سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

31‏/03‏/2021

جان بول سارتر ومأزق الوجودية

 

جان بول سارتر ومأزق الوجودية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.............

     وُلد الفيلسوف والأديب الفرنسي جان بول سارتر ( 1905_ 1980) في باريس.

     كان والده يعمل بالجيش ، ونشأت والدته في عائلة من المفكرين والمدرِّسين . لَم يتعرَّف سارتر إلى والده الذي مات بعد خمسة عشر شهرًا من ولادته ، ومع ذلك فقد كان حاضرًا من خلال جَدِّه. وهو رَجل ذو شخصية قوية ، قام بتربيته حتى التحق بالمدرسة العامة ، وهو في العاشرة من عُمره. اكتشف سارتر القراءة في مكتبة البيت الكبيرة ، وفضَّلها على مُصادَقة الأطفال في سِنِّه . وانتهت هذه الفترة السعيدة عام 1917 ، عندما تزوَّجت والدته بمهندس بحري ، كان سارتر يُبغضه كثيرًا . بدأ حياته العملية أستاذًا . درس الفلسفة في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية . وحِين احتلت ألمانيا النازية فرنسا، انخرط في صفوف المقاومة الفرنسية السرية . عُرف سارتر واشْتُهر لِكَونه كاتبًا غزير الإنتاج، ولأعماله الأدبية وفلسفته المسمَّاة بالوجودية ، والتحاقه السياسي باليسار المتطرِّف .

     لَم يكن سارتر مؤلفًا مسرحيًّا محترفًا ، وبالتالي فقد كانت علاقته بالمسرح عفوية طبيعية . وكان يفتقر إلى القدرة التي يتمتَّع بها المحترِف بالربط بين أبطاله . كما كان يفتقر إلى قوة التعبير الشاعري بالمعنى الذي يَجعل الْمُشَاهِد يُلاحق العمق الدرامي في روح البطل. وقد تميَّزت شخصياته بالانفصال عنه ، وبَدت وكأنها موضوعات جدال وحوار أكثر مِنها مخلوقات بشرية .

     تميَّزت موضوعات سارتر الدرامية بالتركيز على حالة أقرب إلى المأزق أو الورطة . ومسرحياته " الذباب " ، " اللامَخْرَج " ، " المنتصرون " تدور في غرف التعذيب ، أو في غرفة في جهنم . أو تحكي عن طاعون مصدره الذباب . وتدور معظمها حول الجهد الذي يبذله المرء ليختار حياته وأسلوبها كما يرغب ، والصراع الذي ينتج من القوى التقليدية في العالَم ، الذي يُوقع البطل في مأزق ، ويحاول محاصرته ، والإيقاع بِه ، وتشويشه ، وتشويهه . وإذا كان إدراك الحرية ووعيها هو الخطوة الأولى في الأخلاقية السارترية ، فإن استخدامه لهذه الحرية وتصرُّفه بها ( التزامه ) هو الخطوة الثانية . فالإنسان قبل أن يَعِيَ حُريته ويستثمر هذه الحرية هو عدم أو مُجرَّد شَيء ، أقرب إلى الأشياء مِنه إلى الكائن الحي . إلا أنه بعد أن يَعِيَ حُريته يُمسي مشروعًا له قيمته المميَّزة .

     في ستينيات القرن العشرين ، تدهورت صحة سارتر بسرعة . أحرقَ نَفْسَه من خلال نشاطه الأدبي والسياسي الزائد ، ومن خلال استهلاكه للتَّبغ والكحول بكميات كبيرة .

     وكان يوم 10 ديسمبر 1964 ، هو اليوم الأكثر دَوِيًّا في العالَم، عندما رفض سارتر جائزة نوبل للآداب ، فهو يعتبر أنه لا يستحق أي شخص أن يُكرَّم ، وهو على قيد الحياة . كما رفض أيضًا وسام جَوقة الشَّرف في 1945 ، وندوة في كوليج دو فرانس .

     كانت هذه التكريمات بالنسبة إليه تقييدًا لحريته ، لأنها تجعل من الكاتب مؤسسةً . وظلَّ هذا الموقف شهيرًا ، لأنه يُوضِّح مِزاج المثقف الذي يُريد أن يكون مستقلاًّ عن السُّلطة السياسية .

     بعدما وصل لآخر سنوات حياته ، اهتمَّ سارتر " بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي " . وكان يُندِّد بالأحوال المعيشية السَّيئة التي يعيشها الفلسطينيون ، " التي تُبرِّر اللجوء للإرهاب " ، مُعترفًا بشرعية " دولة إسرائيل " .

     وفي عام 1976 ، قبل سارتر تكريمًا وحيدًا في حياته ، وهو الدكتوراة الفخرية من جامعة أورُشليم العبرية ، وقد تلقَّاها من سفارة إسرائيل بباريس . لقد قَبِلَ هذه الجائزة فقط لأسباب سياسية ، " لخلق رابط بين الشعب الفلسطيني الذي أتَبَنَّاه وإسرائيل صديقتي ".

     تُوُفِّيَ سارتر في 15 أبريل 1980. وقد أثارَ خبر وفاته ضجة كبيرة . وفي 19أبريل 1980، هرع خمسون ألف شخص إلى شوارع باريس للسَّير في موكب الدفن ، ولإعطائه التكريم المناسب لشخصه .

     دُفن سارتر في مقبرة مونبارناس بباريس ( الحي 14) في 14 أبريل 1986 . ودُفنت عشيقته سيمون دي بوفوار لاحقًا معه في نفس القبر. وكُتب عليه" جان بول سارتر( 1905_ 1980) ، وسيمون دي بوفوار ( 1908_ 1986) " .

     مِن أبرز أعماله الفلسفية : التَّخَيُّل ( 1936) . تخطيط لنظرية الانفعالات ( 1939) . الوجود والعدم ( 1943) . الوجودية مذهب إنساني ( 1946) . نقد العقل الجدلي ( 1960).

     ومِن أبرز أعماله الأدبية : الغثيان ( 1938). الذباب( 1943) . الغرفة المغلقة ( 1944) .

30‏/03‏/2021

جاك لندن والصراع الطبقي

 

جاك لندن والصراع الطبقي

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.............

     وُلد الروائي الأمريكي جاك لُندُن ( 1876 _ 1916 ) في سان فرانسيسكو ، وعاش مع أُمِّه بعد أن هجرهما والده ، وكانت والدته مُدرِّسة موسيقى . وكان والده كاهنًا يمتهن التنجيم وقراءة الغيب، ولهذا يُعرَّف لُندُن في الأدبيات الاشتراكية والماركسية بأنه يتحدَّر من الشريحة البرجوازية الصغيرة ، ويعمل في خدمة الكادحين .

     تجرَّع لندن مرارة الحياة، وامتهن أعمالاً مختلفة، من صحافة، وعامل في المعامل ، والشرطة البحرية ، وقبطان سفينة ، وطالبًا ، ومُراسلاً صحفيًّا ، وعامل منجم وسواها .

