وُلد عالم الاجتماع
الفرنسي مارسيل موس ( 1872 _ 1950 ) في إبينال ، مدينة صغيرة شمال شرقي فرنسا .
بدأ تعليمه الأولي فيها ، ثم انتقل إلى مدينة بوردو ، حيث واصل دراسته الجامعية في
الفلسفة . ثم انتقلَ إلى باريس ، وانخرط بشكل فعَّال في الحياة الاجتماعية والمعرفية
والسياسية حتى وفاته . والجدير بالذِّكر أن مارسيل موس هو ابن أخت إميل دوركايم .
اهتمَّ موس
بموضوعات كثيرة دون أن يتعمَّق في البحث فيها ، إذ إن فضوله الفكري كان يحمله على
الانتقال من موضوع إلى موضوع بسرعة شديدة . لكن تلاميذه استأنفوا بعض أعماله غير
المنجَزة ، وأظهروا ما فيها من الخواطر السديدة والآراء الحصيفة . وينبغي القول إن
أعمال كلود ليفي شتراوس استفادت كثيرًا من بعض نصوص موس .
بعد أن حصل موس على التبريز في الفلسفة ، بدأ
في تأليف أطروحة عن الصلاة ، لكنه لَم يُكْمِلها
( جُمعت ونُشرت أجزاء منها ) . ثم شارك في تأسيس معهد الإثنولوجيا في باريس ، وعُيِّنَ أستاذًا
في الكوليج دو
فرانس ، ودرس على يديه كثير
من مشاهير العلماء الفرنسيين في مجال الفلسفة وعِلم الاجتماع .
لا يوجد لموس أي كتاب كامل من تأليفه، ولكنه
ألَّف مقالات كثيرة ، إمَّا مع علماء آخرين ، وإمَّا وحده . مِن أبرزها : في
تغيُّرات مجتمعات الإسكيمو حسب الفصول ( 1904) . رسالة في الهِبَة : أشكال التبادل
في المجتمعات البدائية وعِللها ( 1925 ) . تقنيات الجسد ( 1932) . الوطن ( 1954) ،
وقد نُشِر بعد وفاته .
قامت إحدى تلميذات موس بجمع مُدوَّنات
الدروس التي ألقاها موس في معهد الإثنولوجيا ، ونُشِرت تحت عنوان " موجز في
الإثنوغرافيا " ( 1947 ) . ومن تلك المواد المتفرقة ، يظهر بعض الاتجاهات
العامة في منهج موس .
والإثنولوجيا عِلم دراسة الإنسان ككائن
ثقافي ( الدراسة المقارنة للثقافة ) . أمَّا الإثنوغرافيا ، فهي وصف الأعراق
البشرية أو الناسية .
والإنسان _
حسب موس _ ظاهرة كُلِّية ، ينبغي أن تُدرَس
من كل زواياها وجوانبها لفهم كيف يبرز ويتموضع الفردي والجماعي . فالسباحة مثلاً ،
كغيرها من تقنيات الجسد ، لا يمكن فصلها عن المجتمع، إذ لا تتعلق بالجسد فقط ، بل
بطرق تعليم هده التقنية ، وهذا يتعلق بمؤسسات جماعية. ودراسة مثل هذه الظاهرة
تُخبرنا عن الطرق التي بها يندرج الفرد في المجتمع.كما أن مفهوم
الفرد نفسه ليس مُعطى طبيعيًّا أوليًّا، بل له تاريخ يتلاقى فيه الطبيعي والثقافي
والفردي والجماعي.
وفي رسالته في العطاء ، أثبت موس أن التبادل
لا يخضع للضرورات الاقتصادية فقط ، بل يُستعمَل لإنشاء علاقات دبلوماسية أو سياسية
أو قانونية ، كما أن له في بعض المجتمعات وظائف دينية وأبعادًا سياسية .
وبعكس ماركس الذي رأى عملية الإنتاج كأساس
المجتمع ، رأى موس أن التبادل هو أساس البنية الاجتماعية ، وإذا افترض البعض أن
التبادل يحدث فقط في السوق، فيشير موس الى وجود حياة كاملة من وراء السِّلع ،
وعمليات التبادل لا تقتصر على السوق ، إنما تشمل تبادل الهدايا أو الهِبَات في
المناسبات الاجتماعية والدينية وغيرها .
وهذه أمثلة معدودة لِمُقارَبة موس للظواهر
الاجتماعية ، ورفضه أن يحصرها في مجال علمي واحد ، إذ الإنسان حسب رأيه ظاهرة
كُلِّية لا تجوز تجزئتها .
كان موس من أوائل العلماء الذين اهتموا
بموضوع " الهِبَة " ، وركَّزوا على مكانتها داخل المجتمعات الإنسانية .
وقد سعى جاهدًا إلى الإحاطة بهذه الظاهرة من كل جوانبها الثقافية والاجتماعية
والدينية والسياسية. يقول موس في مستهل مقالته عن الهبة : (( تتم التبادلات
والتعاقدات داخل الحضارة الإسكندنافية ، وعدد هام من الحضارات ، على شكل هدايا ،
نظريًّا بطريقة اختيارية ، ولكنها في حقيقة الأمر إلزامية )) . ثم يطرح تساؤلاً
رئيسيًّا : (( ما هي القاعدة المبنية على الحق والمصلحة ، التي تُلزِم برد الهدية
المتسلَّمة لدى المجتمعات ذات النمط المتخلف أو البدائي ؟ . ما هي القوة الكامنة
داخل الشيء الموهوب ، والتي تجعل الموهوب له يردُّه ؟ )) . ويخلُص موس إلى أن
الهِبَة تُمثِّل ترابطًا لالتزامات ثلاثة : العطاء ، وقَبول العطاء ، والرد عليه
بإعادة الغرض نفْسه ، أو ما يُوازيه ، أو ما هو أثمن منه .
تساءل موس عن سبب ارتباط بعض المجتمعات
باقتصاد الهِبَة. وكانت الإجابة ذات أبعاد ثلاثة: 1_دور العلاقات الشخصية في
بَلْورة العلاقات الاجتماعية . 2_ تأمين العلاقات الاجتماعية لمصلحة الأفراد
والجماعات . 3_ اعتبار أن ما يُلْزِم
بالوَهْب كَوْن الوَهْب مُلْزِمًا .