سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

31‏/07‏/2021

معالم طريق الإنسان في الحياة

 

معالم طريق الإنسان في الحياة

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

....................

تحويل الأفكار الثقافية إلى ظواهر اجتماعية يتطلَّب إزالة الحدود بين الشعور والوَعْي ، وفتحهما على تاريخ الوجود الإنساني بكل تفاصيله . والغايةُ من هذه العملية تكوين أساس منطقي للمجتمع ، باعتباره نظامًا للمعاني الرمزية في سُلوكيات الفرد واتِّجاهات الجماعة ، ومنظومةً للتجارب الوجدانية والتغيرات المادية . ولا يُمكن للمجتمع أن يجد هُويته الشخصية ومَعناه الوجودي وماهِيَّته التاريخية إلا إذا انفتحَ على نَفْسِه ، وفَكَّ العُزلةَ عن أنساقه الداخلية ، وكَسَرَ الحواجزَ بين دَلالات الوَعْي وتطبيقاته . والإشكاليةُ المركزية في بُنية العلاقات الاجتماعية لَيست شُعور الفرد بالغُربة ، وإنما اغتراب المجتمع عن ذاته ، بسبب غرقه في متاهة النظام الاستهلاكي المُغلَق ، وهذا يُشعِر الفردَ بأنه مُنفصل عن الفاعلية الشعورية والتفاعلِ الاجتماعي ، وأنَّه يَدُور في حَلْقة مُفرَغة ، وعاجز عن إيجاد مكان له في سِياق عملية الاتِّصال بين أجزاء المجتمع . وإذا وَجَدَ الفردُ نَفْسَه خارج عملية الاتِّصال الاجتماعي ، فقد القُدرةَ على التواصل مع العناصر الثقافية والمُكوِّنات اللغوية . وهكذا تتكرَّس القطيعةُ المعرفية بين التَّصَوُّرات الذهنية المُجرَّدة والتطبيقات الاجتماعية المحسوسة .

2

القطيعةُ المعرفية لَيست حركةً ميكانيكيةً في الزمان والمكان ، وإنَّما هي عَجْزُ الفرد عن إسقاط المعنى الإنساني على طبيعة العلاقات الاجتماعية ، وعَجْزُ المجتمع عن تأويل الفِعل الاجتماعي بما يَضمن تحقيق مصلحة الجُزء والكُل . والغايةُ من الفِعل الاجتماعي هي حماية الفرد مِن نَفْسِه ، وحماية الإبداع الفردي من ضغط العقل الجمعي . وهذه الحمايةُ المُزْدَوَجَة مِن شأنها إنتاج خِطاب عقلاني يَحفظ التوازنَ بين الشعور والوَعْي ، ويُولِّد علاقات اجتماعية جوهرية تملك القُدرةَ على التفسير والتغيير ، ويَصنع عوالم معرفية تُحوِّل المفاهيمَ الفكرية إلى طاقة رمزية، وهذا يضمن تطوُّرَ العلاقات الاجتماعية في السياق المعرفي شكلًا وموضوعًا، وبالتالي ، يَكتسب تاريخُ الوجود الإنساني شرعيةً فكريةً ، ودَلالةً منطقيةً ، وفلسفةً منهجيةً . وهذه الأسلحةُ المعنوية تَقُود إلى الوَعْي بالذات لإعادة صناعة الذات .

3

إذا تكرَّسَ الشعورُ كبُنية لغوية رمزية ، وتجذَّرَ الوَعْي كصياغة معرفية تعبيرية ، فإنَّ كُل فِكرة ثقافية سَتَؤُول إلى ظاهرة اجتماعية ، لأن الشعور والوَعْي يُكوِّنان خصائصَ المنهجِ الاجتماعي ، المحكومِ بالآلِيَّات الفكرية ، والحاكمِ على الأدوات الوظيفية ، وهذا المنهجُ قادر على تأسيسِ العناصر الثقافية على قاعدة الدَّلالة المنطقية، وتوليدِ التراكيب الاجتماعية من أجل تغيير الواقع . وهذه القدرة الذاتية للمنهج تعمل على تحويل الفِكرة الثقافية إلى ظاهرة اجتماعية تدريجيًّا . وبشكل عام ، لا يُمكن تحويل الفِكرة إلى ظاهرة إلا في ظِل وُجود منهج عقلاني يُولِّد الأنساقَ التاريخية لتوظيفها في المجتمع من أجل نقله من الآلِيَّة الميكانيكية إلى الشعور الإنساني، ومِن الغَيبوبة إلى الوَعْي ، ومِن التلقائية إلى القَصْدِيَّة ، ومِن الحاضر إلى المُستقبل .

