغم أن بروست مات دُون أن يتمكن من إنجاز النسخة النهائية من الرواية، وتركها على
شكل مسودات . وقد راجعها أخوه روبرت ، ونشرها بعد وفاته .