وُلِدَ العالِم الألماني تيودور مُومسِن (
1817 _ 1903 ) في مدينة غاردنغ في دُوقية شلسفيغ التي كانت خاضعةً للحُكم
الدنماركي، وتُوُفِّيَ في مدينة شارلوتن بورغ .
يصعب
تصنيفه في مجال مُحدَّد بسبب تعدد مواهبه، وكثرة اختصاصاته. فهو كاتب وعالِم آثار
وصحفي وسياسي ومُؤرِّخ.
نشأ مُومسِن
في أسرة مُثقفة ، فوالده قِس بروتستانتي مُتبحِّر في عِلم اللاهوت. وقد شَجَّعَ
ابْنَه على مطالعة الكتب، والتعرف على الأدب الألماني، والاطلاع على النتاج الأدبي
للكُتَّاب الأجانب مثل : شكسبير وبايرون وهوغو .
درسَ
الحقوقَ في جامعة كيل ، وتَخَصَّصَ في القانون الروماني ، وتعمَّقَ في دراسة فلسفة
هذا القانون، وحصل على درجة الدكتوراة بامتياز عام 1834.وهذا جَعَلَه مرجعًا في
القانون الروماني، وصار كلامُه حُجَّةً في هذا المجال .
كانت فترة
الدراسة من أخصب فترات حياته، حيث تزاملَ معَ أخيه تيكو ، والكاتب شتورم. ونشأت
صداقة عميقة بين الثلاثة . وقد تجلَّت آثارُ هذه الصداقة في المجال الأدبي ، فنتجَ
عنها عملان أدبيان مُشترَكان . الأول : مجموعة حكايات خرافية . والثاني : أغاني
الأصدقاء الثلاثة. وقد نُشرا معًا عام 1843.وهذا يدل على أن حب التأليف كان
مغروسًا في كيان مُومسِن مُبَكِّرًا .
لقد كانت
المشاركةُ في تأليف هذين الكتابَيْن الإنجازَ الأول ( الفِعْلي ) في حياة مومسن ،
والخطوةَ الأولى في طريق الإبداع . أمَّا الإنجاز الثاني فهو حصوله عام 1844بسبب
تفوقه على منحة عِلمية من ملك الدنمارك مدتها أربع سنوات لدراسة النقوش الأثرية
الرومانية . وبما أنه اختارَ هذا المجال التاريخي الصارم ، فقد توجَّبَ عليه
اختيار معهد الآثار في رُوما ليكون وَطَنَه الجديد ، ومُنطلقًا لأبحاثه ، وحاضنةً
عِلمية لأفكاره .
إن منهج
مومسن الفكري التاريخي المتميِّز ما كان لِيَرى النور لَولا أربعة عوامل : 1_
استلهام فكرة العلاقة المتبادلة بين التاريخ والقانون من كتابات العالِم سافيني ،
أحد مُؤسِّسي المدرسة التاريخية لدراسة القانون . 2 _ استخدام منهج أستاذه أوتو
يان في قراءة النقوش القديمة . 3_ دراسة النقوش اللاتينية وَفْق مبادئ فقه اللغة
التاريخي . 4_ العمل تحت إشراف العالِم الإيطالي بورغيزي .
إن هذه
العوامل الأربعة جَعلت منه عالِمًا مُتمكِّنًا يُشار إلَيه بالبنان . وقد صارَ مُعلِّمًا
بارعًا في دراسة النقوش الكتابية ، ونجحَ نجاحًا باهرًا في الربط بين التطورات
التاريخية والتطورات القانونية . الأمر الذي قادَه وقادَ الباحثين مِن بَعده إلى
فهم أكثر عُمقًا للحياة في روما القديمة ، والوقوف على تفاصيل هذه الحياة وأسرارها
، وإخراجها من حَيِّز الغموض والخفاء إلى الفضاء المكشوف . وهذا كُلُّه كانَ
تمهيدًا للإنجاز العِلْمي الرئيسي في حياته ، ألا وهو " تاريخ روما " (
1854_ 1856) الذي صدر في ثلاثة مجلدات .
لقد انعكست
أيديولوجية مومسن على حياته الشخصية والعملية ، فقد كانَ ليبراليًّا داعيًا إلى
وَحدة الأراضي الألمانية ، وتحررها من الهيمنة الأجنبية ، في ظل حكومة جمهورية
تحترم حقوق المواطن ، وتدافع عن وجود الجماعة ، وتَبسط سيادتها على كامل التراب
الألماني .
وهذه
الأفكار مرتبطة بشكل وثيق بالأحداث السياسية آنذاك . فقد كانت ألمانيا في أوج
ثورتها البرجوازية عام 1848 .وعُيِّنَ مومسن في نفْس السنة أستاذًا للحقوق في
جامعة لايبزيغ . وبعد سنتين ، جاء الوقتُ لكي يَدفع ثمن مواقفه مواقفه السياسية ،
فلا يوجد موقف بلا ثمن . فقد تَمَّ استبعاده من الجامعة بسبب نشاطاته الثورية .
لقد أَغلقت
الجامعةُ أبوابَها في وجهه، ووصل إلى طريق مسدود ، مِمَّا جَعله يَبحث عن طريق آخر
. فحصلَ على كرسي القانون الروماني في جامعة زيورخ عام 1852 . ثُمَّ على الكرسي
نفْسه في جامعة بريسلاو عام 1854. ثُمَّ على كرسي التاريخ القديم في جامعة برلين
عام 1858.
آمنَ مومسن
بأهمية انخراط المفكر في الحياة العامة ، وذلك لكي يتكرَّسَ مُثقفًا عُضويًّا ،
مُندمجًا بقضايا مجتمعه وأُمَّته، وقادرًا على قيادة التغيير من داخل مؤسسات صنع
الفرار ، رافضًا الاكتفاء بالتنظير مِن البُرج العاجي . وهذه القناعة تتجلى في
انتخابه عضوًا في أكاديمية العلوم البروسية . ولم يقف الأمر عند هذا الحد. فقد
صارَ أيضًا نائبًا في البرلمان المحلي البروسي ( 1873_ 1879)، وفي البرلمان
الألماني ( 1881_ 1884) .
تميَّزت أبحاثُه بالدقة العِلْمية واللغةِ الأدبية السلسة بعيدًا عن الإنشاء والتَّنظير الاستعراضي . ومن أبرز أعماله : تاريخ روما . قانون دولة روما " ثلاثة مجلدات " ( 1871_ 1888) . وآخرُ إنجازاته العِلمية هي قانون العقوبات الروماني ( 1899) . وقد تُرجمت كُتبه إلى عدة لغات ، وصارت مراجع أكاديمية . وبسبب تميُّز أعماله ، تَمَّ الاعتراف بِه عالميًّا، ومُنح جائزة نوبل للآداب عام 1902. وكأنها مكافأة نهاية الخدمة . ففي عام 1903 رحل عن عالَمنا .