4

رحلةُ البحث عن معنى لكِيان الإنسان وجوهر الوجود ، لها محطات فلسفية لا يُمكن الالتفاف حَولها أو القفز فَوقها، وهي: الشعور ، والوَعْي ، والمنهج ، والفِكرة الثقافية ، والظاهرة الاجتماعية . ومحطاتُ رحلة البحث عن معنى هي معالم طريق الإنسان نَحْو ذاته وذات المجتمع . وتحرُّكُ الإنسان في المجتمع هو _ في حقيقة الأمر _ تحرُّك الإنسان باتجاه ذاته لاكتشافها من جديد ، وإعادة تركيبها على قواعد المنهج العِلْمي المُستمدة من ذات المجتمع القائمة على الوَعْي الروحي والوَعْي المادي . وحركةُ الإنسان في داخل المجتمع هي مسار وجودي في داخل الإنسان ، لأن الإنسان لا يستطيع التحركَ في طبيعة العلاقات الاجتماعية بمعزل عن شُعوره الشخصي ووَعْيه الذاتي . والمنهجُ هو البناء العقلاني الذي يجعل مسارَ الإنسان في داخله وداخل المجتمع مُتَّصِلًا بلا فجوات ولا عقبات . والفكرةُ والظاهرةُ هُما الإطار العام لخريطة طريق الإنسان إلى اكتشاف ماهِيَّته، وتحليلِ طبيعة المجتمع .

30‏/07‏/2021

سومرست موم وعلاقته بالمخابرات

 

سومرست موم وعلاقته بالمخابرات

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

....................

وُلِد الروائي الإنجليزي سُومِرسِت مُوم ( 1874_ 1965) في باريس لأبوين إنجليزيين . كان والده يعمل مستشارًا قضائيًّا للسفارة البريطانية في باريس . وبعد وفاة والديه ، أُرسِل إلى إنجلترا ، ودخل في رعاية عَمِّه الذي كان قَسًّا وراعي كنيسة .

كانت إنجليزيته سيئة ، لأن لغته الأولى كانت الفرنسية ، إضافة إلى قامته القصيرة التي ورثها عن والده . وهاتان المشكلتان كانتا مصدر تعاسته ، وسبب تأتأة لازمته طوال حياته .

