وُلد الفيلسوف
النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين ( 1889_ 1951 ) في فيينا بالنمسا،
لأسرة ثرية ومثقفة . برزت عنده ميول أدبية وموسيقية منذ الصغر، شُغِف بالرياضيات والفلسفة .
غادر النمسا إلى إنجلترا بعد دراساته الأولى ، وانتسب لجامعة مانشستر عام 1908
طالبًا للهندسة . وفي عام 1911 ، كانت بداية حياته الفلسفية، إذ التحق بجامعة
كامبردج، وتتلمذ على يد كُل مِن برتراند راسل وجورج مور. ثُمَّ حصل على درجة
الدكتوراة عام 1929 عن كتابه " الرسالة المنطقية الفلسفية " الذي عُدَّ
عملاً فلسفيًّا أصيلاً، وصفه راسل بأنه"حدث مهم في عالَم الفلسفة"،
ونال فيه
شهرة واسعة . ومِن أشهر مؤلفاته " الكتاب الأزرق والبني "، وهو عبارة عن
محاضرات نشرها تلاميذه بعد وفاته، وكتاب " المباحث الفلسفية " ، وألَّفه
على مرحلتين . انتهى من القِسم الأول مِنه عام 1936 ، ومِن القِسم الثاني عام 1948
. ونُشِر عام 1953 بعد وفاته .
تنقسم حياته الفلسفية إلى فترتين . في
الأولى كتب رسالته المشهورة في المنطق " الرسالة " متأثرًا بنظرية راسل
" الذَّرية المنطقية " ، فحصر وظيفة الفلسفة بتحليل اللغة فقط، ورأى أن
هذه اللغة تخضع لجملة من القواعد المنطقية هي بمنزلة " الصياغة المنطقية للغة
" .
وفي الفترة الثانية ، بدأ فيتغنشتاين بنقد
" الرسالة" وتطويرها إلى "بحوث فلسفية"، وفيها رفض أي أثر
للفلسفة في تقديم تفسيرات للعالَم وما يَدور فيه . وعلى الرغم من التحول الذي طرأ
على أفكاره الفلسفية الأولى التي وردت في " الرسالة " الثانية ، فقد ربط
اللغة بالأنشطة الاجتماعية لا بالوقائع، وبقي متمسكًا بموقفه من أن الفلسفة تحليل
للغة بهدف إزالة الغموض عنها.ففي" الرسالة" ينظر فيتغنشتاين إلى الفلسفة
نظرة ضيقة بوصفها منطقًا للغةِ العالَم التجريبي، كما وتتبلور في لغة العِلم،
فَيُقدِّم نظرية عامة في توضيح علاقة اللغة بالعالَم ، يذهب فيها إلى أن المهمة
الأولى للغة هي تعزيز الوقائع، مفترضًا نوعًا من التقابل بين بناء " الجملة
" التي تُؤلِّف بُنية اللغة العادية ، وبين " الواقعة " التي تُشكِّل
بُنية العِلم . فالعالَمُ يتكون من مجموعة من الوقائع لا الأشياء ، التي يمكن أن
يُعبَّر عنها في جُمل لغوية، والواقعة هي الجملة التي يُمكن أن تُولِّد واقعة أخرى
أبسط منها ، أو تنحل بوساطة التحليل المنطقي إلى واقعة أخرى ( جملة أخرى ) أكثر
بساطة منها.والوقائع تنقسم إلى وقائع مُركَّبة ووقائع بسيطة، يُسمِّيها فيتغنشتاين
" الوقائع الذَّرية " ، وهي تُمثِّل الحد الذي تقف عنده عملية التحليل،
ومنها تتشكل الوقائع المركَّبة .
وهذه الوقائع هي وقائع لفظية رمزية ينتقل
فيها فيتغنشتاين من عالَم الوقائع الفعلية إلى عالَم الوجود اللفظي القائم على
العبارات الوصفية. هذا العالَم تتحول فيه صفات الأشياء إلى مجرَّد علاقات تقوم بين
الألفاظ والأسماء،شَرْط أن يُفهَم أن ما يعنيه بالاسم : تمثيل رمزي لموضوع بسيط هو
أشبه " بالنُّقط الرياضية "، ويكتسب معناه فقط عند دخوله في جملة أو
قضية تصف حالة الموضوعات في الواقع.واللغة في تعبيرها عن الروابط التي بين الأسماء
إنما تستحضر العالَم الخارجي، كما هو ماثل في الأذهان، وهذا الاستحضار يُسمِّيه
فيتغنشتاين " تصويرًا " أو " صورة الوقائع ". ولتوضيح ذلك يرى
أن القضية الأولية ، وهي جملة تتألف من أسماء لا تقبل التحليل إلى قضايا أخرى ، صورة للواقعة الذَّرية
التي تتكون من شيئين بسيطين يدخلان في علاقة مُعيَّنة، فإذا قِيل مثلاً إن "
القلم فوق الطاولة"، فإن هذه القضية تصوير لواقعة ذَرِّية تتألف من شيئين
هُما القلم والطاولة وعلاقة فوق. والقضية تُصوِّر لغويًّا الواقعة، وكيفية ترابط
عناصرها في الواقع .