وُلِد الروائي الفرنسي
لويس فرديناند سيلين ( 1894 _ 1961 ) في كوربفوا ، وتُوُفِّيَ في مودن ( الضاحية
الجنوبية لباريس ) . كان اسمه الأصلي ديتوش، لكنه حين صار كاتبًا استعار اسم سيلين
مِن إحدى قريباته ليجعله اسمه الأدبي .
درس الطب ، ولَم يكن يهتم بالأدب ، ومارسَ
الطب ، حتى وجد يومًا أن لديه من التجارب ما يحسُن به أن يَرويَه . وقد عبَّر في
كتاباته دائمًا عن موقف فاشي مع خليط من البؤس والعدمية والسوداوية . وفِكره العدمي يتميَّز بنبرة
من السُّخرية ، وأخرى من الملحمية في آنٍ واحد .
دخل الشهرةَ الأدبية من بابها الواسع بعد
نشره روايته الأولى" سَفَر إلى آخر
الليل"( 1932) حيث ينتقد بنمطه الأدبي الفريد رعب الحرب،وقسوة الرأسمالية، وإلى
حَدٍّ ما الاستعمار، من
خلال الشخصية الرئيسية للرواية " فرديناند باردامو " المستوحاة من
التجارب الشخصية لسيلين .
وهذه الرواية تروي قصة باردامو ، الطبيب
الفوضوي الهارب من كل شيء، الذي يُعبِّر عن نفور ويأس من الإنسانية ذاتها بهجائه
اللاذع للمجتمع وقيمه الزائفة . ولعلَّ موقف المؤلف هذا يُفسِّر التفكك في أسلوبه
، وفي استخدامه للألفاظ والصور السوقية بفظاظتها وفُحشها. ويرى بعضهم أن لهذا
الكتاب تأثيرًا واضحًا في عِدَّة كُتَّاب مِن أمثال جان بول سارتر وريمون كينو ،
وأن مُؤلِّفه كان رائدًا في أسلوب الكتابة ، الذي أُطلِقت عليه تسمية " الأدب
الأسود " .
نشره لمقالات مُعادية لليهود في
الثلاثينيات ، وتعاونه الفكري مع المحتل الألماني وحكومة
فيشي أثناء الحرب
العالمية الثانية ضد"الخطر
اليهودي على فرنسا " جلب له متاعب جَمَّة (قضائية، ومالية ، وإدارية ) بعد
الحرب . ووُسِم بالجنون والخيانة والقذارة . وفي الخمسينيات عاش سيلين وحيدًا مع
زوجته في ضاحية باريس، في عُزلة عن الدوائر الأدبية الباريسية حتى وفاته . ولكن
مِن دُون أن يُقلِّل هذا من قيمته الأدبية الكبيرة . وأيضًا ، لَم تمنعه عُزلته من
نشر ثلاث قصص : مِن قصر لآخر ( 1957 ) . شمال ( 1960 ) . ريغودون ( 1969 ) بعد
وفاته . حيث يروي من خلالها حيثيات فراره مع فُلول حكومة فيشي في نهاية الحرب، عبر ألمانيا ثم إلى الدنمارك . في
عام 1936 أصدر سيلين روايته " موت بالدَين " المكتوبة بالنهج ذاته،
وبالنظرة المتشائمة عَيْنها. ومع ذلك، ثمة في هذه الرواية وفي معظم رواياته الأخرى
مساحات شعرية واسعة، يُمضي القارئ فيها عبر بساتين الطفولة على أنغام موسيقى ناعمة
عذبة .
ومِن كتاباته الأخرى"كُلفة بخسة لقتل
بالجملة " ( 1938 ) ، و" مدرسة الجثث " (1938) التي أخذ فيها
موقفًا متشددًا من اليهودية العالمية ، التي رأى أنها تحاول السيطرة على مراكز
النفوذ في كل مكان . وقد يُوضِّح هذا المنحى في تفكير سيلين موقفه من الاحتلال
النازي لفرنسا عام 1940 ، والذي يجزم البعض بأنه تجاوز الالتباس إلى حد التعاون مع
النازيين.وصدر لـه في ظل الاحتلال كتاب " المواقف الحرجة " ( 1941)،
ورواية " فرقة غينيول" ( 1943 ) .
غادر
سيلين فرنسا مع انسحاب الجيوش النازية منها،وأقام لبعض الوقت في قرية سيغمارينغن
الألمانية،ثم لجأ إلى الدنمارك فأُودِع السجن فيها ، لكنه عاد في نهاية المطاف إلى
فرنسا عام 1951.
قدَّم سيلين في أدبه
صورة للإنسان مُغرِقة في التشاؤم . فقد رأى أن " الحقيقة في هذه الدنيا إنما
هي الموت " . ومِن ثَمَّ فهدف الإنسان هو النجاة بِجِلْده لا أكثر ، وكل
الوسائل مشروعة لكي يحافظ على بقائه ، بما في ذلك أكثر الوسائل اللاأخلاقية :
الكذب والخيانة والجبن . ولأننا لَم نختر أن نكون ما نحن ، وعلى ما نحن ، يتعيَّن
أن نقبل أنفسنا كما نحن ، فاسدين، ومنافقين، أنانيين، كاذبين ، وقبل وفوق كل شيء ،
جبناء بلا حدود " .
طرح
سيلين في وجه أصحاب اللغة الأدبية القَيِّمين على العبارة المصقولة الحسنة ، لغة
مُغايرة مُؤلَّفة من مصطلحات خاصة ، يتداولها اللصوص والسُّوقة والحثالة فيما
بينهم، بأسلوب مُفكَّك، إنما يفيض بابتكارات لفظية ، وكان بذلك أول كاتب حديث
انتهك الممنوعات في اللغة الأدبية، وداس على المحرَّمات في التعبير، فكتب "
كما يتكلم الناس" مُرتقيًا باللغة اليومية إلى المنْزلة الأدبية. إلا أن هذه
اللغة ، التي لا تتطابق مع أصول حُسن الكلام، والمحشُوَّة بالأخطاء والثرثرة، لغة
حية ناقلة للانفعال والإحساس .
لَم تكن كتابته نَسْخًا للغة المحكية كما هي
، بل كان يُخضعها للمُعالجة ويُفكِّكها ، وعندما لا يجد ضالته يخترعها ، ومِن هنا
تميُّزه .