عاشَ موم حياة بائسة تعيسة ، سواءٌ في كنف عمِّه أَم في المدرسة التي قرَّر مُغادرتها ، والسفر إلى ألمانيا لدراسة الأدب والفلسفة واللغة الألمانية في جامعة هايدلبرغ ، لكنه سُرعان ما عادَ إلى إنجلترا ، وتنقَّل في عدد مِن الأعمال قبل أن يُصبح طالبًا للطب في لندن ، حيث وجد مادة روايته الأولى " ليزا مِن لامبِث " ( 1897)، وقَدْرًا كبيرًا مِن مادة رواية السيرة الذاتية " العبودية البشرية " مع أن هذه الرواية لَم تُنشَر إلا في عام 1915 ، وصارت واحدة من أهم الروايات الإنجليزية الواقعية في أوائل القرن العشرين . وقد شجَّعه نجاح روايته الأولى على ترك مهنة الطب، والانصراف إلى الأدب . وقد حقَّق موم شُهرةً كبيرة ، وذاعَ صِيته بأعماله الأدبية المختلفة ، حتى إنه عُرِضت له في عام 1908 أربع مسرحيات في الوقت ذاته على مسارح لندن . وأتاحت له حياة الكاتب أن يُسافر ويعيش في أمكنة متعددة ، مِثل : إسبانيا وإيطاليا وفرنسا . وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى، التحقَ بوحدة إسعاف تابعة للصليب الأحمر البريطاني، كانت تعمل في فرنسا.  كان موم مُصابًا بداء السُّل الرئوي الحاد ، والذي منعه من استكمال أكبر مخاطرة في حياته، حيث كان جاسوسًا للمخابرات البريطانية أثناء الحرب العالمية الأولى ، بالتعاون مع المخابرات الأمريكية. وقد أوضح أنه كان يتلقى الأوامر مِن كولونيل لا يَتذكر اسمه. وقد اختاره الكولونيل ، بسبب قوة اتصالاته وعلاقاته ، ولأن عمله كمؤلف روايات يُبرِّر له تحركاته الكثيرة في القارة الأوروبية ، كما أنه يُتقِن عدة لُغات أوروبية . وكانت مهمته عبارة عن العمل كجاسوس داخل روسيا أثناء الثورة الروسية ( البُلشفية ) على القيصر ، واستلام البلاشفة للحُكم ، وعلى رأسهم لينين . وتتلخص مهمته في جمع المعلومات لمصلحة المخابرات البريطانية بخصوص السلام الأحادي بين روسيا وألمانيا ، والذي كان الشعب يُنادي بِه ، ووافقهم عليه الحزب الشيوعي، وكانت هذه " ثورة السلام والخبز". وَمِن خلال موم، تَبَيَّن للبريطانيين والأمريكيين أن لينين قد وصل إلى روسيا مِن خلال عملية "القطار الحديدي " التي نفَّذتها ألمانيا ، وكان على لينين توقيع اتفاقية السلام . وكان لموم أهمية كبرى في إيصال هذه المعلومات ، فبادرت المخابرات البريطانية لسحب موم من المنطقة ، وشَن غارات على روسيا ، لإجبارها على استكمال الحرب . وبعد ذلك تَمَّ عزل موم من اللعبة الاستخباراتية . وعلى إثر ذلك كتب روايته المشهورة " كنتُ جاسوسًا " ، والتي حقَّقت مبيعات هائلة، وكذلك حقَّقت صدمة كبرى للسوفييت. وبعد ذلك اتَّجه موم للكتابات الإباحية والمبتذلة، مِمَّا أدى إلى انحطاط قيمته الأدبية .

مِن أخطر المراحل في حياة مُوم هي وصوله إلى مرحلة الإلحاد،فقد كان يبحث في روايته" حافة السِّكين " ( 1943) عن اللَّه ، وهذا يَرجع إلى نشأته الدينية المتشددة والمتناقضة في نفس الوقت . فقد كان عَمُّه راعي الكنيسة بإحدى قُرى إنجلترا ، وكانت أفعاله مليئة بالكذب ، وكان يَكره ابنَ أخيه ، ففقدَ موم الثقة بِه وبكنيسته . وذات يوم ، مَرَّ موم أمام الكنيسة ، وقلبه ممتلئ إيمانًا ، ودعا اللَّهَ أن يُزيل عُقدة التأتأة عن لسانه، وكانت هذه عُقدة نفسية عِنده تُثير سُخرية الأطفال، وسُخرية رجال الكنيسة الذين يُعلِّمونه، وذهب فأغمض جفنيه وهو مطمئن إلى أنه سيصحو في الصباح وقد اسْتُجيب دعاؤه ، وجعل يتكلم فإذا بلسانه كما كان . وقد هُيِّئ له حينها أن الإيمان باللَّه بلا جَدوى ولا مَعنى. كما أنه سمع قساوسة البروتستانت في إنجلترا يقولون إن الكاثوليك يقولون إن البروتستانت سيدخلون النار . ووَفْق اعتقاد موم ، فإن أولئك وهؤلاء مؤمنون شديدو الإيمان ! . وهكذا ، فقد مُوم إيمانه ، ووصل إلى الإلحاد .

لاقت قصص مُوم ورواياته رواجًا وإقبالاً كبيرين ، حتى اعتبره البعض أكثر الأدباء الإنجليز شعبيةً بعد تشارلز ديكنز . لكن كثيرًا مِن النُّقاد لَم يهتموا بِه، واعتبروا قصصه سطحية وضعيفة .

كان مُوم قادرًا على نقل أعقد المشاعر والعلاقات بواقعية مُذهلة ، فلغته سهلة ، ومليئة بالمشاعر والانفعالات . والجديرُ بالذِّكر أنه كان مِن أشهر كُتَّاب بداية القرن العشرين ، ومِن أكثر الكُتَّاب رِبحًا في الثلاثينيات من القرن العشرين .

