وُلد الشاعر الأيرلندي وليام بتلر ييتس ( 1865_ 1939) في دَبلِن . لَم يكن أديبًا منعزلاً أو
عائشًا في بُرجه العاجي ، بل كان مُنخرِطًا في الحياة الاجتماعية . وبالإضافة إلى
كَونه شاعرًا ، كان كاتبًا مسرحيًّا ، ومدير مسرح ، وشخصية وطنية ، وعُضْوًا في
مجلس العموم البريطاني .
كان والده محاميًا ذا شخصية قوية ، حرص على
تنشئة أطفاله في مناخ ثقافي ، فكان يقرأ لهم الشعر والقصص من أعمال شكسبير وغَيره
. ومن شِدَّة ولع الأب بالثقافة والفنون ، قرَّر أن يترك مهنة المحاماة ، ويصبح فنَّانًا
، فالتحق بمدرسة للفنون وأصبح
واحدًا من الرسامين المعروفين . أمَّا الأم ، فكانت هادئة وانطوائية ، وقد شكَّل
موتُ أحد أطفالها صدمةً نفسية لها ، بقيت مُلازِمةً لها حتى وفاتها .
عاش ييتس في بيئة أرستقراطية ، وكانت عائلته
فاحشة الثراء، وقد قضى طفولته في قصر جدِّه لأُمِّه، الذي كان يمتلك أُسطولاً من
السُّفن التجارية . وطفولته الْمُرَفَّهة في هذا القصر الكبير الذي يحتوي على غرف
كثيرة وممرَّات عديدة ، كانت عاملاً أساسيًّا في تنمية خيال الطفل ، وإقحامه في
عالَم الأساطير والخيالات . فصار يُؤمن بوجود الأشباح . وقد زعم فيما بعد أنه شاهد
أول شبح في حياته عندما كان في قصر جَدِّه. والحكاياتُ المتعلقة بالأشباح
والجِنِّيات والأرواح الخارقة للطبيعة ، كانت شائعةً في أيرلندا في تلك الفترة ،
حتى إِن الخدم العاملين في القصر كانوا يتحدَّثون عن الجِنِّيات ، وكانوا يربطون
هذا الموضوع بالعذاب والخوف والخطر .
انعكسَ موضوع الأشباح والجن على أشعار ييتس
، ففي قصيدة " الطفل المسروق " تبرز الأسطورة الشعبية التي تقول إِن
الجِنِّيات قادرات على خطف الناس ، وإجبارهم على البقاء في عالَم الجن . وفي قصيدة
" في ضيافة الجن " ، يتخيَّل الشاعر أعدادًا هائلة من الجن يَمتطون
ظُهور الخيل، ويَطوفون في طُول البلاد وعَرْضها . وهذه الأجواء الأسطورية متعلقة
بطفولة الشاعر ، إِذ إِنه نشأ في قصر جَدِّه الذي كان يضمُّ حصانًا وكلابًا
يستخدمها الأطفال لمطاردة الأرانب .
سيطرت هذه الصور على خيال ييتس وتفكيره ،
بحيث احتلَّتْ حياتَه وفلسفته. ولَم تقف هذه الأجواء عند الطفولة . ففي فترة شبابه
، كان يمشي في الأماكن النائية ، ويقضي الليالي في أحد كهوف الغابة . وهذه الأماكن
المحبَّبة إليه ، سيطرت على قلبه وتفكيره وإنتاجه الشِّعري . وكثير من هذه الأماكن
يَرِدُ في أشعاره .
كان ييتس طالبًا ضعيفًا في المدرسة، وعانى
كثيرًا من مشكلات في القراءة . لكنه بدأ يكتب الشِّعر في الخامسة عشرة مِن عُمره .
وقصائدُه الأولى كانت عن الساحرات وفُرسان العُصور الوُسطى الذين يلبسون الدروع ،
وهي قصائد بسيطة ، لكن شِعره بدأ بالتحسن فنيًّا حين صار يكتب عن الأساطير
والخرافات الأيرلندية .
اقتربَ ييتس من العوالم الروحانية ، وما فوق
الطبيعة ، وصار مشغولاً بالقضايا المستورة في هذا الوجود . وفي العشرين من عُمره ،
ساهم في تأسيس " جمعية دَبْلِن لعلوم السِّحر " التي تُعْنَى بتدريس
الفلسفة الهندية والروحانيات والغَيبيات . وفي العام التالي ، انضمَّ إلى "
نظام البزوغ الذهبي " ، وهي جمعية سرية طوَّرت تدريس السِّحر وكيفية تطبيقه
على أرض الواقع . وهذه العوالم ليست غريبة عن ييتس، ففي شبابه كان مشغولاً
بالرُّؤى والخواطر وتأثير الكواكب والأمور الخارقة للطبيعة . وكل هذه المفاهيم
ظهرت في شِعره بصورة أو بأُخرى .
في عام 1889 ، التقى بممثلة جميلة تُدْعَى
" ماود جونيه"، وأغلب شِعره العاطفي مُوَجَّه لها . وقد تقدَّم للزواج
منها عدة مرات ، وكانت ترفضه بقسوة . ثم التقى الكاتبة المسرحية الليدي غريغوري ،
وأسَّس معها " المسرح الأدبي الأيرلندي ". وفي عام 1911 ، قابلَ ييتس في
بيت أحد أصدقائه شابةً جذابة تُدْعَى " جُورجيا هايدليس " عمرها ثمانية
عشر عامًا . كان قارئة نَهِمَة ، ومثقفة تتكلم عدة لغات ، ومتعلقة بعالَم السِّحر والغَيبيات
، وقد انضمَّت إلى جمعية " نظام البزوغ الذهبي". وقد عَقَدا زواجهما عام
1917 رغم فارق السن ، وغياب العواطف المتبادَلة .
صارَ ييتس عُضْوًا في مجلس الشيوخ في أول
حكومة أيرلندية،خلال الفترة ( 1922_1928) وسعى بكل طاقته إلى إحياء التراث الثقافي
الأيرلندي ، وفنونه المعمارية ، وآثاره القديمة . وكان مُدافِعًا عن حرية التعبير
، وعمل جاهدًا على تحسين مستوى المدارس الأيرلندية . فازَ ييتس بجائزة نوبل للآداب
عام 1923 ، وواصلَ الكتابة حتَّى مَوته عام 1939 . وقد قضى سنواته الأخيرة في جنوب
فرنسا بسبب وضعه الصِّحي. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945 ، نُقل
جُثمانه إلى أيرلندا، ودُفن في إحدى الكنائس . وضمَّ شاهدُ قبره أبياتًا شعرية له:
(( عَين باردة تُحَدِّق / في الحياةِ والموتِ / وفارس يَعبر بينهما )) .