     انضمَّ لندن إلى جماعة " الاشتراكيين العموميين " الذين شكَّلوا حلقات دراسية لدراسة بيان الحزب الشيوعي، وكتابات ماركس وكانت ونيتشه وسبنسر . كما انتدبته أحزاب ومنظمات اشتراكية لتمثيلها في أعمال المجالس البلدية، وشارك في اجتماعات الاشتراكيين في أمريكا بخطاباته الثورية. وقد مات بسبب الإجهاد الشديد والمرض والإدمان على الكحول والانهيار الروحي، وقد بلغ 40 عامًا ، ويقال إنه قد انتحر .

     يُركِّز لندن في كتاباته على أن الصراع الطبقي بين العمال والرأسماليين أمر لا بد منه، وهو يُروِّج طوال عمره للأفكار الاشتراكية ، والثورة العُمَّالية القادمة . وكان ينتقد باستمرار النظام الرأسمالي، ويفضح القوانين اللاإنسانية الجائرة ، ويفضح صفات الرأسمالية وجشعها اللامحدود .

     وكان يدعو إلى تجديد روح الاشتراكية دومًا، وإلى حماية البيئة وجمال الطبيعة الواهبة لسعادة الحياة وبهجتها . لقد تنوَّعت الثيمات في كتاباته التي اشتركت كلها في مُقارَبة مسألتَي علاقة الإنسان بالطبيعة، وعلاقة الفرد بالمجتمع .

     وقد كتب قصص مغامرات أبطالها حيوانات، مِثل : رواية " الناب الأبيض " ( 1905 ) . ويَعتبر لندن أن رواية " أهالي قعر المجتمع " من أفضل كتاباته، وهي قصة مكتوبة وفق المدرسة الطبيعية عام 1903، وتدور أحداثها في أحياء فقراء الصفيح في لندن.

     أمَّا رواية " القدم الحديدية " ( 1908 ) ، والتي جعلته مِن أكثر الكُتَّاب شعبية عند العُمَّال والكادحين والمثقفين ذوي الاتجاهات الاشتراكية ، فهي تصوير لمستقبل البشرية ، ورواية هادفة، تُمثِّل أحداثها ثورة المضطهَدين، ونضال العمال الدامي في أمريكا، وتُنبئ باقتراب ظهور الفاشستية في أوروبا .

     وهذه الرواية تُعتبَر اليوم إنجيل الاشتراكية والاشتراكيين . لقد صوَّر لندن فيها حتمية انتصار الاشتراكية وحتمية انهيار الرأسمالية ، والصراع الرهيب الذي لا بد أن يدور بين مُعسكرَي التقدمية والرجعية، والأساليب الجهنمية التي تلجأ إليها الرأسمالية في صراعها من أجل البقاء .

     يرى تروتسكي أن " القدم الحديدية " أفضل وثيقة توضح عملية تَشَكُّل الفاشية، ويعتبرها إطارًا تحليليًّا للمظالم التي تتعرض لها البشرية على يد الرأسمالية، وأن بطل الرواية يُمثِّل مصير البشرية كلها ، وهي تعاني في عصر عبادة الربح وفظاعة الاستغلال . وثمة نُقَّاد لا يستبعدون أن يكون الروائي جورج أورويل قد كتب روايته " 1984 " ، تحت تأثير رواية " القدم الحديدية " .

     أمَّا روايته " ذئب البحر " ( 1904 ) ، فهي رواية مُغامَرة نفسية ، تدور أحداثها حول ناقد أدبي ينجو من تحطم سفينته في المحيط ، ليتم إنقاذه ويقع تحت هيمنة وولف لارسن ، وهو قبطان سفينة قوي وعديم الأخلاق .

     لَم يكن لندن كاتبًا اشتراكيًّا يُدافع عن العدالة في سبيل مستقبل اشتراكي للبشرية فَحَسْب ، بل كان أيضًا مُبدعًا كبيرًا في قصص المغامرات والطبيعة والحيوانات أيضًا .

     وقد تركت كتاباته وأفكاره الثورية ومواهبه الإبداعية تأثيرًا عظيمًا على الأدب ، رغم التناقضات التي انتابته وأفكاره .

     تَمَّ اعتباره مُخَرِّبًا ومُعاديًا للديمقراطية الأمريكية ، ومُنعت كتبه من التداول، وصُودِرت من المكتبات العامة.

     ومعَ هذا، فإن الجميع بمختلف مشاربهم الفكرية والسياسية مُتَّفقون على أن لندن كاتب عظيم ومُبدع كبير، وظاهرة أدبية بارزة ظهرت في أمريكا في بدايات القرن العشرين .

29‏/03‏/2021

جاك لاكان والقراءة التفسيرية لفرويد

 

جاك لاكان والقراءة التفسيرية لفرويد

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...........


     وُلد المفكر والطبيب النفسي جاك لاكان ( 1901 _ 1981 ) في باريس ، وتُوُفِّيَ فيها . كانت أسرته غنية . اشْتُهِر بقراءته التفسيرية لسيغموند فرويد ، ومساهمته في التعريف بالتحليل النفسي الفرويدي في فرنسا في الثلاثينيات ، وبالتغيير العميق الذي أحدثه في مفاهيم التحليل النفسي ومناهجه . درس لاكان الطب ، وحصل على دكتوراة الدولة عام 1932 في أطروحة عبَّرت عن سَعْيه إلى الربط بين الطب النفسي والتحليل النفسي . وكانت بعنوان " ذهان البارانويا ( الذهان الهذائي ) من حيث علاقته بالشخصية " .

     خالطَ الأوساط الأدبية ولا سِيَّما السريالية منها ، وأسهمَ في عام 1938 في تحرير مجلد الموسوعة الفرنسية التي كان يديرها عالِم النفس هنري والون . انضمَّ في العام نفْسه إلى جمعية التحليل النفسي بباريس، ولكن اهتمامه بالحياة الفكرية خصوصًا في باريس استمر طوال حياته .

     وقد استطاع خلال الخمسين عامًا التالية أن يجمع إلى مُمارسته للطب النفسي قراءات واسعة  ومُدقِّقة في أعمال فرويد، وفي حقول الفلسفة والأدب واللغويات والرياضيات .

     وفي عام 1953 بدأ في إعطاء حلقات دراسية منتظمة في جامعة باريس ، أكسبته شهرة واسعة . ثُمَّ توطدت سمعته بعد نشر مقالاته في كتاب بعنوان " كتابات "  ( 1966 ) .

     تعرَّضَ لاكان طوال حياته الفكرية إلى أشد أنواع سوء الفهم وانعدام الثقة خاصة من قِبَل الأوساط الطبية النفسية التي مِن المفروض أنه محسوب عليها ، الأمر نفسه ينطبق على موقف الوسط الثقافي الفرنسي بشكل عام. وكذلك هي وجهة نظر زملائه في البنيوية ، وهذا ما يزيد الحيرة والإرباك في تقييم الخطاب النفسي الجديد الذي أسهبَ لاكان في عرضه كثيرًا . كان يتعمَّد أن يسلك هذا النوع من السلوك الغامض ، وبالتالي فهو قد ذهب مختارًا إلى حيث عزلته الخاصة وترفعه المفهومي عن سِواه، وعدم الاستعانة بالوضوح الديكارتي الذي اعتادت المدارس الفلسفية الفرنسية الأخذ عنه والاقتداء به . أعاد لاكان تفسير أعمال فرويد مُتَّكِئًا على علم اللغة البنيوي ، كما تطوَّر لدى دي سوسير وياكوبسون وغيرهما . وقد اعتبر اللاوعي بنية لغوية ، وأعاد تفسير الكثير من مقولات فرويد حول الغريزة الجنسية من زاوية اللغة، وعلاقة الدال بالمدلول عند دي سوسير . وإحدى أهم الإضافات التي قدَّمها لاكان في تحليلاته النفسية، اعتماده على اللغة بوصفها مرآة لـِ اللاوعي ، مِمَّا أثَّرَ بدوره في الدراسات اللغوية والأدبية .