وقد اشْتُهِر بكثرة كتاباته التي تنوَّعت بين الروايات والقصص والمسرحيات والكتب السياسية، كما أنه امتازَ بأنه كاتب واقعي، يستمد قصصه من الحياة، ومِن ملاحظته للناس في أسفاره ورحلاته الكثيرة. وتتميَّز رواياته وقصصه القصيرة ببراعتها السردية ، وبساطة أسلوبها ، وسُخريتها اللاذعة.

مِن أبرز أعماله: ليزا مِن لامبِث ( 1897). الساحر ( 1908). العبودية البشرية( 1915). القمر والبِنسات الستة ( 1919) . الزوجة الدائمة( 1927).

29‏/07‏/2021

سولي برودوم ومحاربة الرومانسية

 

سولي برودوم ومحاربة الرومانسية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..................

وُلد الشاعر الفرنسي رينه سولي برودوم ( 1839_ 1907) في باريس . يُعتبَر أحد المجدِّدين الكبار في الشِّعر في القرن التاسع عشر . وقد دخل التاريخ من أوسع أبوابه باعتباره أوَّل مَن فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1901 .

بدأ حياته بدراسة العلوم الطبيعية من أجل تحقيق حُلمه الشخصي بأن يُصبح مُهندسًا. وبالفعل، حصل على دبلوم الهندسة . لقد اختار مجالاً دراسيًّا بعيدًا عن الأدب ، رُبَّما لاعتقاده أن الهندسة مهنة مضمونة تدرُّ دَخلاً ثابتًا ، بعكس الأدب الذي يُعتبَر مُجازَفة ، ومهنة غير ثابتة قد تَعجز عن توفير المتطلبات المادية لحياة كريمة. لذلك نظر إلى الهندسة كمهنة مستقبلية ، ومركز اجتماعي، ومصدر دَخل. أمَّا الأدب ( والشِّعر خصوصًا ) فهو هواية شخصية. ولاحقًا، سَيَتَّجه إلى الفلسفة، ثُمَّ إلى الشِّعر. وهكذا، يكون قد جمع بين الحاجات المادية والحاجات الروحية .

وعلى الرغم من اهتماماته العلمية ، والتزامات مهنته ، إلا أنه ظل وفيًّا للأدب وعاشقًا له ، ومُتابِعًا للأحداث الجارية في الوسط الأدبي ، ومُطَّلِعًا على الأسماء الجديدة ، ومُرَاقِبًا للصراعات الأدبية التي تُعتبر مؤشرًا على حياة الوسط الأدبي ، وحيويته ، ودَوره المركزي الفعَّال في المجتمع.

وفي ذلك الوقت كان الصراع على أشده بين البَرناسية الوليدة وأنصار الرومانسية. والبَرناسية هي مذهب أدبي فلسفي لا ديني يرفض المذهبَ الرومانسي في الأدب . أمَّا الرومانسية فهي مذهب وجداني في الكتابة الأدبية، كان له حضور قوي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في أوروبا.

عارضَ برودوم الرومانسيةَ بشكل واضح ، وساندَ البرناسيين ، ورأى أنهم على حق ، وأن مذهبهم هو التجسيد الحقيقي للمعنى والوعي ، والضمانة الأكيدة لمستقبل الأدب . وفي الحقيقة، كان هذا الأمر مُتَوَقَّعًا بسبب الخلفية الفلسفية لهذا الشاعر ، فالفلسفةُ هي الوعي الشمولي الحارس لإنجازات العقل البشري، والتطبيقُ الفكري على أرض الواقع .

