يعتمد التجانسُ في
العلاقات الاجتماعية على التوازن بين الجوهر والعَرَض في حياة الأفراد ، وهذا
التوازنُ يُحدِّد الأولويات ، ويُرتِّب القيمَ الإنسانية وَفْقَ أهميتها ،
ويُميِّز بين الأُسُس الفكرية الدائمة والعناصر الحياتية المُؤقَّتة . وامتلاكُ
القُدرة على التمييز بين الدائم والمُؤقَّت يُعتبَر اللبنةَ الأُولَى في منهجية
العلوم الاجتماعية ، التي تستمد شرعيتها وفلسفتها من قُدرتها على تفسير دور
الأفراد في حركة التاريخ ، وتحليلِ دور التاريخ في تشكيل وعي المجتمع . والفرقُ
بين الدائم والمُؤقَّت في البُنى الاجتماعية ، يُشبِه الفرقَ بين جَذر الشجرة
الراسخ وأوراقها المُتساقطة في الخريف . وبما أن الحياة عبارة عن سباق مسافات
طويلة ، فلا بُد من فحص العناصر وتمييزها وغَرْبلتها من أجل معرفة القادرين على
الوصول إلى خط النهاية ، والتعويل عَلَيهم في بناء المنظومة الاجتماعية ، لأنهم
وَحْدَهم يُشكِّلون الحقيقةَ الإنسانية القادرة على الاستمرار والدَّيمومة ، ورؤية
الأمور من كل الزوايا والجهات ، والتواصل مع الأفكار ، وتوصيل الأفكار إلى الشرائح
الاجتماعية المختلفة .
2
ثقافة
الأفراد تُشكِّل الظواهرَ الاجتماعية ، وتبني التصوراتِ حول الذات والعَالَم ، لكن
الثقافة لَيست قراءة عِدَّة كُتب ، أو المُشاركة في بعض المؤتمرات ، إن مفهوم
الثقافة مرتبط بطبيعة الوجود الإنساني في كل تحوُّلاته وتفاصيله النظرية والعملية
، والثقافة فِعلٌ تراكمي وتفاعلٌ رمزي معَ العناصر الاجتماعية القادرة على توليد المعاني
الإبداعية ، والأشكالِ الأخلاقية ذات المضمون العميق ، وتنظيمِ الأفعال الفردية
بشكل عقلاني ، تمهيدًا لتحويلها إلى منظومة كُلِّية حاملة لإفرازات العقل الجَمْعي،
لأن الجُزء لا يَقْدِر على التغيير وحيدًا، ولا بُدَّ مِن وجود منظومة تستوعبه ولا
تُلغيه ، وتُوظِّفه لصالح الخَير العام ، ولا تستغله لتحقيق مصالح شخصية . وإذا
احتضنت المنظومةُ الاجتماعية كُلَّ عُنصر بلا تهميش ولا إلغاء ، ووضعته في مكانه
الصحيح ، كي تتفجَّر طاقته الإبداعية، فإنَّ هذه المنظومة سوفَ تكتمل وتتكامل ،
وتُصبح كُتلةً فكرية مُتماسكة مالكة لأمرها وقَرَارها، وقادرة على توظيف تاريخ
الفرد لبناء جُغرافيا المجتمع أفقيًّا وعموديًّا ، وتوظيفِ جُغرافيا الوجود
الاجتماعي لإعادة تشكيل طبيعة العقل وخصائص الأفراد ، مِن أجل تنقية التاريخ من
نقاط الضعف والثغرات القاتلة والأماكن المُظلمة . واستمرارُ عملية التنقية التاريخية
يَستلزم بالضَّرورة فَحْص المُسلَّمات التي تجذَّرت بفِعل سُلطة الأمر الواقع ،
ولَيس بفِعل منطق العقل . وقواعدُ المنهج الاجتماعي القائمة على الأدلة والبراهين
تستطيع إدخال التاريخ والجُغرافيا في صَيرورة وجودية حاسمة ، تُبيِّن تعاقُبَ
الأحداث ، وسببَ نُشوئها ، والمسافةَ الفكرية الفاصلة بين زمن حُدوث الفِعل
الاجتماعي ومكانه ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى دَمْج التاريخ والجغرافيا معًا وتجسيدهما كحَلْقة
وصل بين المعاني الوجودية والوعي الاجتماعي بها .
3
قُوَّة المنهج الاجتماعي لا تنبع من العلاقات الآلِيَّة بين البشر ، الخالية من المشاعر والأحاسيس ، وإنما تنبع من التفاعل الرمزي المتغلغل في العلاقات الاجتماعية ، لأن الرمز قادر على كشف حقيقة الأشياء غَير الملموسة ، وتوضيح ماهية العناصر غَير المحسوسة . وإذا كان الجسدُ الإنساني محصورًا في الزمان والمكان ، فإن الأشواق الروحية عابرة للزمان والمكان ، ولا يُمكن التعامل معها إلا بشكل رمزي ، ولا يَكشف الرموزَ إلا الرموزُ . والتفاعلُ الرمزي الاجتماعي يصنع عَالَمًا مُوازيًا للعَالَم الواقعي الذي نعيش فيه، تمامًا كما يَصنع الشاعرُ عَالَمه الخاص في قصيدته. وكما أن حرارة التعبير اللغوي قادرة على إزالة الفرق بين الشعر والنثر ، كذلك قُوَّة التفاعل الرمزي قادرة على إزالة الفرق بين التاريخ والجُغرافيا ، لصناعة مجتمع جديد يستطيع صَهْرَ الأضداد ، والتوفيقَ بين التناقضات ، والتخلُّصَ من العُقَد التاريخية والجُغرافية التي تَؤُول إلى عُقَد نَفْسِيَّة ، وتُشكِّل حواجز بين قلوب الناس ، تَمنعهم مِن الاجتماع والتعاون ، وُصولًا إلى المُجتمع المُتماسك المُتجانس، الذي يَخلُو مِن الحِقد والثأر والانتقام .