     والشعار الأساسي الذي أعلنه لاكان يتلخص في عبارة "العودة الى فرويد" تلك العودة النظرية المهمة التي حدَّث لاكان آلياتها المعرفية من خلال التوكيد على منظومة اللغة في علاقتها باللاوعي ، واكتشاف أهمية "الدال" في قيادة الوعي الذاتي للشخصية الإنسانية ، والخروج بفرضية جديدة ، أطلق عليها " نظرية المرآة " أو جدلية النظرة والتَّشيؤ في المكوَّن النفسي للفرد .

     إن أسلوب لاكان جعل منه عصيًّا على الترجمة للغة الإنكليزية مثلاً،فضلاً عن اللغة العربية التي نُقلت له القليل من المقالات التي كُتبت بقلمه ، وعدد لا بأس به من المقالات التي كُتبت عنه . مِن المفروض أن أطروحات لاكان وأفكاره كانت جديرة بأن تجعل منه واحدًا من أهم مفكري العصر ، ومن الناهضين بالخطاب النفسي التحليلي . لكن لاكان أخفقَ في تحقيق ذلك ، وتدهورت سُمعته الطبية ، وتَمَّ التشكيك بعد ذلك في إخلاصه العلمي . مِمَّا دفع الرابطة الدولية للتحليل النفسي إلى اتخاذ قرار بتعليق عضويته وطرده منها في عام 1959 .

     تأثرَ لاكان تأثرًا عميقًا بالفيلسوفين الألمانيين هيغل وهايدغر ، ولكنه وجَّه اهتمامه إلى أعمال فرويد، فأعاد قراءتها وتفسيرها، وكانت له مداخلة مهمة في المؤتمر الرابع عشر لرابطة التحليل النفسي الدولية في مارينباد ، فقدَّم نظريته المغايرة عن مرحلة المرآة ، وقد طرحها بوصفها مرحلة من مراحل نشوء الطفل ، يمر بها الطفل من الشهر السادس لولادته إلى الشهر الثامن عشر. وتقوم على ما يُقيمه الطفل من اتحاد خيالي مع صورته المنعكسة على المرآة ، وما يرتبط بهذا الاتحاد من آثار معرفية تُسهِم في تطوُّر عالَم الطفل، وتُؤسِّس لتعرُّفه على نفْسه من حيث هو كائن مُتميِّز .

     التقى في عام 1949 كلود ليفي شتراوس ، وهو مِن رُوَّاد البنيوية ، فاطَّلعَ لاكان بفضل شتراوس على هذا العِلم ( البُنيوية ) ، وتبنى بعض أفكاره . يَفترض لاكان أن الأنا الأعلى هو " الرمزي "، مجال النظام والقانون ومكان الخطاب الأبوي، وأن الأنا هو المتخيَّل مكان الوهم والحقيقة، والتغيُّر، والْهُو ليس له مكان إلا مجازًا ، ويُطلِق عليه لاكان اسم الواقعي . أكَّدَ لاكان أهمية اللغة ودورها الرئيسي في تكوين الشخصية، وبوصفها مرآة اللاشعور،ورأى أن لـِ اللاشعور بنية لغوية بالدرجة الأولى ، وعنده أن جوهر اللغة لاشعوري ، وأن اللغة تُكوِّن منطلق اللاشعور وماهيته، وحاول إدخال دراسة اللغة في نظرية التحليل النفسي ، فموضوع التحليل النفسي هو اللاشعور،وينبغي أن يُدرَس كما تُدرَس اللغة في ضَوء علم اللسانيات، وقد انطلق في نظريته اللغوية من نظرية فرويد في اللاشعور، ولكنه أضفى على البنية اللاشعورية هذه طابعًا لغويًّا. ونظريته إجمالاً تآلف حَي بين علم النفس وعلم اللغة تحت شعار العودة إلى فرويد .

28‏/03‏/2021

جاك دريدا ونظرية التفكيكية

 

جاك دريدا ونظرية التفكيكية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.............


     وُلد الفيلسوف الفرنسي جاك دِريدا (1930 _ 2004 ) لعائلة يهودية في حي البيار بمدينة الجزائر . وفي سن العاشرة ، طُرد من المدرسة بعد أن أخبره أحد المعلمين بأن " الثقافة الفرنسية لَم تُصنَع لليهود القِلَّة " . ومِن ثَمَّ ذَهب إلى مدرسة يهودية . وفي التاسعة عشرة ، انتقل دريدا إلى باريس للدراسة في دار المعلمين العُليا،قبل أن يصبح مساعدًا للتدريس في جامعة هارفارد الأمريكية ثم في جامعة السوربون في باريس . وعُيِّنَ عام 1965 أستاذ فلسفة في دار المعلمين العُليا ، حيث شغل منصب مدير دراسات. وزاولَ ديريدا نشاطه التعليمي لفترة طويلة بين باريس وعدد من أبرز الجامعات الأمريكية منها جامعتا ييل وجون هوبكنز.التقى دريدا بسارتر،ولكن على المدى الطويل، كانت مجابهاته المبكرة ليست مع سارتر ، بل مع نيتشه وهايدغر اللذين كان لهما أكبر الأثر عليه . في أواخر الخمسينيات عَمل على أطروحة الدكتوراة عن هوسِّرل،ولكن هذا المشروع لَم يكتمل قَط،وشَرع في هذه الأثناء في استكشاف الطبيعة الغامضة لكل الكتابة حتى الفلسفية منها. ومِثله مِثل مُعاصريه القريبين في الحركة البنيوية وما بعد البنيوية _ التي كان ينتمي إليها بارت، لاكان، ألتوسير، فوكو _ كان دريدا تجسيدًا للفيلسوف المقاوم ، وتَمَّ تقديره لنقده الناسف للقيم السُّلطوية الكامنة في المقارَبة الأرثوذكسية للأدب والفلسفة . أمَّا بالنسبة إلى مُنتقديه، فقد كان عمله تافهًا، وغامضًا، ووهميًّا ، وحتى تخريبًا بشكل غريب .

     تميَّزَ ديريدا في حقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر ، بإدانته المتواصلة لسياسة فرنسا الاستعمارية في هذا البلد. وغادر الجزائر مع عائلته عام 1962 . وغالبًا ما كان يتحدث بعد رحيله عن الحنين إلى البلد الذي نشأ فيه .

