سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

28‏/02‏/2022

غوته وتقديس الإسلام

 

غوته وتقديس الإسلام

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

......................


     وُلِد الأديب الألماني يوهان غوته ( 1749_ 1832) بمدينة فرانكفورت بألمانيا . ينحدر من أسرة برجوازية . كان والده خبيرًا حقوقيًّا ، وكانت والدته ابنة محافظ فرانكفورت .

     لَم ينتسب غوته إلى أيَّة مدرسة ، ولكنه تلقى تعليمه على يد أبيه ، وعدد من المعلمين الخصوصيين في اللغات والعلوم والمعارف المختلفة .

     غادرَ غوته مسقط رأسه عام 1765 ، مُتَوَجِّهًا إلى لايبزيغ لدراسة الحقوق ، نزولاً عند رغبة أبيه . لكنه أظهرَ اهتمامًا بمحاضرات الأدب ، كما اتصل بعدد كبير من الأدباء والفنانين .

     تعرَّض غوته لمشكلة صحية بعد أزمة عاطفية . وبعد أن تعافى منها ، توجَّه عام 1770 إلى مدينة شتراسبورغ ذات الهوية المزدوجة ( الألمانية / الفرنسية ) لِيُنهيَ دراسته في جامعتها . وقد حصل غوته على الإجازة في الحقوق ، وعادَ في نهاية عام 1771 إلى فرانكفورت ليمارس المهنة ، إلا أن والده وأحد أقربائه هُما اللذان أدارا العمل ، في حِين التفتَ غوته إلى كتاباته الأدبية ، فبدأ التخطيط لمسرحية " غوتس فون برليشنغن " ، وأخرجها عام 1773، ولاقت نجاحًا واسعًا ، ولفتت انتباه حركة " العاصفة والاندفاع " الأدبية الفكرية ، إذ شَعروا بشكسبير يُبعَث في ألمانيا.

     نشر غوته رواية " آلام الشاب فِرتر " ( 1774 ) ، وأحدثت عند نشرها دَوِيًّا هائلاً ، وجَعلت مِنه أديبًا مشهورًا ومحط اهتمام النُّقاد ، لا سِيَّما بعد أن نشر وأخرج في العام نفسه مأساة "كلافيغو" التي تُعالج الصراع بين الحب والوفاء مِن جهة،والطموح المهني والشهرة من جهة أخرى. وفي نفس المرحلة ، بدأ غوته العمل على مادة " فاوست " التي شغلت ما يُقارب ستة عقود من حياته حتى اكتملت فَنِّيًّا .

     واللافت في سَعَة اهتمامات غوته هو إعجابه بشخصية النبيِّ محمد عليه الصلاة والسلام ، وتناولها من وجهة نظر مُغايرة كُلِّيًّا لِمَا كان سائدًا آنذاك عن الإسلام ونَبِيِّه الكريم . ففي أوائل سبعينيات القرن الثامن عشر، اشتغل غوته على مسرحية بعنوان " محمد " بقيت غير مكتملة . تَعرض شخصيةَ النبيِّ بصفته عبقريًّا يحمل قَبَسًا رَبَّانِيًّا ، يُريد نشره بين الناس من أجل خَيرهم ، لكنهم يقفون في وجهه بقسوة ، إلى أن يُدرك بعضهم صدق الرسالة ، فَيُؤمِن ويُبصِر .

     انتقلَ غوته إلى إيطاليا ، وجالَ فيها مدة عامين . واكتشفَ فيها تجارب ثرية وعميقة على الصعيد الفني والأدبي والعلمي ، وعلى مستوى الاحتكاك المباشر بالناس والطبيعة .

     نشر غوته مجموعة قصائد " المراثي الرومية " ( 1790) إلى جانب بعض المسرحيات الترفيهية للبلاط . وفي هذه الأجواء التي أدَّت إلى ضعف علاقات غوته اجتماعيًّا وانعزاله النسبي ، مالَ قلبه إلى فتاة من عامة الشعب شِبه أُمِّية ، فأقامت في منزله مع أختها ، وإحدى قريباتها ، إلا أنه لَم يستطع الاقتران بها رسميًّا خَوْفًا من الوسط الاجتماعي. لكنها ظلَّت معه، وساندته كرفيقة وعشيقة، حتى عام 1806 ، عندما دافعت عنه ببسالة في وجه جنود نابليون ، فأعلن زواجهما ، واعترف بِأُبُوَّته لابنهما الذي كان في السابعة عشرة من عُمره حينذاك .

     في ربيع عام 1814 قرأ غوته ترجمةً لديوان الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي ، وتأثَّر به إلى حد كبير ، لدرجة أنه ألَّف " الديوان الغربي الشرقي " ( 1819 ) كنتيجة لهذا اللقاء الروحي بين الشاعرَيْن . ويحتل هذا الديوان المرتبة الثانية في الأهمية بعد " فاوست " بين مؤلفات غوته كُلِّها .

     ويُعتبَر " الديوان الغربي الشرقي " أبرز وثيقة ، عبَّر فيها غوته عن موقفه من مسألة الأديان ( الإسلام واليهودية والمسيحية والمجوسية ) . وكان نصيب الإسلام الأوفر ، لا سِيَّما أن الديوان قد نشأ تحت تأثير إسلامي خالص عبر أشعار حافظ الشيرازي . ولهذا ، فإن الطابع الإسلامي غالب على كُل شيء فيه . حتى القصص التي وُجِدت أصولها في المسيحية ، ووردت في القُرآن ، أخذها غوته عن القرآن . ولطالما أظهرَ غوته إعجابه الشديد بالإسلام ، حتى عَدَّه والتقوى شيئًا واحدًا . وقد قال فيه أيضًا : (( إذا كان معنى الإسلام هو التسليم لله ، فعلى الإسلام نحيا ونموت جميعًا )). وقد قال عالِم اللاهوت السويسري هانس كونغ في كتابه " المسيحية وأديان العالَم "    ( 1970): (( ما مِن أحد ساهمَ في إعادة الاعتبار للإسلام في أوروبا بعد تهكُّم فولتير مِثل غوته، في الديوان الغربي الشرقي )) .

