وُلِد الشاعر الأمريكي
والت ويتمان ( 1819_ 1892) لأبوين ينتميان إلى أصول إنجليزية وهولندية . عاشت
عائلته في بروكلين بين عَامَي 1832و1833، حيث تلقَّى تعليمه الأولي فيها ، لكنه
لَم يُكمِل تعليمه، واشتغل صَبِيًّا في مطبعة. وكان يقرأ كل ما تصل إليه يداه. واستطاعَ
نتيجةً لاطِّلاعه المستمر أن يعمل بالتدريس، ولكنه تركه بعد ذلك للعمل في الصحافة
وكتابة المقالات.
اشتغلَ
بالسياسة ، وكان مِن الرُّواد
الأوائل الذين أرسوا دعائم الديمقراطية الأمريكية ، واتَّسعَ نشاطه الأدبي
والسياسي، لدرجة أنه بعد عام 1841،كان يُراسل ويكتب في أكثر من عشر مجلات في
بروكلين ونيويورك، ولكن الأشعار التي نشرها في
هذه الفترة كانت تقليدية وهزيلة ، والقصص التي نشرها في المجلة الديمقراطية (
1841_ 1845) كانت سطحية ومُسرِفة في العاطفة .
في عام 1846، أصبحَ رئيسًا لمجلة بروكلين
الناطقة بلسان حال الحزب الديمقراطي ، والتي هاجمَ فيها كل أنواع التعصب والفاشية
والدكتاتورية ، مُؤكِّدًا أنه لا ازدهار لأُمَّة إلا بترسيخ الديمقراطية فيها .
وأثناء عمله في سكرتارية مكتب الهنود
الحمر بوزارة
الداخلية الأمريكية، صدر له ديوان " أوراق العشب "، فقام الوزير
بطرده على أساس أنه عمل غير أخلاقي. لكنَّ الكُتَّاب والمثقفين لَم يتحملوا هذه
الإهانة التي لحقت بالشاعر الكبير ، ووقفوا ضد قرار الوزير .
في عام 1862، سافرَ إلى فرجينيا لزيارة أخيه
جورج الذي جُرح في إحدى المعارك ، وعادَ إلى واشنطن كَي يتطوَّع للعمل كمُمرِّض في
مستشفيات الجيش لخدمة الجنود الشماليين والجنوبيين على السواء.وقد سَجَّل ذِكرياته
في الحرب في كتاب وصفي بعنوان "مذكرات الحرب" ( 1875).
تأثرَ شِعره بهذه التجربة الإنسانية ، فكتب
ديوان " دقَّات الطبل " ( 1865) ، ثم أعادَ طبعه عام 1866، مُضِيفًا القصائد
التي يَرثي فيها أبراهام لينكولن ( أول رئيس أمريكي يتم اغتياله ) .
وفي عام 1873، أُصيب بنوبة شلل. وقد أثَّرَ
ذلك على كتاباته، وغيَّرت مِن أفكاره ، فتحوَّلَ أسلوبه الواقعي المباشر إلى صور
التلميح والتجسيد الفني المركَّب . كما تبدَّلت فلسفته التي تَعتبر الكون مادة
واحدة، كي تصبح مثالية روحانية يغلب عليها التصوف . وهبطت درجة حماسه المطْلق
للحرية الفردية إلى تأييد مُطْلق للنظام الذي يتحرَّك المجتمع في إطاره .
لُقِّبَ ويتما بـِ " أب الشعر الحر
"، حيث إنه ضَرب بكل القوالب الشعرية القديمة عُرض الحائط ، وتمكَّنَ من
تحطيم القوالب الأوروبية التي كان يُصَبُّ فيها الشعر الأمريكي عُنوةً ، مِمَّا
جعله مُجرَّد تقليد باهت يخلو من عناصر الأصالة والحداثة والابتكار والتجديد .
ويُعتبَر ويتمان رائدًا للشعر الأمريكي، كما يُعتبَر مارك توين رائدًا للرواية
الأمريكية ، ويوجين أونيل رائدًا للمسرح الأمريكي. كما يُعتبَر أهم شاعر عبَّر عن
الديمقراطية الأمريكية. وكان أول شاعر أمريكي يحوز إعجاب الأمريكيين والأوروبيين
على حَد سَواء .
واعتبرَ علماءُ النفس أشعاره مادةً خصبة
لدراسة مُكوِّنات النفس البشرية . كما اعتبره النُّقاد فيلسوفًا ، إذْ كان يملك
النظرة الشاملة المتكاملة إلى الكون والأحياء، وهي النظرة التي احتوت الإنسان
والمجتمع، والعلاقة بينهما مِن حب وديمقراطية وغموض وصراع .
تُعتبَر مجموعته الشعرية " أوراق العشب
" التي ظَهرت طبعتها الأولى عام 1855، أعظم ما كتب ويتمان على الإطلاق . وقد
قضى معظم حياته المهنية يكتب ويُعيد الكتابة ويُراجع " أوراق العشب "
مرَّات عديدة حتى وفاته . وهذا نتج عنه وجود عِدَّة طبعات مختلقة بعضها عن بعض .
فعلى سبيل المثال ، تتكوَّن الطبعة الأولى من 12 قصيدة ، في حين أن الطبعة الأخيرة
تتكوَّن من 400 قصيدة ! .
والقصائد في " أوراق العشب "
تربطها علاقة طليقة، وتُمثِّل كل قصيدة منها احتفال ويتمان بفلسفته عن الحياة
والإنسانية . ويتناول الكتابُ قضية الابتهاج بالحياة والاستمتاع بالْمُتَع
الحِسِّية في زمن كانت مِثل هذه المجاهَرة تُعتبَر وقحةً وغير أخلاقية .
اعتمد ويتمان في هذه المجموعة على الرمزية والتمثيل والتأمل في
مسائل دينية وروحية،
وَمَجَّدَ " أوراقُ العشب " الجسمَ والعالَمَ المادي ، وهو يتأثر بحركة
الفلسفة المتعالية ، وهي نفسها فرع من حركة الرومانسية الأوروبية
.
وشِعر ويتمان يمدح الطبيعة ومكان الإنسان الفردي فيها . ولكنه لا يُقلِّل مِن دور العقل أو الروح ، وإنما يرفع الهيئة البشرية والعقل البشري ، وهو يعتبر كِلَيْهما جديرَيْن بالمديح .