وُلد الفيلسوف
الألماني مارتن هايدغر(1889_1976) في ماسكيرش، بادن، في جنوب ألمانيا. درس في
جامعة فرايبورغ، حيث تتلمذ على يد هوسِّرل، ثم صارَ أستاذًا فيها عام 1928 .
لا يوجد
فيلسوف أوروبي في القرن العشرين أفلتَ من تأثير هايدغر . وهذا يشير بوضوح إلى
مكانة هذا الفيلسوف في النسق الفلسفي الغربي . فما الذي جعله يتبوَّأ هذه المكانة
رغم كثرة القامات الفلسفية في أوروبا عبر تاريخها الطويل ؟. إن النقطة الجوهرية في
فكر هايدغر ، هي عدم تقليده للآخرين . لقد كانَ نفْسَه ولا شيء آخر، ولَم يَعبأ
بالنقد والاتهامات . فقد آمنَ بأفكاره الشخصية وفلسفته الخاصة ، ومضى في طريقه
وحيدًا نحو الهدف الذي رسمه بنفْسه، ووصل إلى أبعد نقطة ممكنة ، لأنه كان يعرف
مسارَه وهدفَه ، ولو كان مُتَرَدِّدًا لِمَا حقَّق أيَّ إنجاز. وكما قِيل: لا يذهب
بعيدًا مَن لا يَعرف إلى أين هو ذاهب . وهذا الأمر يُحسَب له بغض النظر عن طبيعة
أفكاره . وفلسفة هايدغر شديدة التعقيد والتَّشعب، وهي قائمة على ثلاثة أركان :
القلق ، الاغتراب ، الموت. ويمكن تبسيطها على النَّحو التالي : إنها فلسفة تقوم
على فكرتين مركزيتين : الوجود ( حياة الإنسان ) والعدم ( الموت ) . وضمن هذه الثنائية ، على الإنسان
أن يشعر بالقلق تجاه مصيره ، لأن نهايته الحتمية هي الموت. وهذا يعني أن القلق
الوجودي المسيطر على الإنسان هو الذي كشف معنى العدم ( الموت ) . وفي ظل هذه
المعطيات ، يبدأ الإنسانُ رحلةَ البحث عن وجوده وجدوى استمراره في الحياة . والقلق
في هذا السياق ليس شعورًا ، وإِنما قيمة فلسفية . إذ إِن سبب القلق هو الخوف على
الوجود من العدم . وبعبارة أخرى، الخوف على الحياة من الموت . وهكذا يتكرس القلقُ
الوجودي كجرس إنذار ، وأداة كاشفة لماهية العدم والفناء ، ومبدأ لإزالة القناع عن
وجه الإنسان ، وتعريته ، وتأكيد ذاته .
إن القلق
الوجودي في فلسفة هايدغر ، مؤشر واضح على أن الحياة لا معنى لها ، ولكن الإنسان
صاحب الحضور المركزي في هذا العالَم ، هو الذي يُعطي الحياةَ معناها ، ويَمنح
الشرعية والمعقولية للوجود . وبالتالي ، فالإنسان يصنع نفْسه بنفْسه ، ويصنع
عالَمه المحيط به ، ولا يمكن للإنسان أن يجد نفْسَه إلا إذا كان حُرًّا . وهكذا
تتجذر الحرية كمبدأ أساسي من مبادئ الفلسفة الوجودية. وعلى الجهة المقابلة ، يبرز
مفهوم الوجود الوهمي، حيث يعاني الإنسان من الاغتراب ، فيتقمص الآخرين ، ولا يجد
نفْسَه ، وهذه المرحلة تُمثِّل نوعًا من عدم الوجود .
والفلسفةُ
الوجودية تُشدِّد على أهمية القلق لخلاص الإنسان، وتخليصه من أزماته . لذلك فهي
تقف ضد الأشخاص الذين يرفضون تحمل مسؤولية القلق الوجودي ، ولا يريدون تأكيد
ذواتهم ، ولا يَطمحون إلى اكتشاف مواهبهم ، ولا يَتركون بصمة في حياتهم . وهؤلاء _
وَفْق المنظور الوجودي _ يَغرقون في نظام استهلاكي روتيني مغلق ، ويَبحثون عن
الراحة والرفاهية بعيدًا عن الأسئلة الوجودية والقضايا المصيرية . لذلك، فإن
الفلسفة الوجودية تعتبر الهروب من مسؤولية القلق هو نهاية الإنسان . وبما أن
الإنسان محكوم _ منذ ولادته _ بالموت ، فعليه أن يكتشف تفاصيل حياته بنفْسه،
ويستغل كل لحظة زمنية ، ولا يُضيِّع وقته في الأمور غير المفيدة . وهذا لا يتحقق
إلا بالبحث عن معنى الوجود والماهية الحقيقية للأشياء ، والتفتيش عن الوجوه لا
الأقنعة .
وقد أصابَ
التعقيدُ والتناقضُ فلسفةَ هايدغر وحياته الشخصية على حَد سواء . وهذا الأمر
اتَّضح بشكل مُبكِّر . إِذ إِن هايدغر بدأ حياته بدراسة علم اللاهوت ليصير كاهنًا
، ثم ابتعد عن هذا المجال ، ودرس العلوم الطبيعية ، وأخيرًا انتهى إلى الفلسفة.
والغريب في الأمر أن أهم إنجازات هايدغر يتجلى في إِبعاد الفلسفة الغربية عن
الأسئلة اللاهوتية والغَيبية ( الميتافيزيقية ) ، والتركيز على الأسئلة الوجودية
ومعنى الكَينونة ، وهو الذي بدأ حياته بدراسة علم اللاهوت القائم _ أساسًا _ على
المفاهيم الغَيبية .
ومن الأمور
الغريبة أيضًا ، انتماء هايدغر إلى الحزب النازي الألماني ، ورئاسة الجامعة في
العهد النازي. مِمَّا جعل كثيرًا من الباحثين يتهمونه بمعاداة السامية . وتزداد
الغرابة إذا عَلمنا أنَّ علاقة عاطفية كانت تجمع هايدغر " النازي " مع
تلميذته المفكِّرة حَنَّة أرِندِت " اليهودية " التي طاردتها النازية،
فهربت إلى فرنسا . وبين الأستاذ وتلميذته رسائل غرامية متبادلة ، وقد جُمعت في
كتاب صدر بالألمانية ، وتُرجِم إلى العربية . إنه العشق القاسي بين "
المعلِّم النازي " و" التلميذة اليهودية " في زمن صعود النازية .
تركَ هايدغر
أعمالاً فكرية كثيرة ، وتميَّز بتأثيره الهائل على المدارس الفلسفية في القرن
العشرين ، كالوجودية ، والتفكيكية ، وما بعد الحداثة . ورغم كل الانتقادات التي
وُجِّهت لهذا الفيلسوف ، إلا أنه بقي في قلب المشهد الفلسفي العالمي ، ولَم يَقدر
أحد على تحييده أو إقصائه .