     مع مطلع عام 1832 ، أتَمَّ غوته " مأساة فاوست _ الجزء الثاني " . وبذلك يكون الشاعر قد أنجزَ العمل الجبار الذي رافقه طوال ستين عامًا من عُمره. وفيه أعاد صياغة الموضوع الشعبي في الشكل الكلاسيكي : ( مقدمة في السماء ) تتبعها خمسة فصول . وتتكوَّن المأساة من أبيات مُقَفَّاة ، أصبحَ معظمها مقولات مأثورة. وعلى الصعيد الفلسفي،صارَ قَدَر العالِم " فاوست"_ الذي لا تستطيع دراسة العلوم أن تُرضيَه _ مُمَثِّلاً لِقَدَر كُل إنسان طموح أخطأ الطريق ، فيظهر الشيطان ليعرض عليه خدماته ، مُطَالِبًا بروح " فاوست " ثمنًا لمساعدته ، ويصير العَقْد مع الشيطان رهانًا بين الاثنين . وتدور الأحداث في ظِل هيمنة الكنيسة الكاثوليكية على مقاليد الأمور كافة في العصور الوُسطى .

27‏/02‏/2022

يوهانس فلهلم ينسن وسقوط الملك

 

يوهانس فلهلم ينسن وسقوط الملك

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...................

     وُلد الأديب الدنماركي يوهانس فِلهِلم ينسِن ( 1873_ 1950) في فارسو ، وهي قرية في شمال جوتلاند بالدنمارك . وتُوُفِّيَ في كوبنهاجن . كان والده طبيبًا بيطريًّا .

     يُعتبَر ينسِن أول كاتب دنماركي كبير في القرن العشرين. وقد حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1944.

     اتَّجه في بداية حياته لدراسة الطب ، لكنه اضْطُر إلى ترك دراسته بسبب ظروفه المادية الصعبة. وتوجَّه إلى عالَم الكتابة والأدب . تزوَّجَ عام 1910 ، واستقر في كوبنهاجن لعدة سنوات، لكنه كان مُحِبًّا للسفر ، فزار معظم بلاد العالم ، ونشر عددًا من الروايات المسلسَلة باسم مستعار، وعمل مُراسلاً للصحف في إسبانيا وأمريكا .

     تُعتبَر روايته " الدنماركيون " ( 1898 ) أول عمل ينشره باسمه الحقيقي ، وقد عرَّفت القُرَّاءَ بِه ، وأسَّست لعلاقة متينة بينه وبين مُتابعي الأعمال الأدبية . ثُمَّ أتبعها في نفس العام برواية " حكاية سكان هيمرلاند " التي تُمثِّل ميلادَه الأدبي الحقيقي ، وبداية شُهرته العالمية .

     كان ينسن كاتبًا غريب الأطوار، ومُثيرًا للجدل في الحياة الثقافية الدنماركية ، فهو مَعروف بجداله المتهور، وأُطروحاته الفكرية الغريبة، وأفكاره التي تعتريها الشكوك والعنصرية ، ومعَ هذا ، فلم يُظهِر أية ميول فاشية أو مُعادية للأجناس والأعراق .

     ولا يزال ينسن حتى يومنا الحالي ، يُعتبَر الأب الروحي للحداثة الدنماركية ، خصوصًا في مجال الشِّعر الحديث. فقد كتب قصيدةَ النثر، وعُرف بأسلوبه القائم على استخدام اللغة الحية والمباشرة، وامتازت أعمالُه الأدبية بتصوير تطور الفرد كجزء من التطور العام للبشرية والحضارة .

     إن اسم الكاتب ينسن يرتبط دائمًا بروايته الملحمية العالمية " سقوط الملِك " ( 1933) التي كانت السبب الرئيسي لفوزه بجائزة نوبل للآداب . وتَمَّ اختيار هذه الرواية أفضل رواية دنماركية في القرن العشرين ، وذلك في استفتاء نظَّمته الصحافة الدنماركية عام 1999.

     وهذه الرواية التاريخية تتحدث عن وقائع تاريخية مُتخيَّلة بأسلوب رمزي مُبطَّن ، حيث تظهر التناقضات الإنسانية ، وتبرز الإشكاليات التاريخية ، وتتكشف تفاصيل الحياة وطبيعة حركتها في الزمان والمكان . وتظهر الشخصيات التي لعبت دورًا محوريًّا في كشف خيوط اللعبة الإنسانية والتاريخية _ إِن جاز التعبير _.

     والروايةُ تُمثِّل سيرة تاريخية رمزية مُتخيَّلة لزمن الملوك والقياصرة، حيث يتمُّ تسليط الضوء على شخصية الملِك كريستيان الثاني ، أحد ملوك الدنمارك في القرن السادس عشر .

     تقوم الرواية على فكرة المزج بين الواقعية النقدية والواقعية الشاعرية ، وضمن هذا الخليط الرمزي ، يتَّضح مسارُ حياة هذا الملِك ومصيرُه ، وتظهر مشاعره وأحلامه وانكساراته ولحظات ضَعفه . كما تتناول الروايةُ أحوال الدنمارك بعد تمرد الشعب السويدي على الاحتلال الدنماركي في ذلك الوقت .

     وهنا يتَّضح مبدأ التحليل الرمزي ، ومحاولة إسقاطه على تفاصيل الواقع . كما تتَّضح الدلالات الفلسفية العميقة التي تحكم العلاقات الإنسانية ، وتتحكم بالعلاقات بين الدول والشعوب .

     قدَّم الكاتب رؤيته التحليلية للإشكاليات النقدية المتعلقة بثقافة عصر ما قبل الحداثة ، وصَوَّرَ مراحل التطور الإنساني كجزء من منظومة تطور البشرية على جميع الأصعدة .

     إنَّ هذه الرواية العالمية تكمن قُوة تأثيرها في الأفكار الكامنة بين السطور ، وصُوَرها الفنية متعددة الطبقات والدلالات،والأزمات الإنسانية الوجودية،والعلاقات الدولية المنكسرة والمتشظية، واستحضار التاريخ ، وإعادة صياغته فلسفيًّا ورمزيًّا وخياليًّا ، من أجل إثبات حقيقة أن الرموز السُّلطوية تظل باقية في كُل زمان ومكان .

     من أبرز أعماله الأدبية : الغابات ( 1904) . قصائد ( 1906) . العالم الجديد ( 1907) . أساطير جديدة ( 1908 ) . روح الشمال ( 1911) . الفصول ( 1923) .

26‏/02‏/2022

الروابط الاجتماعية والمعنى الوجودي للأشياء

 

الروابط الاجتماعية والمعنى الوجودي للأشياء

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.......................