أمَّا المذهب الرومانسي في الأدب ، فهو _ حَسَبَ نظرة برودوم_ تجسيد للعواطف الساذجة، والمشاعر السطحية ، وتلاعب بالكلمات الرقيقة . ووَفْق هذه الرؤية ، تَمَّ تصنيف الرومانسية كمذهب أدبي سطحي وهُلامي ، قائم على القُشور ، وعاجز عن الوصول إلى رُوح المعنى ، وغير قادر على إصابة كبد الحقيقة . وهذه الرؤية يَعتنقها كثير من الفلاسفة والمشتغلين بالفلسفة . وهذه التفاصيل المعرفية تبرز بشكل واضح في مشروع برودوم الشِّعري ، وتتلخص في تقديمه لنفْسه ، حيث إِنَّه قد أعلنَ أن هدفه هو خَلْق شِعر عِلمي للأزمنة المعاصرة. ومعَ أنه كان ينتهج الأسلوبَ العاطفي في كُتبه الأولى ، إلا أنَّه انتقل بشكل تدريجي إلى الأسلوب الشَّكلاني عن طريق الاهتمام بالمواضيع الفلسفية والعِلمية . وقد تميَّز شِعْرُه بالصِّدق والصفاء والحنين والروح الفلسفية العميقة.

ومعَ أنه صار عضوًا فاعلاً في جماعة البَرناسيين، والشاعر الرسمي لها، إلا أنه ابتعدَ عن التأطير الحزبي الضَّيق ، وراحَ يَصنع عَالَمًا شِعريًّا خاصًّا به ، له خصائص شخصية ومُتفرِّدة . وقد لَقِيَ تَشجيعًا كبيرًا من الكاتب الفرنسي الشهير فكتور هوغو . وهذا أعطاه دَفعة معنوية إلى الأمام .

تَمَّ انتخاب برودوم في عام 1881 عضوًا في الأكاديمية الفرنسية ، التي تُعتبَر واحدة من أعرق المؤسسات الفكرية في العالَم ، وتضم نخبة العلماء والمفكرين والأدباء ، الذين تركوا بصمات واضحة في تاريخ الفكر الإنساني .

كان تكريمه في وطنه تمهيدًا لتكريمه عالميًّا ، حيث مُنح جائزة نوبل للآداب عام 1901 ، ليكون أول شخص في التاريخ يحصل على هذه الجائزة . وقد رصد القيمة المالية للجائزة لإنشاء جائزة للشِّعر . لقد كرَّس حياته للشِّعر ، ولَم يَخذله الشِّعر . فقد مَنحه المجدَ الأدبي ، والشُّهرة العالمية ، وخُلود الذِّكر إلى الأبد .

وقالت أكاديمية نوبل التي مَنحته الجائزة : (( إِنَّ أعماله تنمُّ عن تكوينه الشِّعري الخاص الذي يُعطي دليلاً على المثالية النبيلة والكمال الفني،الذي يُعَدُّ مزيجًا نادرًا من صفات القلب والعقل )).

في نهاية حياته ، ساءت حالته الصحية ، وأُصيب بحالة من الشلل ، وهذا أجبره على الابتعاد عن الناس ، واعتزال الحياة الأدبية والاجتماعية ، والعيش في عزلة تامة بعيدًا عن الأنظار . وقد تُوُفِّيَ في عام 1907 ، ودُفن في باريس .

مِن أبرز مؤلفاته : أبيات وقصائد ( 1865) . مصائر ( 1872) . ثورة الزهور ( 1874) . الحنان دون جدوى ( 1875) . العدالة ( 1878) .

ونُشرت له مؤلفات بعد وفاته، من أبرزها : حُطام السفن ( 1908 ) .

28‏/07‏/2021

سول بيلو والتأثيرات الدينية

 

سول بيلو والتأثيرات الدينية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.................

وُلد الأديب الأمريكي سول بيلو ( 1915_ 2005 ) في حي فقير للمهاجرين في ضاحية من ضواحي مدينة مونتريال الكندية ، لِمُهَاجِرَيْن يهوديين روسيين .

حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1976 ، " لفهمه الإنسان وتحليله الفصيح للثقافة المعاصرة الممزوجة في عمله "، حسب تقرير لجنة الجائزة .

كان والده يعمل تاجرًا للبصل المصري . وكانت والدته مُتديِّنة جِدًّا ، ولَم يُوفَّق الوالد في تجارته ، فَقَرَّرت العائلة النُّزوح إلى أمريكا ، واستقرَّت في مدينة شيكاغو حين كان عُمر الكاتب تسع سنوات .

بدأت محاولاته في الكتابة بوقت مُبكِّر ، ولَم يُوافق والده على ذلك . وقال له مَرَّةً ساخرًا :  (( أنتَ تكتب ومِن ثَمَّ تشطب )) . وعندما بلغ العشرين مِن عُمره سأله والده : (( هل تعتبر الكتابة وظيفة ؟ )) . لكنه وجد تشجيعًا مِن والدته التي تُوُفِّيت وهو في السابعة عشرة .

