وُلد
عالِم الاجتماع الأمريكي تالكوت بارسونز ( 1902 _ 1979 ) في كولورادو ، وتُوُفِّيَ
في ميونخ . دَرس والده في مدرسة اللاهوت في جامعة ييل قبل أن يُعيَّن قِسًّا .
وعند ميلاد تالكوت ، كان والده أستاذًا للغة الإنجليزية
في كلية كولورادو ، ونائب رئيس الكلية .
درس بارسونز في المرحلة الجامعية عِلمَ الأحياء
والاجتماع والفلسفة في كلية آمريست ، وحصل على درجة البكالوريوس في عام 1924 .
أصبحت كلية آمريست كلية عائلة بارسونز بالتقليد ، حيث إن والده وعَمَّه فرانك
التحقا بها ، كما التحق بها أيضًا شقيقه الأكبر .
في البداية كان بارسونز مُولَعًا
بمهنة الطب ، فقد ألهمه في هذا التوجه شقيقه الأكبر ، لذلك درسَ قَدْرًا كبيرًا
مِن عِلم الأحياء ، وقضى فترة الصيف يعمل في معهد علوم المحيطات في معهد وودز هول
لعلوم المحيطات
بولاية ماساتشوستس . أصبح بارسونز
واحدًا من القيادات الطلابية في آمريست ، وأخذ دورةً في الفلسفة الألمانية الحديثة
مع أوتو مانثي زورن ، الذي كان مُفَسِّرًا كبيرًا لفلسفة كانت . وأظهرَ بارسونز في
وقت مُبكِّر اهتمامًا كبيرًا في موضوع الفلسفة ، الذي كان على الأرجح تبعًا
لاهتمام والده باللاهوت ، الأمر الذي أثَّرَ عليه بشكل عميق اجتماعيًّا .
بعد
أن أنهى دراسته في آمريست ، درس في كلية لندن للدراسات الاقتصادية لمدة عام .
وأثناء دراسته فيها ، التقى طالبة أمريكية تُدعَى هيلين بانكروفت ، وقد تزوَّجها
في 30 أبريل 1927. حصل بارسونز على الدكتوراة من جامعة هايدلبيرغ في علوم الاجتماع
والاقتصاد. وفي الفترة التي قضاها في هايدلبيرغ ، عمل بارسونز مع ألفرد فيبر (
شقيق عالم الاجتماع الألماني الشهير ماكس فيبر ) ، وأيضًا مع عالِم الاجتماع
الشهير كارل مانهايم ( مؤسس علم اجتماع المعرفة ) . كان اللقاءُ الأكثر أهمية لبارسونز في هايدلبيرغ
هو لقاءه ماكس فيبر والاطلاع على أعماله ، الذي لَم يسبق وأن سمع عنه قبل وصوله
إلى هايدلبيرغ. فقد أصبح فيبر بالغ الأهمية لبارسونز باعتبار ثقافته الناشئة في
بيئة دينية ومتحررة في آن واحد . السؤال عن دور الثقافة والدين في العمليات
الأساسية من تاريخ العالم كان لُغزًا مُحَيِّرًا لبارسونز وثابتًا في ذهنه. وكان
فيبر الباحث الأول الذي قدَّم لبارسونز جوابًا نظريًّا مُقنعًا عن هذا السؤال .
كان بارسونز يقرأ بتوسُّع الأدبَ الديني ،
وبخاصة الأعمال التي تُركِّز على عِلم
الاجتماع الديني . وكان _ أيضًا _ يقرأ في موضوع الكالفنية ( نِسبة إلى اللاهوتي
الفرنسي جون كالفن ) .
في عام 1927، انضمَّ
بارسونز إلى جامعة هارفارد كمحاضر في قسم الاقتصاد . وكان على خلاف مع بعض
الاتجاهات السائدة في القِسْم ، حيث كانت تميل إلى الناحية الرياضية الحسابية
عالية التقنية، لذا بحث بارسونز عن خيارات أخرى ، وقدَّم دورات في
"الأخلاقيات الاجتماعية" و"عِلم الاجتماع الديني" . وعلى
الرغم من أن بارسونز دخل هارفارد من خلال قسم الاقتصاد ، إلا أن كُل أنشطته
واهتماماته الفكرية دفعت به نحو علم الاجتماع، على الرغم من أن جامعة هارفارد لَم
يكن لديها قسم عِلم اجتماع في تلك الفترة . ولكن كانت الجامعة تفكر في تأسيس هذا
القسم، فقام بارسونز بإبراز نفْسه بطرق مختلفة من خلال التزامه بالكتابة والتدريس
، حتى يكون مستعدًّا للانضمام إلى قِسم علم الاجتماع حِين يتم تأسيسه.وحانت الفرصة
لانتقال بارسونز إلى علم الاجتماع عام 1931 ، حين تم إنشاء أول قِسم علم اجتماع في
هارفارد على يد العالِم الروسي بيتيرين سوروكين الذي هربَ من الثورة الروسية ،
وهاجر إلى أمريكا عام 1923.
يؤلف الفعلُ الاجتماعي بالنسبة إلى بارسونز
الوَحدة الأساسية للحياة الاجتماعية ، ولأشكال التفاعل الاجتماعي بين الناس، فما
مِن صلة تقوم بين الأفراد والجماعات، إلا وهي مبنية على الفعل الاجتماعي، وما أوجه
التفاعل الاجتماعي إلا أشكال للفِعل التي تتباين في اتجاهاتها وأنواعها
ومساراتها،ولهذا يُعَدُّ الفِعل عنده الوَحدة التي يستطيع الباحث من خلالها رصد الظواهر
الاجتماعية وتفسير المشكلات التي يعاني منها الأفراد، وتعاني منها المؤسسات على
اختلاف مستويات تطورها. والفِعل الاجتماعي بالتعريف، سلوك
إرادي لدى الإنسان لتحقيق هدف مُحدَّد، وغاية بِعَيْنها، وهو يتكون مِن بُنية تضم
الفاعل بما يحمله من خصائص وسِمات تُميِّزه عن غَيره مِن الأشخاص، وموقف يُحيط
بالفاعل ويتبادل معه التأثير، ومُوجِّهات قِيَمية وأخلاقية تجعل الفاعل يميل إلى
ممارسة هذا الفعل أو ذاك ، والإقدام على ممارسة هذا السلوك أو غيره .
ولهذا يُلاحَظ أن بارسونز يدرس الفعل
الإنساني بوصفه منظومة اجتماعية متكاملة، يُسهم كُل عنصر من عناصرها في تكوين
الفعل على نحو من الأنحاء ، وهي مؤلفة من أربع منظومات فرعية تتدرَّج من المنظومة
العُضوية ، إلى المنظومة الشخصية ، فالاجتماعية ، فالثقافية والحضارية .
وتُسهم نظرية الفعل الاجتماعي التي عمل بارسونز على تطويرها في توضيح الكثير من القضايا الاجتماعية، مِمَّا جعل هذه النظرية تأخذ موقعًا مُتقدمًا في دراسات عِلم الاجتماع في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي معظم دول العالَم، ولا سِيَّما الدول الأوروبية ، بالنظر إلى ما تحتويه من قدرات تحليلية تُمكِّن الباحث من معالجة الكثير من القضايا الاجتماعية وقضايا علم الاجتماع .