1

     إنَّ ما يُحدِّد طبيعةَ الروابط الاجتماعية لَيس الأفعال الارتجالية والمشاعر الساذَجة ، وإنَّما الصيغة العقلانية بين منطقِ اللغة الرمزي والمنظورِ المعرفي السلوكي. وهذا المنظورُ لَيس تصوُّرًا ذهنيًّا أوْ فِكْرَةً مُجرَّدة ، وإنَّما هو رؤية وجودية للأحداث اليومية والوقائع التاريخية، نابعة مِن فلسفة الماوراء الاجتماعي، أي: رؤية الدوافع الخَفِيَّة التي تختبئ وراء الأحداث ، وقراءة ما بين السُّطور ، وتحليل العلاقة النَّفْسِيَّة بين الذات والموضوع ، وعدم الغرق في اللحظة الآنِيَّة ، لأنَّ الهدف من الروابط الاجتماعية هو حِفْظ مصادر المعرفة الإنسانية للوُصول إلى بَر الأمان ، ولَيس تَشتيت الجُهود في محاولات اختراع تاريخ وهمي يُوازي التاريخَ الحقيقي ، مِن أجل إعادة تصميم الذاكرةِ الجمعية ، والمفاهيمِ الذاتية ، والمعاييرِ الفكرية ، لإحداث توافق صُوَري بين الدليل اللغوي والدَّلالة الاجتماعية. يجب أن تكون العلاقةُ بين اللغة والمجتمع انعكاسًا لتاريخ المعنى الوجودي في تَحَوُّله الطبيعي لا الاصطناعي. والتَّحَوُّل الطبيعي يعني انتقالَ المُمَارَسَة العملية إلى النظرية الفكرية إلى الرمزية اللغوية ، وبالعَكْس ، وهذا الانتقال يَنتج عن عملية طرح الأسئلة المصيرية على الذات والمُجتمع ، والبحثِ عن أجوبة منطقية . وبما أنَّ الفِكْر موجود في جميع الروابط الاجتماعية ، فلا بُد أن تتحوَّل الروابط الاجتماعية إلى بيئة خِصْبة لتوليد الأسئلة والأجوبة معًا ، مِمَّا يُقَدِّم زخمًا كبيرًا للتفاعلات المعرفية بين الفرد واللغة مِن جِهة ، واللغة والمُجتمع مِن جِهة أُخرى .

2

     الإشكاليةُ الفلسفية في بناء المُجتمعات الإنسانية تتمثَّل في البحث عن الأشياء ، والحِرص على وُجودها ، وعدم البحث عن المعنى الوجودي للأشياء. وهذا أمرٌ شديد الخُطورة، لأنَّه يُعَرِّي الدَّال( الشَّكل ) مِن المَدلول ( الجَوهر )، ويَفصِل جَسَدَ التاريخ عن صورته الذهنية ، ويُفَرِّغ الفردَ مِن حِسِّه النقدي ، ويُجرِّده مِن قُدرته على الهدم والبناء في عَالَم النظريات الاجتماعية والظواهر الثقافية. والغايةُ مِن النشاط الاجتماعي هي الوصول إلى المعرفة التي يستطيع الرمزُ اللغوي بواسطتها أن يُفَسِّر العلاقةَ النظامية بين السُّلوكِ الإنساني والعواملِ المُؤَدِّية إلَيه . وأهميةُ الرمز اللغوي تتجلَّى في قُدرته على تحليل السُّلوك الإنساني باعتباره هُوِيَّةً لها كَيْفِيَّة مُتغيِّرة ، ومِعيارًا قائمًا على السَّبَبِيَّة . والسَّبَبِيَّةُ تُحدِّد نُقطةَ بداية السُّلوك الإنساني ، والكَيْفِيَّةُ تُحدِّد نُقطةَ نهايته ، وبذلك يتَّضح المسارُ السُّلوكي كاملًا بلا فَجَوَات ولا مُفاجآت، وهذا يُساهم في تَكوينِ جَوهر المُجتمع ، وَرَسْمِ صُورته المُستقبلية ، وتجسيدِ الظواهر الثقافية كتجارب حياتية واقعية . وكُلَّما انتقلتْ تراكيبُ البُنية الاجتماعية مِن المُجَرَّد إلى المَلموس ، انتقلت الظواهرُ الثقافية مِن المُمَارَسَة إلى التأثير ، وهذا سَيُوَلِّد أفكارًا إبداعية ، ورُؤيةً جديدةً لعلاقة الفرد بضغوطات مُجتمعه وإفرازات بيئته.وهذه الرؤيةُ الجديدةُ تَحْمِي الفردَ مِن الاغتراب النَّفْسِيِّ، الذي يَصنع وَعْيًا زائفًا وشُعورًا وهميًّا . وإذا انفصلَ الفردُ عن ذاته أوْ مُجتمعه ، فإنَّ هُويته الشخصية سَوْفَ تتشظَّى بين العواملِ النَّفْسِيَّة المُرتبطة بالأحلام الفردية ، والعواملِ الاجتماعية المُرتبطة بالشرعية التاريخية . وهذا التَّشَظِّي يعني انتقالَ مفهوم الهُوِيَّة من المَاهِيَّة الوجودية إلى الكَينونة السُّلطوية ، وبالتالي يَغرق الفردُ في صِرَاعَيْن: صِرَاع في ذاته ، وصِرَاع على ذاته . لذلك كان التَّشَظِّي في هُوية الفرد هو الخطر الحقيقي على وَعْيِه، وأفكاره ، وحُرِّيته . وإذا انكمشتْ مساحةُ الحُرِّية ، فإنَّ المعايير الأخلاقية ستنهار ، ويُصبح المُجتمع مصدرًا للأفعال الآلِيَّة المصلحية الخاضعة لِسُلطة الأمر الواقع .

3

     الحُرِّيةُ لا تَعني أن يَفعل كُلُّ فرد ما يَحلُو له ، وإنَّما تعني حُرِّية اختيار المسار الحياتي ، وحُرِّية الفِعْل الاجتماعي ، والتزام الفاعل بِتَحَمُّل مسؤولية الفِعْل . وارتباطُ المسؤولية الشخصية بالحُرِّية الفردية يُعَدُّ الركيزةَ الأساسية في طبيعة الروابط الاجتماعية ، التي تُوظِّف تقنياتِ التفكير لاكتشاف المعنى الكامن في مصادر المعرفة ، وأشكالِ الوَعْي بأهمية التغيير . وكما أن الظواهر الثقافية تُعْتَبَر مناهج عقلانية لتحليل كيفية تأثير اللغة على الأفكار، كذلك التجارب الوجودية تُعْتَبَر أشكالًا واعية لتحليل كيفية تأثير الأفكار على المُجتمع. وبالتالي ، يُعيد الفردُ اكتشافَ ذَاتِه وحُلْمِه ومَصِيرِه ضِمن اللغة والأفكار والمُجتمع ، ويُعيد المُجتمعُ اكتشافَ كِيانه مِن خلال الهُوية الشعورية الفردية والماهيَّة الوجودية الجماعية .