     لَفت دريدا أولاً انتباهَ جمهور أوسع في نهاية 1965 ، عندما نَشر مراجعتين طويلتين لكتبٍ عن تاريخ وطبيعة الكتابة، في مجلة نقد، وشكَّلت هاتان المراجعتان عملَ دريدا الأساسي، ألا وهو كتابه " في علم الكتابة " . وفي عام 1967 ، ألهمه هذا الأمر أن يَضع مُقارَبته في قراءة النصوص في ثلاثة كتب، هي : " في علم الكتابة " ، و " الكتابة والاختلاف " ، و " الكلام والظواهر " ، والتي تضمَّنت دراسات مُطوَّلة لفلاسفة مِن أمثال جان جاك روسو ودي سوسير وهوسِّرل وهايدغر وهيغل وفوكو وديكارت. وكذلك كلود ليفي شتراوس، وسيغموند فرويد، والعديد من الكُتَّاب الأدبيين والمسرحيين . سافر دريدا على نطاق واسع ، وحصل على مجموعة من المناصب الزائرة والدائمة . فقد كان مديرًا للدراسات في كلية الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس . وشَارك رِفقةَ فرانسوا كاتليت وآخرين في عام 1983 في تأسيس الكلية الدولية للفلسفة، وهي مؤسسة تهدف إلى توفير موقع للبحوث الفلسفية . وانتُخِبَ رئيسًا أول لها .

     كان دريدا كاتبًا غزير الإنتاج ، فقد ألَّف أكثر من أربعين كتابًا . وهناك عددٌ من النزعات المهمة التي تكمن وراء مُقاربة دريدا للفلسفة، وبشكل أكثر تحديدًا للتقاليد الغربية للفكر. فمن خلال مُقارَبة سَمَّاها " التفكيكية "، افتتحَ دريدا بحثًا أساسيًّا في طبيعة التقليد الميتافيزيقي الغربي .

     يُعتبَر دريدا مُؤسِّس المذهب التفكيكي في النقد والفلسفة. وصلت شُهرته حَد العالمية لعمق أفكاره من جهة وصعوبتها، ما جعل منه عَلَمًا مِن أعلام القرن العشرين والتفكير ما بعد الحداثي .

     تتحدث نظرية دريدا " تفكيك البناء " التي لاقت رواجًا وأصداء واسعة في الولايات المتحدة والتي استندت إلى نصوص فلسفية كلاسيكية ، عن استقلالية المحتوى النصي الذي _ حَسَبَ هذه النظرية _ قد لا يفهمه كاتب النص نفْسه . واعتبرت النظريةُ التي أثارت جدلاً واسعًا أن الاحتمالات التأويلية للنصوص، والتي قد يَفهمها كل شخص بمفرده ، تدخل ضمن سياق المقاصد الأخرى للنص اللغوي ، بمعنى تفكيك المعنى الواحد إلى المتعدِّد المتفكِّك . وتشير هذه النظرية أيضًا إلى استخراجات نقدية للنص أيًّا كان في احتمالاته التأويلية. واجهت هذه النظرية معارضة كبيرة من مدارس البنيوية اللغوية، واعتبرها البنيويون اللغويون غير عقلانية ومُنافية للمنطق، ووصفوها بالسخيفة،واتهموها بالْمُبْهَمَة والغامضة . وفي بريطانيا لقيت نظرية دريدا أيضًا معارضة شديدة ، حيث قامت هيئة التدريس في جامعة كامبردج العريقة عام 1992 بمظاهرة احتجاج ضد قرار رئاسة الجامعة منح دريدا دكتوراة فخرية . كما اعتبره الماركسيون أحد أعدائهم لمواقفه المناهضة لهم، وكانت السلطات التشيكوسلوفاكية قد وَضعتْ دريدا رهن الاحتجاز عام 1980 ، على خلفية محاضرة له عن نظريته اللغوية في براغ .

     انتماء دريدا للهامش باعتباره يهوديًّا ، جعل أغلب دراساته تنصب على تفكيك المركزية الأوروبية، والانتصار لهذا الهامش بوصفه يكتسب مركزه "الأدنى" من موقع تقييم يمتلكه "المركز"، وهذا ما لا يراه دريدا صحيحًا.والكتابة لدى دريدا_ حَسَبَ أحد الباحثين _ ليست امتدادًا خيطيًّا، أو ترابطًا نصيًّا أو صيغة نحوية، بل هي معارك داخل الكلمات والجمل. وفي فضاء النص ثمة حالات حروب وانتقام بين الكلمات، مِمَّا يُتيح لها المجال للصراع، وكأن القلم هو مُحرِّك عرائس، وكأن الكتابة لعبة ومُمارَسة متناقضة أو متداخلة ، هذه هي حالة نص دريدا غير المكتمل دائمًا .

27‏/03‏/2021

السيطرة على التحولات الاجتماعية

 

السيطرة على التحولات الاجتماعية

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

............

