وُلد الفيلسوف وعالِم
الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم ( 1858 _ 1917 ) في مدينة إبينال بفرنسا ، حيث
نشأ في عائلة من الحاخامات ذات الأصول اليهودية. وكان تلميذًا بارعًا ، وما لبث أن
التحق بمدرسة الأساتذة العليا ( وهي مِن أفضل
مؤسسات التعليم العالي في فرنسا ) عام 1879 ، غير
أن الأجواء بالمدرسة لَم تُعجبه ، فالتجأ إلى الكتب ليتجاوز الفلسفة السطحية _ في
نظره _ التي كان يَدين بها رفاقه . وهكذا اكتشف أوغست كونت الذي
أثَّرت مؤلفاته عليه تأثيرًا عميقًا، فاستقى منها مشروع تكريس عِلم الاجتماع كعلم مستقل قائم
بذاته ، يهدف إلى كشف القواعد التي تخضع لها تطورات المجتمع .
عاصرَ دوركايم أحداثًا سياسية كبيرة شهدها
المجتمع الفرنسي آنذاك ، وكانت شديدة التأثير فيه ، وفي التطورات الاقتصادية
والاجتماعية التي شهدها فيما بعد ، فبعد هزيمة فرنسا ( 1870) شهدت باريس ثورة
عمالية كبيرة أثَّرت، مع ما أنتجته من تطورات اجتماعية وسياسية وثقافية، في
معتقدات الشباب وأفكارهم حول المجتمع والتماسك الاجتماعي، وقد اهتمَّ دوركايم بهذه
التغيرات حتى أثرت في شخصيته وتفكيره واتجاهاته النظرية والعلمية، وتجلى ذلك في
انضمامه إلى اتحاد الشبيبة العلمانية، غير أن أزمة روحية وأخلاقية قوية ألَمَّت به
بعد حرب عام 1914، وموت ابنه، فماتت معه الآمال الكبيرة التي كان يبنيها على
عالمية الأخلاق الاجتماعية .
جاءت
تحليلات دوركايم للحالات الوجدانية والعاطفية عند البشر ، على الطرف المقابل
لتحليلات عِلم النفس ، فلا تأتي هذه الحالات من طبيعة الإنسان السيكولوجية ، كما
يذهب إلى ذلك المشتغلون بِعِلم النفس ، إنما هي نوع من الشعور الذي ينمو من خلال
التفاعل الاجتماعي بحسَب حجم الجماعات البشرية ، وبحسَب بُعدهم أو قُربهم من بعضهم
، وبما أن هذه الحالات الوجدانية هي من نتائج الحياة في الجماعة، فطبيعة الجماعة
هي وحدها التي تستطيع أن تُفسِّرها .
حاولَ
دوركايم توضيح طبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع، وتحليلها على أساس شكل التضامن
الاجتماعي أو التماسك ، ويُميِّز في هذا السياق بين التضامن الآلي والتضامن
العُضوي . والشكل الأول يصف المجتمعات البدائية، حيث يشترك الفرد كُلِّيًّا بالقيم
والمعتقدات الدينية مع الجماعة ، إذ يمتص المجتمع الشخصية الفردانية ويستوعبها إلى
أبعد الحدود، وينطبق الضمير الجمعي كُلِّيًّا على الضمير الفردي ، فيأتي تفكير
الإنسان البدائي متوافقًا تمامًا مع مصلحة الجماعة، وبحسَب ما تفرضه عليه وتأمره
به. أمَّا الشكل الثاني (التضامن العُضوي) فهو ينتج مِن تقسيم العمل بين أفراد
الجماعة الواحدة، أو بين الجماعات المختلفة في المجتمع الأكبر الأكثر تعقيدًا، فمع
تطوُّر المجتمعات يتوزع الأفراد على مجموعة من الوظائف المتخصصة تجعلهم يعتمدون
على بعضهم بعضًا، ويأتي تفاعلهم نتيجة حاجاتهم لبعضهم، وهي الحاجات التي تنمو
باستمرار مع نمو المجتمع نفْسه ، ومع تطوره .
وتأتي
دراسة دوركايم لموضوع"الانتحار"، في سياق برهنته على نظريته في التضامن
الاجتماعي، ففيها توضيح لأهمية التفسير الاجتماعي للظواهر الفردية ، فالانتحار كما
يبدو للوهلة الأولى شأن خاص، وهو من حيث المبدأ سلوك فردي،وعمل يقوم به الفاعل
نتيجة مشاعر وأحاسيس وعواطف تُسيطر عليه لحظة إقدامه على الانتحار ، ولكنه من حيث
النتيجة فِعل اجتماعي يخضع لمجموعة كبيرة من العوامل الاجتماعية والقوى المؤثرة في
شخصية الفاعل. ويؤكد دوركايم في هذا السياق أن الميل للانتحار لا يرجع إلى الحالة
النفسية للفرد، أو سمات البيئة المادية المحيطة به، وإنما يرجع في المقام الأول
إلى طبيعة علاقة الفرد بالمجتمع، فالانتحار بهذا المعنى يُجسِّد عدم قدرة الفرد
على إقامة علاقة متوازنة وصحية اجتماعيًّا مع مَن يُحيطون به ، في الوقت الذي يؤدي
انصهاره في المجتمع إلى ضعف ميل الفرد للانتحار حتى معَ قسوة الظروف التي يعيشها .
إن بُنية التحليل الاجتماعي عند دوركايم تقوم على مبدأين أساسيين هُما : اجتماعية
الإنسان ، والتضامن الاجتماعي. ومن خلالهما تتكون المعايير الأخلاقية والضوابط
ونُظُم التفاعل، فالإنسان اجتماعي بطبعه، ويحتاج إلى غيره في مأكله ومشربه ومسكنه،
ولا قوام لحياته دون تفاعله مع غيره. وقد سبق للعلامة العربي ابن خلدون أن أشار
إلى ذلك بوضوح، وبَنى عليه نظريته في علم العمران ، كما سبق لابن خلدون أيضًا أن
بحث في مفهوم العصبية التي تنطوي في مضمونها على درجة عالية من التضامن الاجتماعي
أو التماسك الذي تحدَّثَ عنه دوركايم .
والعصبية عند ابن خلدون تُشكِّل الأساس الذي تُقام عليه الدولة والتنظيم
الاجتماعي . وفي تأكيده مفهوم العصبية وأثرها في قيام الدولة وتطوراتها، ما يُشير
إلى أن لابن خلدون السبق في الإشارة إلى أهمية الروابط الاجتماعية التي تجمع
الأفراد، وتُشكِّل الأساس الذي تُبنَى عليه نشاطاتهم وأفعالهم ، وهي القضية التي
تظهر في تحليلات سبنسر ، وماركس ، ودوركايم ، وحتى ماكس فيبر.
مِن أبرز أعمال دوركايم : حول تقسيم العمل الاجتماعي ( 1893 ) . قواعد المنهج في عِلم الاجتماع ( 1895 ). الانتحار ( 1897 ) . الأشكال الأولية للحياة الدينية ( 1912).