25‏/02‏/2022

يوكيو ميشيما ومجد اليابان الضائع

 

يوكيو ميشيما ومجد اليابان الضائع

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

........................

     وُلد الأديب الياباني يوكيو ميشيما ( 1925_ 1970 ) في طوكيو ، وتُوُفِّيَ فيها . اسمه الحقيقي : هيراوكا كيميتاكي. يُعتبَر من أبرز الروائيين اليابانيين في القرن العشرين ، وهو إضافة إلى ذلك قاص ومسرحي وكاتب مقالات مُجدِّد لغويًّا وأسلوبيًّا .

     ينتمي ميشيما إلى عائلة ثرية من كِبار موظفي الدولة . وتربَّى في بيت جدَّته صاحبة الجذور الأرستقراطية . تلقى تعليمه في مدرسة أبناء الأرستقراطيين . وفي الحرب العالمية الثانية تبيَّن في الفحوص الطبية أنه لا يَصلح مُقاتلاً، فأدى خدمته العسكرية في مصنع لإنتاج الطائرات، ثم درس الحقوق في جامعة طوكيو ، والتحقَ بعد تخرُّجه بوزارة المالية عام 1947 ، وعمل فيها مُدَّة سنة .

     على أثر نجاح روايته الأولى " اعترافات قناع " ( 1949 ) ، قرَّر ميشيما التفرغ كُلِّيًّا للكتابة الأدبية . تحمل الرواية شيئًا من سمات السيرة الذاتية، وتعالج بأسلوب التحليل النفسي مُعاناة شاب شاذ جنسيًّا في وسط اجتماعي يرفض هذه الظاهرة ، وينبذ مثل هؤلاء الأشخاص .

     ركَّز ميشيما في رواياته اللاحقة على شخصيات تعاني من مشكلات نفسية أو أمراض جسدية تعوقها عن الاستمتاع بالحياة والشعور بالسعادة. فكتب عام 1950 " تَوْق إلى الحب "، و"ألوان محظورة " ( 1954 ). وكتب في العام نفْسه " صوت الأمواج " ، ثُمَّ " معبد الجناح الذهبي " ( 1956). أمَّا في روايته" بعد المأدبة " ( 1960 )، فقد تناول ميشيما موضوعًا جديدًا هو الحب في مرحلة الكهولة بين موظف وموظفة في وسطٍ من الفساد السياسي المستشري في دوائر الدولة.

     في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين ، أبدى ميشيما اهتمامًا خاصًّا بموضوعات المسرح الياباني التقليدي القديم ، أي مسرح " نو " الذي يُقارب المأساة بمفهومها الأوروبي ، فاستعاد خمس مسرحيات وقدَّمها بمعالجة جديدة ، ومن منظور الإنسان الياباني الحديث، وأصدرها في كتاب واحد بعنوان " خمس مسرحيات حديثة من مسرح نو " ( 1956) . وبعد سنوات عاد إلى المسرح ، ولكن في صيغته الأوروبية الحديثة في مسرحية " المركيزة دي ساد " ( 1965).

     تُعتبَر الرباعية الروائية " بحر الخصوبة " ( 1965_ 1970 ) أهم أعمال ميشيما وأكثرها نضجًا، ويُمكن أن تُقرَأ على أنها مُؤلفة من أربع روايات منفصلة ، أولاها بعنوان " ثلج الربيع " ، والثانية " الجياد الهاربة " ، والثالثة " معبد الفجر " ، والأخيرة " سقوط الملاك " .

     تقع أحداث الرباعية في اليابان في الفترة ( 1912_ 1960) . وفي كل جُزء من الرباعية تتجلى الشخصية الرئيسية في حالة تقمُّص مختلفة ، فهي شاب أرستقراطي في الجزء الأول ، وسياسي متعصب في الثاني، ثم أميرة في البلاط الإمبراطوري قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، ولتظهر في الجزء الأخير يتيمًا شريرًا في عقد الستينيات .

     ويرى النُّقاد أن هذه الملحمة تُصوِّر في أحد جوانبها رفضَ الكاتب عُقم العصر الحديث الذي غزت فيه الحضارة الغربية اليابان ، وتغلغلت فيها على جميع الأصعدة . ويتجلى فيها أيضًا عشق الكاتب للطبيعة ، واعتناؤه بوصف تفاصيلها .

     في السنوات الأخيرة من حياته ، شكَّل ميشيما جيشًا مُصغرًا درَّبه على أساليب قتال الساموراي، وبث فيه روح الوطنية وحُب الإمبراطور رمز اليابان الأصيلة في مواجهة مادية الغرب أو التطرف الشيوعي .

     وفي 25 تشرين الثاني / نوفمبر عام 1970 احتل الكاتب مع أربعة من أتباعه مكتب آمِر القوات العسكرية في وسط طوكيو ، في محاولة انقلاب فاشلة لاستعادة سُلطات إمبراطور اليابان ،

وخاطبَ مِن شُرفته آلاف العسكريين المجتمعين مُطَالِبًا إياهم بمعارضة دستور ما بعد الحرب الذي يمنع اليابان مِن بناء جيشها الحديث ، والقيام بأية حرب . ولَمَّا كانت استجابتهم سلبية ، انتحر ميشيما أمامهم بأسلوب " سيبوكو " التقليدي بأن بَقَرَ بطنه بسيفه، ثم قام أحد أتباعه بقطع رأسه ، وعُرفت بـ " حادثة ميشيما " .

     وسبق للكاتب أن تنبَّأ بهذه الواقعة في قصته القصيرة " نضال وطني " من مجموعة القصص القصيرة التي نشرها في عام 1966. وقد تُرجمت معظم أعماله إلى اللغة العربية .

     رُشِّحَ ميشيما للحصول على جائزة نوبل للآداب ثلاث مرات، وكان اسمه معروفًا على نطاق عالمي ، ويُعَد من أشهر الكُتَّاب اليابانيين في القرن العشرين، وقد مَزجت أعماله الطليعية بين القيم الجمالية الحديثة والتقليدية ، وحطَّمت الحواجز الثقافية ، وكانت الجنسانية والموت والتحول السياسي من أهم محاورها .

     وفي عام 1988 ، تَمَّ تأسيس جائزة يوكيو ميشيما الأدبية تكريمًا له .