في عام 1933، التحقَ بجامعة شيكاغو. وبعد سنتين انتقلَ إلى شمال غربي أمريكا، لأن الجامعة هُناك أرخص . وفي عام 1937، حصل على شهادة بالأنثروبولوجي وبِعِلم الاجتماع، وشَكَّلَ هذان الاختصاصان الأساس لأعماله الروائية . وقال : (( كُل مَرَّة أعمل على أُطروحتي تستحيل إلى قصة )) .

قبل أن يُنهيَ دراسة الماجستير ترك جامعة وسكنسن، وعاد إلى شيكاغو. وفي نهاية الثلاثينيات، انتقلَ إلى مدينة نيويورك ، وحاول كتابة الرواية والقصة ، ولكن مِن دُون أي نجاح ، وبدأ في كتابة عُروض للكتب . وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية رفض دخول الجيش بسبب إصابته بالفتق، ومِن ثَمَّ التحق بِمُشاة البحرية ، وأثناء فترة تدريبه قُصفت هيروشيما بالقنبلة الذرية .

أثناء الخدمة العسكرية كتب روايته الأولى " رَجل مُتحيِّر " ، وعندما بلغ الثلاثين مِن عُمره كتب روايته الثانية " الضحية " حول معاداة السامية . وقد كتبها تحت تأثير الكاتب الروسي دوستويفسكي . ولَم تُسجِّل كلا الروايتين أيَّ حضور أدبي ، بسب ضعف البناء الروائي ، وتأثرهما المفرَط بأسلوب الرواية الأوروبية .

في نهاية أربعينيات القرن الماضي ، حصل على منحة دراسية في باريس ، وبعد فترة طويلة من التَّسكع والتفكير في مستقبله كتب روايته الثالثة "مغامرات أوجي مارش"، التي استوحى شخصيتها من صديق الطفولة جوكي. وعندما نشرها عام 1953 ، دخلت في قائمة الأكثر مبيعًا، ووصفه النقاد بالصوت الجديد في الرواية الأمريكية ، نظرًا لأسلوبه المتدفق الذي يُشبه موسيقى الجاز ، ولغته المختلِطة من اليديش ( لغة يهود أوروبا ) والإنجليزية، والقريبة من لغة الشاعر والت ويتمان.

في روايته الرابعة " هندرسون ملك المطر " ، شعر بأنه قد سَيطر على أدواته الإبداعية ، وتبعها  عام 1964 بروايته الخامسة " هيرزوغ " . وقد حصلت الرواية على جائزة الكتاب الوطني .

وبعد ذلك كتب مسرحية " المحلِّل الأخير " التي لاقت فشلاً ذريعًا عند عَرْضها في مسرح برودواي ، كما هو الحال مع بضع مسرحيات أخرى كتبها فيما بعد .

في عام 1969، كتب روايته " كوكب السَّيد ساملر " ، وهي عَن رَجل ينجو من المحرقة النازية ، ويعيش في نيويورك ، يجترُّ تاريخه وماضيه . وحصل بيلو على جائزة الكتاب الوطني للمرة الثانية عندما نشر روايته " هدية هامبولت " ، والتي كانت واحدة من أنجح رواياته . وقد حصل في عام 1975 على جائزة بوليتزر . ومَهَّدت هذه الرواية الطريق للحصول على جائزة نوبل للآداب ، وقد وصفتها الأكاديمية السويدية قائلة : " إنها تفيض بالأفكار وتُومض بالسُّخرية ، وهي كوميديا مرحة وتتَّقد بالرحمة " .

بعد نوبل كتب رواية قصيرة ومجموعة قصص قصيرة ، ثم كتب رواية طويلة استوحاها من حياة صديقه البروفسور آلن بلوم صاحب كتاب " انغلاق العقل الأميركي "، الذي مات بمرض نقص المناعة المكتسبة ( الإيدز ). وأطلقَ على الرواية اسم " رافيلشتاين " . وقد وصفها حينها الكاتب جونثان ويلسون في " نيويورك تايمز بوك ريفيو " بالرواية العظيمة التي تَتَّحدث عن صداقة الرجل الأمريكي .