   التحولاتُ الاجتماعية ليست عمليةً ميكانيكية خالية من المشاعر الإنسانية ، وليست إجراءً روتينيًّا يشتمل على منظومة السبب والنتيجة بدون وَعْي تاريخي أو تمهيد واقعي . إن التحولات الاجتماعية تتحرَّك وفق تراتبية معرفية منطقية ، لا مكان فيها للصُّدَف أو أنصاف الحُلول . وإذا لم يستطع الإنسانُ إيجادَ تفسير منطقي للأحداث ، فهذا لا يعني أن الأحداث عبثية . وإذا لم يَقْدِر المجتمعُ على تحليل الظواهر الرمزية المُسيطرة على سُلوك الفرد وتوجُّهات الجماعة ، فهذا لا يعني أن الصُّدفة هي القانون الحاكم على أنساق المجتمع . إن الأسباب والمُسبِّبات كامنة في الوجدان الإنساني والوَعْي الاجتماعي . واتحادُ الوجدان مع الوَعْي هو الذي يصنع الوجود الحقيقي للعناصر الفكرية في التاريخ والجغرافيا . وبما أن الوجود في حركة مُتواصلة، والطبيعة في صَيرورة مستمرة ، ولا مكان للفراغ والعدم في الواقع المُعاش ، فلا بُد من حدوث تحولات اجتماعية أُفقية وعمودية . الأُفقيةُ تتمثَّل في الحراك الاجتماعي ضمن مستويات زمنية تتعلَّق بالماضي والحاضر والمستقبل ، أمَّا العمودية ( الرأسية ) فتتمثَّل في الحَفْر المتواصل في طبيعةِ لغة الخطاب الاجتماعي ، ومركزيةِ الظواهر الثقافية ، والمعاييرِ الرمزية القائمة على الخلاص الفردي والمصلحة العامَّة ، وحالاتِ الوَعْي الجَمْعي ضمن أُطُر التفاعل مع الذات والآخَر . وهذا يعني أن التحولات الاجتماعية ليست تحصيل حاصل ، أو أمرًا مفروغًا مِنه ، ومتروكًا لحركة الزمن . إن هذه التحولات تُؤَثِّر في الزمن ، كما يُؤَثِّر الزمنُ فيها ، وهذا التأثير المُتبادل يُثبِت أنها تحوُّلات عقلانية ، يُمكن توقُّع مسارها قبل حدوثها على أرض الواقع . وكُلُّ حراك اجتماعي في الوجود يُمكن توقُّع مساره ، ومعرفة نقطة بدايته وغايته ، فهو حراك عقلاني مُنظَّم محكوم بقوانين منطق اللغة ومنطق المجتمع معًا . ومنطق اللغة يُوفِّر الشروطَ الفكرية لصناعة الفِعل الاجتماعي ، لأنه لا يُوجد فِكر بدون لُغة . ومنطقُ المجتمع يُحدِّد الخصائصَ العقلانية للتوازن بين صراع الإنسان معَ ذاته وصراعه معَ مُحيطه ، وكُل صراع ذهني هو علاقة فكرية ، لأن الفِكر هو صراع قناعات وعُقول ، وصِدام بين الحُجَج والبراهين . ولا يُوجد معنى بدون مُجتمع . وإذا كانت التحولاتُ الاجتماعية في طريق الإبداع والتطوير، فهي تحوُّلات إيجابية ، تحت سيطرة العقل الجمعي ، ويُمكن التحكُّم بها لصالح الخَير العام ، وتوجيه مسارها لإحداث نهضة حقيقية . أمَّا إذا خرجت هذه التحولاتُ عن الطريق الصحيح ، فإن المجتمع سيدفع ثمنًا غاليًا ، لأنه فقد السيطرةَ على أهم عناصره ، وصارَ لاهثًا وراء الأحداث ، تَقُوده ولا يَقُودها ، وتتحكَّم به ، ولا يتحكَّم بها ، وهذا هو الانتحار التدريجي في المجتمع ، حيث يَبدأ العَدُّ التنازلي لنهاية الحُلْم الاجتماعي في التقدُّم والازدهار ، وهذا يعني بالضرورة بداية ظهور الكوابيس . وإذا سيطرت الكوابيسُ على بِنية النظام الاجتماعي ، فلن يَشعر الإنسانُ بجدوى وجوده ، ولن يَعرف المجتمعُ مسارَه ومصيرَه . وإذا دخل العقلُ الجمعي في متاهة التحولات الاجتماعية الخارجة عن السيطرة ، فإن المجتمع سيخرج من التاريخ ، وتُصبح العلاقاتُ الإنسانية سِلعةً في مَوضع العَرْض والطَّلَب . وعندئذ ، يتحوَّل الإنسانُ من كائن حَي مُفكِّر إلى أداة وظيفية وشَيء هامشي ، ويتحوَّل المجتمعُ مِن كيان اعتباري له شرعية وجودية ورمزية حضارية ، إلى ساحة لتصفية الحسابات ، ورُقْعَة شِطْرَنْج يُحرِّك عليها الأقوياءُ أحجارَهم. وإذا وَضَعَ المجتمعُ مصيرَه في أيدي الآخرين،فلا بد أنهم سيلعبون به لتحقيق مصالحهم الشخصية. وما دام القِطارُ على السِّكة فهو تحت السيطرة، أمَّا إذا خرج عن السِّكة، فقد صارَ وحشًا قاتلًا خارج السيطرة.

26‏/03‏/2021

جاك بريفير والسهل الممتنع

 

جاك بريفير والسهل الممتنع

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.............

     وُلِد الشاعر الفرنسي جاك بريفير ( 1900 _ 1977 ) في نويلي سور سين ، ونشأ في باريس . حصل على شهادة الدراسة الابتدائية ، ثم ترك المدرسة ، وذهب للعمل في أحد المتاجر الكبرى في باريس .

     في عام 1918 ، تم استدعاؤه للخدمة العسكرية في الحرب العالمية الأولى . وبعد ذلك ، أُرْسِل إلى الشرق الأدنى للدفاع عن المصالح الفرنسية هناك .

     عندما كان بريفير في المدرسة الابتدائية ، كان في البداية يكره الكتابة . وفي سنوات شبابه ، انتسبَ إلى الحركة السريالية ، وارتبطَ بصداقات متينة مع رموزها مِن شعراء وكُتَّاب وفنانين تشكيليين وغَيرهم . إلا أنه رفض الانضمام إلى الحزب الشيوعي ، رغم إلحاح صديقه جورج سادول على ذلك . وفي عام 1930 ، تمرَّد على " دكتاتورية أندريه بريتون "، وكتب نَصًّا بعنوان " موت سَيِّد " ، أوضحَ فيه أسباب انفصاله عن الحركة السريالية .

     غالبًا ما تكون قصائد بريفير عن الحياة في باريس ، والحياة بعد الحرب العالمية الثانية . وقد اشْتُهِر بريفير في فرنسا والعالم الفرنكفوني ببساطة كلماته وسلاسة قصائده ، مِمَّا جعلها تُدرَّس بكثافة في المناهج الدراسية لتلك الدول، كما اشْتُهِر بكتابته للقصص القصيرة وسيناريوهات الأفلام . وتُرجِمت أعماله إلى عشرات اللغات.

     كان بريفير الشاعر الأكثر شُهرة بين شعراء عصره ، وكانت قصائده الأكثر انتشارًا على مستوى القُرَّاء . وقد تميَّزت بغنائية بسيطة وسلسلة ، لا تَخلو من العُمق والبلاغة .

     قامَ بعض المطربين الفرنسيين البارزين بغناء قصائد بريفير ، مِن بينهم : ماريان أوزوالد ، إيف مونتان ، وإديث بياف . بالإضافة إلى المطربين الأمريكيين لاحقًا : جوان بيز ونات كينج كول . وفي عام 1961 ، قامَ المغنِّي وكاتب الأغاني الفرنسي سيرج غينسبور بتكريمه في أغنية خاصة .

     كانت قصائد بريفير هي أساس الفيلم الوثائقي للمخرج يوريس إيفنز" السين الذي يلتقي بباريس " ( 1957 ) ، حول نهر السين.

     ارتبطَ بريفير بعلاقة عمل طويلة مع بول غريموت . وقد كتبا معًا سيناريوهات لعدد من أفلام الرسوم المتحركة ، بَدْءًا مِن "الجندي الصغير" ( 1947 ) . وعملا معًا حتى وفاة بريفير ، بعد صراع مرير مع مرض السرطان .

     والجديرُ بالذِّكر أن الشاعر السوري نزار قباني ( 1923_ 1998 ) قد سَطا على إحدى قصائد بريفير ، ونسبها إلى نفسه. فهناك قصيدة لنزار قباني بعنوان " مع جريدة "، وهذا نصُّها : (( أخرجَ مِن مِعطفه الجريدة / وعلبة الثقاب / ودون أن يلاحظ اضطرابي / ودونما اهتمام / تناول السُّكر من أمامي / ذَوَّب في الفنجان قطعتين / ذَوَّبني ذَوَّب قطعتين / وبعد لحظتين / ودون أن يراني/ ويعرف الخوف الذي اعتراني/ تناول المعطف من أمامي/ وغاب في الزحام / مُخَلِّفًا وراءه الجريدة / وحيدة / مِثلي أنا وحيدة)).