24‏/02‏/2022

يوسف برودسكي ومعارضة الاستبداد

 

يوسف برودسكي ومعارضة الاستبداد

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.......................

     وُلِدَ الشاعر الروسي يُوسُف برودسكي(1940_ 1996) في لينينغراد ، وتُوُفِّيَ في نيويورك. حصل على جائزة نوبل للآداب (1987)، وبذلك يكون واحدًا مِن أصغر الكُتَّاب الذين فازوا بهذه الجائزة . وتَمَّ تعيينه مَلِك شُعراء الولايات المتحدة عام 1991.

     وُلِدَ بُرودسكي في عائلة يهودية في لينينغراد. كان أبوه ألكسندر برودسكي مُصَوِّرًا صحفيًّا حربيًّا ، وقد تَسَرَّح من الجيش في عام 1950 . كانت أُمَّه ( ماريا ) تعمل مُحاسِبة .

     عانى برودسكي خلال طفولته من الحرب وحصار لينينغراد ، والفقر في الفترة بعد الحرب ، ولَم يكن يلتقي أباه إلا نادرًا .

     في عام 1942 انتقل هو وأُمُّه من لينينغراد ، ثُمَّ عادا إليها بعد فك الحصار في عام 1944. ترك برودسكي المدرسة دون أن يتم الصف الثامن ، وتَقَدَّم للمسابقة إلى معهد الملاحة ، لكنه لَم يُقْبَل فيه ، فبدأ التَّدَرُّب للعمل على فارزة في أحد مصانع لينينغراد ، وذلك نظرًا للمشاكل التي واجهته في المدرسة ، ولرغبته في دعم أسرته مالِيًّا .

     خلال الفترة القادمة عمل في عِدَّة مهن ، منها ناظر منارة ، ومُشَرِّحًا في مشرحة . ومُنذ 1957 في بعثات جيولوجية في البحر الأبيض وشرق سيبيريا . وخلال هذه الفترة كان يقرأ قراءة عشوائية وبكثرة، بالدرجة الأولى الأدب الشِّعري والفلسفي والديني،ويحاول تعلُّم اللغتين الإنجليزية والبولونية .

     بَدأت مُلاحقاته في عام 1963، فاسْتُدْعِيَ للتحقيق أكثر مِن مَرَّة ، ووُضع في مصحة عقلية مرتين. وفي عام 1964، تَمَّ اعتقالُه لأول مرة ، وحُكم عليه بالسجن والنفي مع الأشغال الشَّاقة، بتهمة التَّطفل بِحُجَّة أنه لا يَعمل، والإساءة إلى الشِّعر الروسي ، لأن ما يَكتبه مُجرَّد " خُرافات ".

     وحُكم عليه بأقصى عقوبة، وهي العمل في منطقة نائية مُدَّة خمس سنوات ، فَنُفِيَ إلى محافظة أرخانغيلسك. وقد ذَكر برودسكي لاحقًا في إحدى مُقابلاته الصحفية أنَّ تلك الفترة كانت أجمل فترات حياته ، وخلالها كان يدرس الشعر الإنجليزي .

     لكنَّ كُتَّابًا وشُعراء وفَنَّانين وغَيرهم ، رَفعوا احتجاجًا إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وإلى اتِّحاد الكُتَّاب السوفييت ، مِن أجل إطلاق سَراحه ، وهكذا أُطْلِقَ سَراحه بعد ثمانية عشر شهرًا مِن الأشغال الشاقة .

     هُرِّبَت بعض قصائده إلى خارج روسيا، وتُرجمت ونُشرت في أوروبا ، مِمَّا صَعَّدَ مِن مُحاصَرة السُّلطات له ، حيث مُنع مِن النشر في الصحافة السوفييتية نهائِيًّا . لكنَّ قصائده جُمعت في أوروبا وأمريكا ، فَصَدرت له في عام 1965 لأول مَرَّة مجموعة " قصائد " ، ثُمَّ " محطة في الصحراء ".

     في عام 1972، تَمَّ اعتقالُه مَرَّة أُخرى ، وأُجْبِرَ على الرَّحيل من روسيا ، فاختار الرحيل إلى أمريكا ، حيث تُوُفِّيَ فيها في عام 1996. وهناك أصدر مجموعاته الشِّعرية ومُذكراته ومسرحيته الوحيدة ( المرمر ) .

     إنَّ الاضطهاد لَم يَطَلْهُ وَحْدَه فَحَسْب، وإنما امتدَّ لوالديه، إذ مَنعتهما السُّلطات السوفييتية من زيارة ابنهما خارج البلاد حتى وفاتهما دون رُؤيته ، ورؤية ذلك اليوم الذي وقف فيه ابنهما أمام أدباء العالَم مُتَوِّجًا مسيرته الشِّعرية العالمية بِتَسَلُّم جائزة نوبل للآداب في عام 1987.

     خَصَّ برودسكي مسقط رأسه ( لينينغراد ) بالكثير من قصائده . وقد بدأ كتابة الشِّعر وهو في السادسة عشرة مِن عُمره ، حيث كشف مُنذ قصائده الأولى عن مهارة فنية ، وأصالة فريدة ، ونبرة خاصة ، رَكَّزت عليه انتباه مُحِبِّي الشِّعر ، والسُّلطات أيضًا .

     وَلَم يكد يبلغ العشرين مِن عُمره حتى كان معروفًا باعتباره أهم شاعر مُعارِض وغَير رسمي ، بل أصبحت كُل قصيدة يكتبها حَدَثًا أدبِيًّا يَهُزُّ أروقةَ الجامعات وأروقةَ المخابرات أيضًا ، إذ يَتناقلها الناس خُفية بعد أن يستنسخوها بأيديهم .

     مِن أبرز مجموعاته الشِّعرية : قصائد ( 1972) . جُزء مِن الكلام ( 1977) . حَوْل الحزن ( 1995).

23‏/02‏/2022

يورغن هابرماس ونظرية فعل التواصل

 

يورغن هابرماس ونظرية فعل التواصل

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.......................

     وُلد الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس ( 1929 _ ...) في دوسلدورف . عمل والده مديرًا تنفيذيًّا لغرفة الصناعة والتجارة ، و قد وصفه هابرماس الابن بأنه متعاطف مع النازية .

     تربى في أسرة بروتستانتية ، ودرس في جامعات غوتنغن ( 1949 _ 1950 ) ، وزيورخ ( 1950_ 1951 ) ، وبون ( 1951_ 1954). ونال درجة الدكتوراة في الفلسفة من جامعة بون عام 1954 بأطروحة " المطْلق والتاريخ " حول التناقض في فكر شيلنغ .