تُلاحظ الناقدة الأمريكية كاكوتاني بأن أدب سول بيلو ظَلَّ مَدِينًا لدراسته الأُولَى للتوراة والإنجيل ، ولقراءته لمسرحيات شكسبير ، ولكبار كُتَّاب روسيا من القرن التاسع عشر . وتقول : (( إن أعمال بيلو القوية تستمد تقاليدها من الوجودية الأوروبية، ومِن الأخلاقيين الروس ، ومن الدماء الأمريكية الحمراء ، مِن أجل خلق عالَمه الروائي المتميز )) .

من أبرز رواياته : اغتنم الفرصة ( 1956) . مذكرات موسبي ( 1968) . عميد الكلية وزمهرير الشتاء ( 1982) . حادث سَطْو ( 1989) . منبع الحب الحقيقي ( 1997) .

27‏/07‏/2021

سوفوكليس والتجديد المسرحي

 

سوفوكليس والتجديد المسرحي

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

....................

وُلد الكاتب المسرحي اليوناني سوفوكليس ( 496 ق.م _ 405 ق. م ) في بلدة كولونوس، وتُوُفِّيَ في أثينا. يُعتبَر أحد آباء المسرح الإغريقي، وواحدًا من أعظم ثلاثة كُتَّاب تراجيديا إغريقية، معَ أسخيلوس ويوربيديس .

كان والده أحد كبار تُجَّار العبيد ، ويمتلك ورشة لصناعة الأسلحة والأدوات المعدنية، مِمَّا وفَّر لسوفوكليس تعليمًا شاملاً ، تضمَّن أيضًا الموسيقى والرياضة . وإثر انتصار اليونانيين على الفُرس في معركة سلاميس ( 480 ق. م )، قاد سوفوكليس احتفالات الفتيان بالنصر .

شاركَ في تمثيل عدة أدوار مسرحية في المسابقات السنوية، إلى أن اشترك في مسابقة خريف عام 468 ق.م ، بمسرحية من تأليفه، وفاز بها أول مرة بالجائزة الأولى على أستاذه أسخيلوس، وذلك برباعية ( ثلاثة أجزاء مترابطة ذات موضوع مأساوي ، وجزء رابع ساخر ) .

انتُخِب عام 443ق.م مديرًا لبيت مال حِلف أثينا البحري.وبعد نجاح عرض مسرحيته" أنتيغونِه"( 442 ق.م ) عيَّنه صديقه الحاكم بركليس مع المؤرخ هيرودوت في " مجلس القادة العشرة " المسؤول عن شؤون الدولة العسكرية والسياسية .

بتكليف من مجلس المدينة أدخل سوفوكليس عام 420 ق.م عبادة أسكْلِبيوس ( إله الطب )  إلى أثينا، وكتب بهذه المناسبة نشيدًا خاصًّا ابتهالاً وتبجيلاً للإله الجديد. وتقلَّدَ مُنذ عام 413 ق.م عِدَّة مناصب عُليا بصفته خبيرًا . وعلى نقيض أسخيلوس ويوربيديس لَم يُغادر سوفوكليس أثينا، حيث تُوُفِّيَ قبل سنتين من هزيمتها المروِّعة أمام إسبرطة في حرب البيلوبونيز . وقد رفعه شعب أثينا إلى مرتبة البطل الْمُبَجَّل .