     وهذه القصيدة تتشابه إلى حَد بَعيد مع قصيدة بريفير ، التي هي بعنوان " غذاء الصباح"، وهذا نصُّها بعد الترجمة _ والترجمة ليست لي _ : (( وضع القهوة في الفنجان / ووضع الحليب في فنجان القهوة / ووضع السُّكر في القهوة بالحليب / وبالملعقة الصغيرة حَرَّكها / وشرب القهوة بالحليب / ووضع الفنجان / دون أن يُحدِّثني / وأشعل سيجارة / وجعل دوائر من دخان / ووضع الدخان في المِدخنة / ودون أن يُحدِّثني / وضع قبعته على رأسه / ووضع معطفه الشتوي / لأن السماء كانت ماطرة / ثم راح دونما كلمة / ودون أن يَرنوَ إِلَيَّ / وأنا أخذتُ رأسي بين يَدَيَّ / وبكيتُ )) .

     نُلاحظ التشابه الواضح بين القصيدتين. إذ إِن جَو النص واحد، وسيناريو القصيدة واحد، والأفكار في القصيدة واحدة. والقاعدةُ الأدبية تقول إِن اللاحق (نزار قباني) مُتأثِّر بالسابق (جاك بريفير)، وليس العكس. وهذه القضية تحدَّثَ عنها شعراء ونُقَّاد كثيرون ، وليست من اكتشافي الشخصي، لكني أريد تسليط الضوء على هذه القضية من أجل تحليلها وأخذ الدروس والعِبَر مِنها.

     إن الشاعر نزار قباني لديه إنتاج شِعري غزير، ويملك في رصيده الأدبي عشرات المجموعات الشعرية، فما الذي يجعله يَسطو على قطعة شِعرية قصيرة لشاعر فرنسي ؟! . لقد سقط نزار قباني في إغراء النَّص. فقد أغرته الكلمات البسيطة للشاعر الفرنسي، وأعجبه جو القصيدة البعيد عن التعقيد. وهذا الأمر أوقعه في الفخ الأدبي في بحثه عن صَيد جديد. وحُب الامتلاك لدى نزار قباني جعله يرتكب هذه الخطيئة الشِّعرية . والجديرُ بالذِّكر أن قيام المطربة اللبنانية ماجدة الرومي بغناء قصيدة نزار قباني، قد سَلَّطَ الضوءَ على القصيدة، وجعلَ الكُتَّابَ العرب المطَّلعين على الأدب الفرنسي يَكشفون هذه السرقة الواضحة، ويَعقدون المقارنات بين القصيدتين .

     مِن أبرز أعمال بريفير الشعرية: أقوال ( 1946 ). مشهد ( 1951 ). أضواء الإنسان ( 1955) . المطر والصَّحو ( 1955) . أشياء وأخرى ( 1972 ) .

25‏/03‏/2021

تيودور مومسن وإغراء التاريخ

 

تيودور مومسن وإغراء التاريخ

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..........

     وُلِدَ العالِم الألماني تيودور مُومسِن ( 1817 _ 1903 ) في مدينة غاردنغ في دُوقية شلسفيغ التي كانت خاضعةً للحُكم الدنماركي، وتُوُفِّيَ في مدينة شارلوتن بورغ .

     يصعب تصنيفه في مجال مُحدَّد بسبب تعدد مواهبه، وكثرة اختصاصاته. فهو كاتب وعالِم آثار وصحفي وسياسي ومُؤرِّخ.

     نشأ مُومسِن في أسرة مُثقفة ، فوالده قِس بروتستانتي مُتبحِّر في عِلم اللاهوت. وقد شَجَّعَ ابْنَه على مطالعة الكتب، والتعرف على الأدب الألماني، والاطلاع على النتاج الأدبي للكُتَّاب الأجانب مثل : شكسبير وبايرون وهوغو .

     درسَ الحقوقَ في جامعة كيل ، وتَخَصَّصَ في القانون الروماني ، وتعمَّقَ في دراسة فلسفة هذا القانون، وحصل على درجة الدكتوراة بامتياز عام 1834.وهذا جَعَلَه مرجعًا في القانون الروماني، وصار كلامُه حُجَّةً في هذا المجال .

     كانت فترة الدراسة من أخصب فترات حياته، حيث تزاملَ معَ أخيه تيكو ، والكاتب شتورم. ونشأت صداقة عميقة بين الثلاثة . وقد تجلَّت آثارُ هذه الصداقة في المجال الأدبي ، فنتجَ عنها عملان أدبيان مُشترَكان . الأول : مجموعة حكايات خرافية . والثاني : أغاني الأصدقاء الثلاثة. وقد نُشرا معًا عام 1843.وهذا يدل على أن حب التأليف كان مغروسًا في كيان مُومسِن مُبَكِّرًا .

     لقد كانت المشاركةُ في تأليف هذين الكتابَيْن الإنجازَ الأول ( الفِعْلي ) في حياة مومسن ، والخطوةَ الأولى في طريق الإبداع . أمَّا الإنجاز الثاني فهو حصوله عام 1844بسبب تفوقه على منحة عِلمية من ملك الدنمارك مدتها أربع سنوات لدراسة النقوش الأثرية الرومانية . وبما أنه اختارَ هذا المجال التاريخي الصارم ، فقد توجَّبَ عليه اختيار معهد الآثار في رُوما ليكون وَطَنَه الجديد ، ومُنطلقًا لأبحاثه ، وحاضنةً عِلمية لأفكاره .

     إن منهج مومسن الفكري التاريخي المتميِّز ما كان لِيَرى النور لَولا أربعة عوامل : 1_ استلهام فكرة العلاقة المتبادلة بين التاريخ والقانون من كتابات العالِم سافيني ، أحد مُؤسِّسي المدرسة التاريخية لدراسة القانون . 2 _ استخدام منهج أستاذه أوتو يان في قراءة النقوش القديمة . 3_ دراسة النقوش اللاتينية وَفْق مبادئ فقه اللغة التاريخي . 4_ العمل تحت إشراف العالِم الإيطالي بورغيزي . 

     إن هذه العوامل الأربعة جَعلت منه عالِمًا مُتمكِّنًا يُشار إلَيه بالبنان . وقد صارَ مُعلِّمًا بارعًا في دراسة النقوش الكتابية ، ونجحَ نجاحًا باهرًا في الربط بين التطورات التاريخية والتطورات القانونية . الأمر الذي قادَه وقادَ الباحثين مِن بَعده إلى فهم أكثر عُمقًا للحياة في روما القديمة ، والوقوف على تفاصيل هذه الحياة وأسرارها ، وإخراجها من حَيِّز الغموض والخفاء إلى الفضاء المكشوف . وهذا كُلُّه كانَ تمهيدًا للإنجاز العِلْمي الرئيسي في حياته ، ألا وهو " تاريخ روما " ( 1854_ 1856) الذي صدر في ثلاثة مجلدات .

     لقد انعكست أيديولوجية مومسن على حياته الشخصية والعملية ، فقد كانَ ليبراليًّا داعيًا إلى وَحدة الأراضي الألمانية ، وتحررها من الهيمنة الأجنبية ، في ظل حكومة جمهورية تحترم حقوق المواطن ، وتدافع عن وجود الجماعة ، وتَبسط سيادتها على كامل التراب الألماني .

     وهذه الأفكار مرتبطة بشكل وثيق بالأحداث السياسية آنذاك . فقد كانت ألمانيا في أوج ثورتها البرجوازية عام 1848 .وعُيِّنَ مومسن في نفْس السنة أستاذًا للحقوق في جامعة لايبزيغ . وبعد سنتين ، جاء الوقتُ لكي يَدفع ثمن مواقفه مواقفه السياسية ، فلا يوجد موقف بلا ثمن . فقد تَمَّ استبعاده من الجامعة بسبب نشاطاته الثورية .