     في عام 1956 ، درس الفلسفة وعلم الاجتماع على يد المنظِّرين النقديين مِثل ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو في معهد البحث الاجتماعي ( مدرسة فرانكفورت) ، لكن بسبب خلاف بين الاثنين على أطروحته ، بالإضافة إلى اعتقاده الشخصي أن مدرسة فرانكفورت كانت قد أصبحت مشلولة بالشكوكية والازدراء السياسي للثقافة الحديثة ، أنهى تأهيله في العلوم السياسية في جامعة ماربورغ . وكانت دراسته بعنوان " التحولات البنيوية للأوضاع الاجتماعية : تساؤلات ضمن أصناف المجتمع البرجوازي " ( 1961) .

     أصبح أستاذًا في جامعة بورج . وبقرار غير معتاد بالنسبة للمشهد الأكاديمي الألماني في تلك المدة ، رُشِّحَ هابرماس ليكون أستاذًا استثنائيًّا (أستاذ بدون كرسي) للفلسفة في جامعة هايدلبرغ بتوصية من هانز جورج غادامير . وفي عام 1964 عاد إلى مدرسة فرانكفورت مدعومًا مِن قِبَل أدورنو لتولِّي كرسي هوركهايمر في مجال الفلسفة وعلم الاجتماع .

     تسلَّمَ منصب مدير معهد ماكس بلانك في ستيرنبيرج (قرب ميونخ ) في عام 1971 ، وعمل هناك حتى عام 1983 . بعد ذلك، عاد هابرماس إلى كُرسيه في فرانكفورت مديرًا لمعهد البحث الاجتماعي . ومُنذ أن تقاعد من فرانكفورت في عام 1993 ، واصلَ نشر أعماله ذات المواضيع واسعة النطاق ، وطرح خطابًا حول تأهيل الدَّوْر العام للدِّين في السِّياق العَلماني، بخصوص تطور الفصل بين الكنيسة والدولة من الحياد إلى العَلمانية الحادة .

     يُعتبَر هابرماس من أهم الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسة في عالمنا المعاصر. ويُعَد مِن أهم مُنظِّري مدرسة فرانكفورت النقدية. له أكثر من خمسين كتابًا . يتحدث عن مواضيع عديدة في الفلسفة وعلم الاجتماع ، وهو صاحب نظرية الفعل التواصلي . وقد وصل إلى درجة من الشهرة والتأثير العالمي لَم ينجح الرعيل الأول مِن مُمثِّلي النظرية النقدية الاجتماعية والمعروفة في حقل الفلسفة المعاصرة بمدرسة فرانكفورت في الوصول إليها . وعلى الرغم من الثِّقل العلمي لأفكار الجيل الأول ( هوركهايمر ، أدورنو ، ماركوز ، إريك فروم ،... )، إلا أن هابرماس هو الفيلسوف الوحيد الذي فرض نفسه على المشهد السياسي والثقافي في ألمانيا ، بوصفه " فيلسوف الجمهورية الألمانية الجديدة " وَفْقًا لتعبير وزير الخارجية الألماني الأسبق يوشكا فيشر.

     يُعَدُّ هابرماس الوريث الرئيسي المعاصر لتركة مدرسة فرانكفورت . وعلى الرغم من أن هناك أفكارًا مشتركة واضحة بينه وبين أسلافه ، إلا أنه قد نحا بهذه المدرسة منحى مختلفًا. وإذا كان ما يجمع أعمال أدورنو وهوركهايمر وماركوز الاهتمام الشديد بحرية الإنسان مهما بَعُدت إمكانية وجود تلك الحرية عن أرض الواقع، فإن هابرماس أقل حماسًا في هذا الجانب رغم وجوده .إنه يتحرر من التذبذب بين التفاؤل والتشاؤم ، ويُركِّز جُل تفكيره بدلاً من ذلك على تحليل الفعل والبُنى الاجتماعية . ولا جدال في انتماء هابرماس إلى اليسار .

     يتوجَّه هابرماس في أعماله ، وبخاصة في " نظرية فعل التواصل " إلى فلسفة اللغة ، من أجل توسيع أساس النظرية النقدية . وقد قدَّم أُطروحة صعبة يمكن تلخيصها في ثلاث مراحل : الأولى_ يدعو إلى ضرورة التحرر مِن " فلسفة الوعي " التي يعني بها الفلسفة التي ترى العلاقة بين اللغة والفعل كالعلاقة بين الذات والموضوع ( أي التحرر من منظومة الفكر التجريبي ) . الثانية _ يمكن أن يتَّخذ الفعل صورتين، الفعل الإستراتيجي وفعل التواصل. الأول يتضمن الفعل الغائي العقلاني، في حين أن فعل التواصل هو ذلك الفعل الذي يرمي للوصول إلى الفهم . الثالثة_ يترتب على فِعل التواصل الأولي أمران : 1_ العقلانية بهذا المعنى ليس مثالاً نقتنصه من السماء ، بل هو موجود في لغتنا ذاتها ، إن هذه العقلانية تستلزم نسقًا اجتماعيًّا ديمقراطيًّا لا يستبعد أحدًا . 2_ ثَمَّة نظام أخلاقي ضِمني يحاول هابرماس الكشف عنه، وهو نظام الأخلاق الكُلِّية الذي لا يتوجَّه إلى تحليل مضمون المعايير بِقَدْر توجُّهه إلى طريقة التوصُّل إليها ، والتوصل إليها _ حَسَب هابرماس _ يكون عبر نقاش حر عقلاني . أمَّا بالنسبة للرأسمالية فقد اعتبرها هابرماس مرحلة يمكن أن تنحرف فتؤدِّيَ إلى كارثة، لكنها عنده ليست شَرًّا . وحول ماركس يرى هابرماس أن الجزء المبدع لأعماله أصبح مدفونًا تحت النَّزعة الأداتية والوصفية . ويرى هابرماس أن مسؤولية ذلك على عاتق ماركس نفْسه، وعلى تركيزه تركيزًا شديدًا على العمل باعتباره الخاصية المميِّزة للبشر .

مِن أبرز مؤلفاته:النظرية والممارسة(1963).التواصل وتطوُّر المجتمع(1976) . نظرية الفعل الصريحة (1981).الوعي الأخلاقي والفعل التوالي1983.الخطاب الفلسفي للحداثة(1985).

22‏/02‏/2022

يوجين يونسكو والإيقاعات المسرحية المتسارعة

 

يوجين يونسكو والإيقاعات المسرحية المتسارعة

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

....................


