وُلد الفيلسوف وعالم
الرياضيات الإنجليزي ألفريد نورث وايتهيد ( 1861_ 1947 ) في رامسجيت بإنجلترا . تعلمَ
في مدرسة شربورن في دورسيت،وكانت مدرسة عامة في المدينة. وكانت طفولته وتربيته
تربية محافظة ، ولكن قد أبدى تفوقًا ملحوظًا في التربية الرياضية والرياضيات ،
مِمَّا جعله في ترتيب متقدم على أقرانه في الدراسة .
بدأ حياته الجامعية بدراسة الرياضيات البحتة
والتطبيقية ، في كلية ترينتي بجامعة كامبردج
( 1880_ 1884 )، فبرز فيها، وعُيِّن
محاضرًا بالجامعة نفسها ( 1885_1910)، وكان برتراند راسل من أبرز تلاميذه ، ثم
زميلاً وصديقًا له .
انتقل وايتهيد إلى لندن لتدريس الرياضيات
التطبيقية في كلية الجامعة ( 1910_ 1914) ، ثم صار أستاذًا في الكلية الإمبراطورية
للعلوم والتكنولوجيا حتى عام 1924. وفي أثناء تلك الفترة شغل وايتهيد عِدَّة مناصب
أكاديمية ، منها عميد لكلية العلوم في جامعة لندن ، ورئيس للمجلس الأكاديمي
للتربية والتعليم، وعضو في الجمعية الملكية، ولاحقًا زميل في الأكاديمية
البريطانية، إلى أن دعته جامعة هارفارد الأمريكية أستاذًا للفلسفة، وبقي هناك حتى
وفاته ، وفيها أتم تطوير فلسفته الميتافيزيقية والأنطولوجية . وقد مُنح وسام
الاستحقاق عام 1945 .
والجديرُ بالذِّكر أن وايتهيد وراسل هُما
واضعا عِلم المنطق الرمزي أو
الرياضي . وقد ساعدت كتابات وايتهيد كثيرًا في تقريب المسافة بين الفلسفة والعلوم
. وتعكس أعماله معرفته المسبقة بالعلوم . وقد أصر على أن المعرفة العلمية بالرغم
من أنها مُحدَّدة إلا أنها غير مكتملة، ويجب أن تكتمل ، وقال إن ذلك يتم بالأسس
الفلسفية .
ينقسم نشاط وايتهيد الفكري إلى ثلاث مراحل :
الأولى_ مرحلة الأبحاث الرياضية والمنطقية
( 1898_ 1914) . وفيها حاول وايتهيد تنفيذ جُزء من برنامج العالِم الألماني
ليبنتز بوضع علم كُلِّي الحساب ، يُسهِّل التفكير في كل ميادين الفكر . وكانت أهم
كتاباته في هذه المرحلة " بحث في الجبر العام " ( 1898 ) ، و" المبادئ الرياضية " الذي
كتبه مع برتراند راسل في ثلاثة أجزاء ( 1910_ 1913).كما كتب أبحاثًا صغيرة مهمة
منها " المفاهيم الرياضية للعالَم المادي " ( 1906) . والثانية _
مرحلة علم الطبيعة ( 1917 _ 1925 ) . وقد تَمَثَّلت في كتبه: " تنظيم الفكر
" ( 1917) ، و" مبادئ المعرفة الطبيعية " ( 1919 ) ، وغَيرهما .
والمرحلة الأخيرة هي مرحلة الميتافيزيقا ،
التي تَجَلَّت في كُتبه : " الدين في مراحل تكوينه " ( 1926 ) ، و " الصَّيرورة والواقع
" ( 1929 ) ، و" مغامرات الأفكار " ( 1933) .
تكشف فلسفة وايتهيد عن بعض التداخل بين
مراحل تطوره الفكري الثلاث ، تمثلت في محاولته للجمع بين عالَم المنطق الرياضي
وعالَم الطبيعة والعالَم الخلُقي والديني والجمالي والاجتماعي، فبدأ بمهاجمة
التصور التقليدي للرياضيات، التي يُنظَر إليها على أنها علم العدد والكَم فقط، أو
عِلم الكم المنفصل والمتَّصل ، ثُمَّ تبنَّى الفكرة القائلة إن الرياضيات نتيجة
تلزم عن بعض العلاقات المنطقية الصورية ، وهذه العلاقات هي التي تُعطي الأنساق
الاستنباطية خاصتها الصورية، والتي تجعلها أشبه بالقوالب التي يمكن ملؤها بالقيم
المناسبة المأخوذة من عالَم الخبرة والتجربة .
وقد طوَّر هذه الفكرة في كتابه " مبادئ
الرياضيات " ليرد بها الرياضيات إلى المنطق، واستفاد منها في بحثه للمفاهيم
الرياضية في العالَم المادي ، وتصوُّره لفلسفة الطبيعة، فرفض آراء نيوتن
الكلاسيكية التي تُفسِّر العالَم بأنه جزيئات أو ذرات تشغل حَيِّزًا من المكان
والزمان . ورفض رأي آينشتاين أن المكان علاقة بين أشياء فيزيائية ، وقال إن المكان
علاقة بين أحداث مُدْرَكَة بالحس مباشرة، فأرجع نسبية المكان إلى الإدراك الحِسِّي،
وليس إلى الواقع الموضوعي في الطبيعة ، كما قال بأن للعالَم خطوطًا من القوة لها
اتجاهات ومسارات من الأحداث تعترض بعضها بعضًا .
ويتجلى إسهامه في الفلسفة في كتابه "
الصيرورة والواقع". ويَبدأ بالفلسفة العضوية التي يَعُدُّها
أساسًا لتفسير الكون . وقد جاءت معالجته لهذه الفلسفة مُعقدة نتيجة لاستخدام
مصطلحات وتعميمات مأخوذة من علوم عديدة ، كعلم الأحياء وعلم النفس الاستنباطي ،
حيث جمع بين الأفكار المنطقية والرياضية والطبيعية والبيولوجية والسيكولوجية،
وكذلك الأفكار الجمالية والدينية في إطار واحد ينتهي إلى مبادئ ميتافيزيقية هي
غاية في التعميم، وهذا التعميم يتَّجه من الجزئي إلى الكُلي، ويقوم على الوصف أكثر
مِمَّا يقوم على الاستنباط ، وهو منهج البحث الفلسفي .
ويُقيم وايتهيد مذهبه في الوجود على أساس فكرتين ، الأولى: كُل الأشياء في تدفق أو جريان دائم ، مُتَأثِّرًا بهيراقليطس . والثانية : فكرة بقاء الأشياء . ويسعى إلى التوفيق بينهما باستخدام الأفكار الفلسفية . إن أعمال وايتهيد بقيت جُزءًا من التفكير المنغلق المنطوي على ذاته ، ولَم يَترك إلا أثرًا ضئيلاً في الفكر الفلسفي المعاصر ، باستثناء التأثير الكبير الذي تركه وايتهيد بما أنتجه في المنطق الرمزي بالاشتراك مع راسل .