     لقد أَغلقت الجامعةُ أبوابَها في وجهه، ووصل إلى طريق مسدود ، مِمَّا جَعله يَبحث عن طريق آخر . فحصلَ على كرسي القانون الروماني في جامعة زيورخ عام 1852 . ثُمَّ على الكرسي نفْسه في جامعة بريسلاو عام 1854. ثُمَّ على كرسي التاريخ القديم في جامعة برلين عام 1858.

     آمنَ مومسن بأهمية انخراط المفكر في الحياة العامة ، وذلك لكي يتكرَّسَ مُثقفًا عُضويًّا ، مُندمجًا بقضايا مجتمعه وأُمَّته، وقادرًا على قيادة التغيير من داخل مؤسسات صنع الفرار ، رافضًا الاكتفاء بالتنظير مِن البُرج العاجي . وهذه القناعة تتجلى في انتخابه عضوًا في أكاديمية العلوم البروسية . ولم يقف الأمر عند هذا الحد. فقد صارَ أيضًا نائبًا في البرلمان المحلي البروسي ( 1873_ 1879)، وفي البرلمان الألماني ( 1881_ 1884) . 

     تميَّزت أبحاثُه بالدقة العِلْمية واللغةِ الأدبية السلسة بعيدًا عن الإنشاء والتَّنظير الاستعراضي . ومن أبرز أعماله : تاريخ روما . قانون دولة روما " ثلاثة مجلدات " ( 1871_ 1888) . وآخرُ إنجازاته العِلمية هي قانون العقوبات الروماني ( 1899) . وقد تُرجمت كُتبه إلى عدة لغات ، وصارت مراجع أكاديمية . وبسبب تميُّز أعماله ، تَمَّ الاعتراف بِه عالميًّا، ومُنح جائزة نوبل للآداب عام 1902. وكأنها مكافأة نهاية الخدمة . ففي عام 1903 رحل عن عالَمنا .

24‏/03‏/2021

تيودور أدورنو والمشاكل الثقافية

 

تيودور أدورنو والمشاكل الثقافية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..........


     وُلد الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو(1903_ 1969) في فرانكفورت، وتُوُفِّيَ في سويسرا. كان والده يهوديًّا ، وأُمُّه إيطالية كاثوليكية . واتَّخذ اسم والدته " أدورنو " بدلاً من اسم والده. كان أدورنو شغوفًا بدراسة الفن ، وخاصة الموسيقى . اتَّجه نحو دراسة الفلسفة ، مُتأثِّرًا في البداية بكتابات كانت. وفي جامعة فرانكفورت درس أيضًا علم النفس وعلم الاجتماع وتاريخ الفنون وعلم الموسيقى، وتعرَّف على ماكس هوركهايمر ووالتر بنيامين، وأنجزَ رسالة دكتوراة عام 1924 حول فينومينولوجيا هوسِّرل، قبل أن ينتقل إلى النمسا لدراسة الموسيقى عام 1925 . 

     كان عضوًا رائدًا في مدرسة فرانكفورت للنظرية النقدية. وقد تأثرَ بأعمال فرويد ، وماركس، وهيغل ، في نقد المجتمع المعاصر . وتُعتبَر نظريته حول المجتمع مزيجًا من أفكارهم ونظرياتهم .

     اشتغل بالتدريس في جامعة فرانكفورت في عام 1931 ، كما ارتبط بشكل وثيق بمعهد البحوث الاجتماعية .

     بعد صعود النازيين في ألمانيا إلى الحكم ، وجد أدورنو نفسه ممنوعًا من التعليم والنشاط العام، مُهَدَّدًا في حياته، فهاجرَ إلى بريطانيا عام 1934 أملاً في الحصول على وظيفة بجامعة أكسفورد ، وأعدَّ للغرض أطروحة دكتوراة ثانية حول هوسِّرل . ثم هاجرَ إلى أمريكا عام 1938. وخلال الفترة( 1941_ 1948 ) شاركَ في رئاسة مشروع بحث في جامعة كاليفورنيا حول التمييز الاجتماعي . وأصدر خلال هذه الفترة عِدَّة أعمال من أهمها : " جدل الاستنارة " الذي أصدره بالاشتراك مع ماكس هوركهايمر عام 1947.ويُعَدُّ أهم أعمال مدرسة فرانكفورت، و" فلسفة الموسيقى الجديدة " ( 1949 ) ، و " الشخصية المتسلِّطة " الذي كتبه أيضًا بالاشتراك مع عالم النفس الاجتماعي الأمريكي نفيث سانفورد عام 1950. وصدر هذا البحث الأخير تحت رعاية اللجنة الأمريكية اليهودية، فهو يتناول ظاهرة معاداة اليهود بالدرجة الأولى، ويُعتبَر واحدًا من أهم الدراسات التجريبية ( الإمبريقية ) في علم الاجتماع الحديث.

     ومِن مؤلفاته الأخرى: " دراسات أخلاقية صغيرة"( 1951)، و"رطانة الأصالة " (1964)، و" ملاحظات عن الأدب "( في جزأين 1958و1969 ) .

     تتمحور هذه الأعمال وأغلب كتاباته الغزيرة الأخرى حول المشاكل الثقافية والاجتماعية ودور الفرد في المجتمع . ويرى أدورنو أن ظهور العقل في عصر الاستنارة وتحرُّره من الأساطير لَم يُؤدِّ بالضرورة إلى نتائج إيجابية، فقد تحوَّل العقل نفسه إلى قوة غير عقلانية تسيطر على الطبيعة وعلى الإنسان، كما رأى أن المجتمعات الحديثة تطمس الفرد تمامًا ، وأن البشرية في طريقها إلى شكل جديد من أشكال البربرية ، وأن ما جرى في معسكرات الإبادة النازية لا يُعَدُّ انحـرافًا عن مسـيرة التاريخ والمجتمع، وإنما هو جزء عضوي من " تقدُّمها نحو الجحيم" . وعلى عكس علم الاجتماع الأكاديمي التقليدي ، أكَّد أدورنو أن الفاشية هي النتاج الطبيعي للرأسمالية، ولكنه في الوقت نفسه رفض جميع أشكال التسلط والديكتاتورية ، وانتقد بشدة نظام ستالين في الاتحاد السوفيتي، وآمنَ بإمكانية إقامة مجتمع يستند إلى العدل والمساواة . ويُعَدُّ كتابه " الجدل السلبي " ( 1966 ) من أهم كتبه إذ يضم بعض أفكاره الكُلِّية عن العصر الحديث والإنسان والكون ، ويُعَدُّ كتابه " النظرية الجمالية " نظريته في الفن ، حيث يطرح تصوُّره بشأن استقلال العمل الفني ، وفكرته القائلة إن الأعمال الفنية الأصيلة تميل إلى " الكُلِّية ". لذلك ، فالفن هو الذي يُحيي الحق، ويُمثِّل دور المعارضة الحقيقية والدعوة إلى الانعتاق في " حضارة الصناعة " .