     وُلد الكاتب المسرحي الروماني الفرنسي يوجين يونسكو ( 1909 _ 1994 ) في سلاتينا برومانيا لأب روماني أرثوذكسي ، وأم فرنسية بروتستانتية . وتنقلَ بحياته بين رومانيا وفرنسا . وفي عام 1970 أصبح عضوًا في أكاديمية اللغة الفرنسية .

     عاد يونسكو إلى رومانيا مع والديه في عام 1925عَقِب طلاقهما.والتحقَ بكلية سافا الوطنية، بعد ذلك قام بدراسة الأدب الفرنسي في جامعة بوخارست في الفترة ( 1928_ 1933) مِمَّا جعله مؤهلاً كمُعلِّم لغة فرنسية. وبينما كان هناك ، قابلَ كُلًّا مِن إميل سيوران ومرسيا إلياد ، وأصبح هؤلاء الثلاثة أصدقاء مدى الحياة.

     وفي عام 1936 تزوَّجَ يونسكو من روديكا بوريلانو. وأنجبا ابنتهما الوحيدة ، والتي كتب من أجلها يونسكو العديد من قصص الأطفال غير التقليدية . عاد مع عائلته إلى فرنسا في عام 1938 لإكمال أُطروحة الدكتوراة. وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية اضْطُر للعودة إلى رومانيا، ثم غيَّر رأيه وتمكن بمساعدة بعض الأصدقاء من الحصول على بعض التصاريح التي تُمكِّنه من العودة لفرنسا مُجَدَّدًا في عام 1942 ، وبقي هنالك حتى انتهت الحرب، مُقيمًا في مرسيليا ، لينتقل معَ عائلته بعد ذلك للعيش في باريس عَقِب تحريرها .

     على الرغم مِن كَوْنه اشْتُهِر ككاتب مسرحي،إلا أن المسرحيات لَم تكن هي أول مجال خاضه. حيث بدأ بكتابة الشِّعر والنقد، ونُشِرت أعماله في عِدَّة صحف رومانية .

     لَم يبدأ يونسكو في كتابة المسرحيات إلا في وقت متأخر.أول مسرحياته كانت بعنوان " المغنِّية الصلعاء " ( 1948 ) . وعُرِضت لأول مرة على المسرح عام 1950 .

     تُعتبَر أعمال يونسكو المسرحية المبكِّرة، الأكثر ابتكارًا، سواءٌ كانت من فصل واحد أَم تلك التي تتكون من عِدَّة مشاهد هزلية مُمتدة . وتُعبِّر مسرحياته عن المشاعر المعاصرة ، مِن حيث العُزلة واستحالة وعدم جدوى التواصل ، وذلك في قالب هزلي سريالي، يسخر فيه يونسكو من الانسياق خلف البرجوازية وكل أشكال المسرح التقليدية .

    وفي كل هذه الأعمال يرفض يونسكو الاعتماد على حبكة القصة التقليدية كأساس لمسرحياته، وبدلاً من ذلك يستمد الحبكة الدرامية من الإيقاعات المتسارعة والتكرارات الدورية . وبذلك يتجاهل سيكولوجية وترابط الحوارات المتعارف عليها، وبالتالي تظهر الشخصيات التي فقدت إنسانيتها لصالح الآلات ، أشبه ما تكون بالدُّمى التي تتحدث بلا منطق . وتصبح اللغة ركيكة ومُفكَّكة، حيث تكتسب الكلمات والأشياء المادية حياتها الخاصة بها، وتقوم باكتساح الشخصيات شيئًا فشيئًا ، مِمَّا يُولِّد إحساسًا بالخطر .

     بدأ يونسكو في استكشاف حالات دراماتيكية أكثر ثباتًا ، وتضم شخصيات أكثر إنسانية. وهو ما نلاحظه في شخصية بيرينجيه ، وهي شخصية أساسية في العديد من مسرحياته، وآخر مسرحية " السائر في الهواء " . حيث كانت شخصية بيرينجيه أقرب ما تكون شِبه سيرة ذاتية يُعبِّر من خلالها يونسكو عن مدى تعجُّبه و تألمه من غرائبية الواقع الذي يحيط به . حيث كان بيرينجيه ساذجًا بشكل هزلي ، سُرعان ما يتحصَّل على تعاطف الجمهور .

     كتب يونسكو رواية الوحيدة " الناسك " ( 1975 ) . وساهمَ في التنظير للكتابة المسرحية ، حيث كتب محاولاً تصحيح فهم النُّقاد الخاطئ لأعماله ، وأنهم قد أثَّروا بذلك على الجمهور .

     وفي هذا الصدد ، أوضحَ يونسكو عِدَّة طُرق يعتقد أنها قد تُساهم في إصلاح المسرح المعاصر، ويُعتبَر كتاب" ملاحظات وملاحظات مُضادة " تجميعًا لكتابات يونسكو التي تحوي تأملاته وأفكاره حيث يُخبرنا لماذا اختارَ الكتابة للمسرح، كما تحتوي أيضًا رَدَّه المباشر على نُقَّاده المعاصرين .

     في القسم الأول ، والذي كان بعنوان "تجربة المسرح"، يقول يونسكو إنه كان يكره الذهاب إلى المسارح في طفولته " لأنه لَم يكن يشعر بأي متعة ، وأن ما يُعرَض لَم يكن يُلامسه " . وكتب: إن المشكلة مع المسرح الواقعي تكمن في كَوْنه أقل إثارة للاهتمام من المسرح الذي يعتمد على "الحقيقة التَّخَيُّلية ". والتي يعتقد أنها مثيرة للاهتمام وأكثر حرية من الحقائق الضَّيقة التي تُقدَّم بواقعية شديدة الصرامة . ويرى أن " الدراما التي تستند على مؤثرات بسيطة ليست بالضرورة دراما مُبسَّطة " .

     مِن أبرز مسرحياته:معرض السيارات (1951).المستأجر الجديد(1955).القاتل(1958) . الخراتيت ( 1959) . الملِك يُحتضَر ( 1962) . ذو الحقائب(1977) . زيارة الموتى (1980 ) .

21‏/02‏/2022

يوجين أونيل وقاع المجتمع

 

يوجين أونيل وقاع المجتمع

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

......................

     وُلد الكاتب المسرحي الأمريكي يوجين أونيل ( 1888_ 1953) في فندق متواضع في حي برودواي ، حيث كانت تقيم العائلة إقامة مؤقتة . حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1936.

     كانت ولادة أونيل على يد طبيب غير ماهر ، فَعُولِجت والدته بالمورفين وأدمنته . ولَمَّا عَلِمَ في سن المراهقة أن والدته أصبحت مدمنة بسبب ولادته، شعر بالذنب ، وثارَ على كُلِّ ما يُمثِّل السُّلطة ، خصوصًا الجانب الديني منها . وهذه الصدمةُ أدخلته في حرب روحية مع نفْسه .

     كان والده مهاجرًا أيرلنديًّا إلى الولايات المتحدة ، حيث عمل فيها ممثلاً ومدير مسرح . تبع أونيل والده في جولاته ، وقضى سنوات طفولته في غرف الفنادق، أو مسافرًا، أو منتظرًا خلف كواليس المسارح التي عمل والده فيها ، فافتقد إلى الاستقرار ، إلا أن المسرح كان جزءًا أساسيًّا من حياته . لَم يستطع أونيل إكمال دراسته بسبب سفره المتواصل مع والده وفرقته المسرحية. وقد التحق بجامعة برنستون عام 1906 ثم تركها ساعيًا للحصول على ما أسْماه" التجربة التعليمية الحقيقية". ثارَ أونيل على والده ، فقد رأى الأشياء الرومانسية الزائفة التي جعلته يحتقر المسرح ، وحاولَ أن يكتشف طريقَه الخاص بعيدًا عن والده، فعملَ بَحَّارًا، وقضى وقته يَتسكَّع في الموانئ، وأدمنَ الكحول، وحاول الانتحار. ولَمَّا بلغ الرابعة والعشرين عمل صحفيًّا، ونشر بعض القصائد. لكنه أُصيب بالسُّل ، واضْطُر أن يَقضيَ ستة أشهر في مصحة . وهذه الفترة كانت فرصة له لِيُعيد حساباته ، وَيُصلِح نَفْسَه ، ويبدأ الكتابة للمسرح . وكانت مسرحياته الأولى تمتلئ بالمومسات والمدمنين والبَحَّارة، وتناقش قضايا : فقدان العدالة ، وغياب المساواة ، وانتشار الظلم الاجتماعي. التحق بجامعة هارفارد عام 1914 ليدرس مادة الكتابة المسرحية على يد الناقد جورج بيكر، وأعطته هذه الفترة فرصةً للتركيز في الكتابة . وفي عام 1916قامت فرقة مسرحية تجريبية بتمثيل أُولى مسرحياته . وأعطته هذه المسرحية بعض الشهرة . وفي عام 1920 عُرضت مسرحيته الطويلة " وراء الأفق " على مسرح برودواي الشهير . تُصَوِّر هذه المسرحية أخوَيْن يُحبان الفتاة نفسها، غَير أن أحدهما مُولَع بالبحر والمغامرات . مَدَحَ النُّقادُ الواقعيةَ المأساوية للمسرحية ، ونال أونيل جائزة بوليتزر عنها . وفي السنوات التالية ( 1920_ 1943 ) كتب عشرين مسرحية طويلة ، فازدادت شُهرته ، وارتفعت مكانته الأدبية ، خصوصًا في أوساط الجمهور المسرحي . وأصبحت أعماله من أكثر الأعمال الأدبية ترجمةً وإخراجًا .

     يُعتبَر أونيل المؤسس الحقيقي للمسرح الأمريكي ، حيث قام بتطويره ليصبح جنسًا أدبيًّا قائمًا بذاته . واستطاعَ من خلال مسرحياته تقديم مواضيع جديدة ، واستقطاب الجمهور والنُّقاد . كما يُعتبَر من أوائل الكتاب المسرحيين الذي درسوا الصراع داخل عقل الشخصية بين البواعث الشعورية والحاجات ، وساعده على ذلك دراسته لعلم النفس الحديث ، خصوصًا أفكار فرويد .

     وقَدَّمَتْ مسرحياته للدراما الأمريكية تقنيات الواقعية ، وأظهرت الشخصيات في قاع المجتمع، وصَوَّرت الإنسان في عصر التكنولوجيا، وكيفية تَحَوُّله إلى ضحية للآلة.وكل مسرحياته تقريبًا تتضمَّن قَدْرًا من التراجيديا والتشاؤم والانكسار .

     عَرف أونيل من خلال الوضع الذي عاشه أحوالَ الطبقة السُّفلى من المجتمع ، عالم الفنادق وحانات البَحَّارة الرخيصة. وتجاربه الشخصية كانت المادة الأولى التي استخدمها لكتابة مسرحياته.

     لقد سَلَّطَ الضوء على قاع المجتمع ، وأبرزَ أحلامَ المنبوذين ، وأظهرَ معاناة الفقراء ، ووضَّح مشاعر المسحوقين ، في عالَم قاسٍ لا يَرحم . كما أنه فضح المجتمع المادي الذي يَقتل الجوانب الروحية . وتبرز في أعماله المسرحية فكرتان رئيسيتان : الأولى _ الحياة وَهْم . والثانية _ الإنسان غير قادر على فهم الحياة .

     بدأ أونيل كتابة المسرحيات في عام 1913 ، وانتهى به المطاف ليصبح أبرز كاتب مسرحي في أمريكا ، بعد أن نجح في تحويل حياته الشخصية إلى فن مسرحي . وكان يهدف من هذه العملية إلى التحكم بحياته ، وإعادة صياغتها من أجل تحليل تفاصيلها واستيعاب أحداثها .

     امتلأت حياته الخاصة بالأزمات الاجتماعية ، فقد تزوج ثلاث مرات ، وأنجب ثلاثة أولاد، ولكنه أصبح غريبًا عن كل أولاده ، وقد انتحر أكبرهم . أُصيب أونيل بمرض منعه من الكتابة ، ثم مات في غرفة بفندق في بوسطن ، بعد أن قال بمرارة وسُخرية : (( وُلدتُ في غرفة فندق ، وأموت في غرفة فندق )) .

     ويبقى أونيل هو الأب الشرعي للمسرح الأمريكي، ولا يُنافسه في مَنْزلته أي كاتب مسرحي، خصوصًا في نظرية المأساة التي طَوَّرها . فقد اعتبرَ أن العاطفة مهمة جِدًّا، وأن التعبير عنها  بالمسرح المأساوي يُعطي الإنسان نوعًا من التَّفهم الروحي .

     من أبرز مسرحياته: وراء الأفق ( 1920 ) . الإمبراطور جونز ( 1921) . أنَّا كريستي ( 1922) . رغبة تحت شجر الدردار ( 1924) . فاصل غريب ( 1928) .