     عاد أدورنو إلى ألمانيا عام 1953 ، وأصبح أستاذًا في علم الاجتماع في جامعة فرانكفورت ، ثم رئيسًا لمعهد البحوث الاجتماعية ، ولاقت فلسفته قبولاً كبيرًا لدى التيار اليساري الراديكالي بين الشباب الألماني، ولكنه هُوجِم فيما بعد بسبب انتقاده لاستخدام العنف .

     يَرِدُ اسم أدورنو في كثير من المعاجم والموسوعات اليهودية باعتباره يهوديًّا مع أنه وُلِد لأم كاثوليكية، ومِن ثَمَّ فهو ليس يهوديًّا من منظور الشرع اليهودي، كما أنه أَسقط اسم والده بسبب نبرته اليهودية الفاقعة . أمَّا من منظور الرؤية ، فرؤيته تعود إلى التقاليد النقدية الفلسفية الألمانية ، وإلى نقد حركة الاستنارة والترشيد الذي يُعَدُّ موضوعًا أساسيًّا فيها . وهو عضو في مدرسة فرانكفورت التي تضم عددًا من المفكرين ذوي الأصول اليهودية والمسيحية ،ولا تظهر الموضوعات اليهودية في كتابات هؤلاء المفكرين مثل موضوع الإبادة النازية لليهود، إلا باعتبارها تعبيرًا عن شيء مهم وجوهري ووحشي في الحضارة الغربية الحديثة . وفي عام 1977 ، تأسَّست جائزة تيودور أدورنو في مدينة فرانكفورت، وهي جائزة ألمانية تُمنَح للإنجازات في مجالات الفلسفة، والمسرح ، والموسيقى، والسينما. تُمنَح الجائزة في 11 سبتمبر من كل عام في ذكرى ميلاد أدورنو الذي قام بالتدريس في جامعة فرانكفورت لمدة 20 عامًا . قيمة الجائزة خمسون ألف يورو . عُرف أدورنو بمقاربته النقدية ، وأساس هذه المقارَبة قائم على الجمع بين التحليل الماركسي والفرويدي في آنٍ معًا للمجتمع الرأسمالي وثقافته .

23‏/03‏/2021

تيد هيوز ورمزية الغراب

 

تيد هيوز ورمزية الغراب

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.............

     وُلد الشاعر الإنجليزي تيد هيوز(1930_ 1998)في بلدة ميثولمرويد في مُقاطعة يوركشاير. اسمه الحقيقي إدوارد جيمس هيوز. وهو الشاعر الرسمي للبلاط الملكي ( 1984_ 1998 ) .

     درس في جامعة كامبردج، واهتم بالفلكلور والبيئة ، وهذا يظهر جَلِيًّا في شِعره . تزوَّج عام 1956 الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث، وانتقلا في العام التالي إلى العيش في الولايات المتحدة الأمريكية،وعادا بعد ذلك بوقت قصير إلى بريطانيا.وبعد انفصالهما انتحرت بلاث في عام 1963

بعد معاناة نفسية طويلة جرَّاء خيانة زوجها لها على الأصعدة كافة، وكان ذلك عَشِيَّة بث القناة الثقافية الثالثة لشبكة بي بي سي مسرحية لزوجها .

     وقد أُلْقِيَ اللوم عليه لانتحارها معَ أنها كانت قد حاولت الانتحار أكثر مِن مَرَّة ، حتى قبل زواجهما، فانقطع عن الكتابة سنوات، عاد بعدها إلى النشر، وتتابعت دواوينه .

     قال تيد هيوز قبل تَوَلِّيه منصب الشاعر الرسمي للبلاط : (( بالنسبة للكثيرين ، نحن غير موجودين إلا في الكتب. أنا وزوجتي. تابعتُ على مدى الأعوام الثلاثين الأخيرة، بكثير من العجز والاستنكار، كيف تعفنَّت حياتها وحياتي تحت طبقة من المغالطات والشائعات، والقصص الملفَّقة والشهادات الكاذبة والأساطير والخرافات الهراء. ورأيت بعيني كيف تَمَّ تحوير شخصيتينا المركَّبتين إلى شخصيتين عاديتين ، بملامح باهتة وبسيطة صُنعت خصيصًا لإرضاء نوع مُعيَّن من القُرَّاء الطامحين للإثارة . هي المقدَّسة الهشَّة ، وانا الخائن القبيح )) .

     كان ديوان " الصقر في المطر " ( 1957 ) أول نتاج هيوز ، وتلا ذلك دواوين عِدَّة أهمها : " أعياد الخِصب " ( 1960 ) الذي حظي باهتمام كبير . ثُمَّ نشر " قصائد مختارة " ( 1962) بالمشاركة مع الشاعر توم غَن . ويُعتبَران معًا من المجدِّدين في الشعر الإنجليزي الحديث .

     تعددت اهتمامات هيوز في هذه الفترة ، فنشرَ " وودوو " ( 1967 )، وهو مزيج من الشِّعر والنثر ، واقتبسَ مسرحية " أوديب " ( 1968 ) . ثُمّ نشر ديوان " الغراب " ( 1970 ) ، وهو الطير الذي يتكرَّر مِرارًا في شِعره رَمْزًا للعنف في الطبيعة .

     ثُمَّ ابتكر لغة خاصة في مسرحية " أورغاست " ( 1971 ) في أثناء زيارة قام بها إلى إيران برفقة المخرج بيتر بروك الذي أخرجها للمسرح . كتب أيضًا كتبًا للأطفال مِنها : " بقايا إِلْمِت "  ( 1979 ) ، عاد فيها إلى عالم طفولته .

     نشط هيوز في التسعينيات من القرن الماضي، فنشر كثيرًا من الترجمات، وأصدر بالتعاون مع أدباء آخرين _ مِثل شيموس هيني الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1995 _ العديد من الدواوين لشعراء آخرين .

     كتب في النقد " شكسبير وإلهة الوجود " ( 1992 ) . ثُمَّ نشر " قصائد مختارة جديدة "  ( 1957_ 1994 ) ، و " تعويذة المطر للدُّوقية وقصائد مناسباتية أخرى " ( 1990 ) .

     وقبل أشهر من وفاته في لندن، كسر هيوز عقودًا من الصمت عن علاقته بزوجته المنتحرة، فكتب " رسائل عيد الميلاد " ( 1998 ) ، في دحض الاتهامات التي وُجِّهت إليه بسببها .

     يَعتبر النُّقادُ هيوز مِن أعظم شعراء جيله . وفي عام 2008 ، أعطته جريدة التايمز البريطانية الترتيب الرابع في قائمة أعظم خمسين كاتبًا بريطانيًّا مُنذ نهاية الحرب العالمية الثانية ( 1945 ) .

     وفي عام 2009 ، تَمَّ تأسيس جائزة تيد هيوز لعمل جديد في الشِّعر بإذن من أرملته كارول هيوز ، وتُمنَح هذه الجائزة لشاعر على قيد الحياة من المملكة المتحدة على عمل يتَّصف بالإبداعية أُتِمَّ في السنة نفْسها . يَجري تمويل الجائزة المالية ، وقدرها 5000 جنيه إسترليني، من إكرامية شاعر البلاط التي يتلقاها تقليديًّا من الملكة .