تُفيد وثائق أثينا بأن سوفوكليس ألَّف 125 مسرحية، لَم يبقَ مِن نصوصها سوى سبع مآسٍ (تراجيديا) وأربعمئة سطر من المسرحية الساخرة " كلاب الصيد " . أمَّا المسرحيات المتبقية فهي حَسَب التسلسل الزمني لتاريخ عرضها في المسرح : 1_ " أياس " التي يعرض فيها نتيجة الصراع بين الإنسان الذي يعميه غضبه وتكبره وبين إرادة الآلهة. فعندما يدرك أياس أن لا مخرج له من ذنبه تجاه الآلهة أو لاستعادة كرامته المهدورة، ينتحر . 2_ " أنتيغونه ". يسقط الملك كريون في عزلة مُطْلقة بعد أن أدرك متأخرًا أنه السبب في فقدانه جميع مَن يُحِب، نتيجة تكبُّره على قوانين الآلهة ومعارضتها بقانونه البشري . 3_ " نساء تراخيس " . تنتحر ديانيرا زوجة هِرَقْل ، لأن العباءة المغمَّسة بدم الوحش الخرافي نيسوس ، التي أرسلتها إلى زوجها ظنًّا منها أنها ستُعيده إليها، تقتله، فتتحقق بذلك نبوءة قديمة لا مهرب منها . 4_ " أوديب مَلِكًا " . يُقدِّم سوفوكليس نموذجًا فريدًا للمسرحية التحليلية، التي تُفكِّك بأسلوب تشويقي لُغز وقع قبل بَدْء زمن المسرحية، وهو هنا مقتل لايوس ملك طِيبة . إن أوديب يصير ملك المدينة ويتزوج ملكتها ، ويتبيَّن باستقصاءاته فيما بعد أنه من حيث لا يدري قد حقَّق النبوءة التي هرب من وجهها ، فقتل أباه لايوس، وتزوَّج مِن أُمِّه يوكاستِه، مِمَّا أدى إلى انتحار زوجته / أُمِّه، وقيامه بفقء عينيه اللتين لَم تريا الحقيقة.5_ "إلكترا". تُعَدُّ نموذجًا نادرًا للمسرحية الدائرية، إذ يتطابق بناء مشاهد الجزء الأول مع بناء مشاهد الثاني، مع الحفاظ على تصاعد حالة التوتر منذ المشهد الأول حتى ما قبل الأخير، الذي يُشكِّل الذِّروة الثانية للأفعال. وعلى نقيض مُعالجتَي أسخيلوس ويوربيديس للموضوع نفْسه، فإن أورست وإلكترا هنا لا يُعاقَبان مِن قِبَل الآلهة على قتل الأم.كان سوفوكليس نحو عام 409 ق.م شَيْخًا طاعنًا في السن، وكان موضوع الساعة بين المثقفين حينذاك هو البرهان على أن التربية المكتسبة أبقى وأكثر فعالية من الفِطرة . وكان جواب سوفوكليس هو مسرحية : 6_ " فيلوكتيت " .بطلها الفعلي ليس صاحب العنوان ولا أوذيسيوس، وإنما نيوبتوليموس ابن أخيل ، الذي لَم تكن له هذه الأهمية في مُعالجتَي أسخيلوس ويوربيديس . ومِن ثَمَّ فإن الكاتب قد عالج مادة أسطورية معروفة ومطروقة ليناقش موضوعًا اجتماعيًّا بالغ الحساسية في زمنه. أمَّا النص الأخير : 7_ " أوديب في كولونوس". فقد عرضه ابن أخيه بعد وفاة سوفوكليس بخمس سنوات، وهنا يعود إلى موضوعه الأثير ليبرهن على أن أوديب الشاب لَم يكن مذنبًا، فها هي الآلهة تستقبله في معبدها شيخًا ثم ترفعه إلى عليائها. لا تكمن أهمية سوفوكليس في إبداعه الأدبي والفكري فَحَسْب ، بل كذلك في التجديدات العملية على صعيد العرض في المسرح. فالجوقة في مسرحياته وعروضه صار عددها 15 شخصًا ، وأضعفَ تأثيرها الغنائي كما كان لدى أسخيلوس، ليجعلها جزءًا عضويًّا من الفعل المسرحي ، كما أضاف الممثِّل الثالث ، فأغنى بذلك المشهد والفعل والحوار، مِمَّا أدَّى إلى شِبه انقلاب في بناء المسرحية عمَّا كانت عليه قبله . ثم إنه تخلى عن وَحدة موضوع الثلاثية مُرَكِّزًا على استقلالية موضوع كل جزء على حِدَة .

وأكثر ما يلفت النظر عند تحليل مسرحياته فكريًّا ، هو تأكيده دور العقل في سلوك الإنسان ومواجهته مصيره، من دون أن يتخلى عن الموقف الديني التقليدي. والجدير بالذكر أن سوفوكليس قد نال الجائزة الأولى 24 مَرَّة في المسابقات المسرحية الأثينية ( نِسبة إلى أثينا ) .

26‏/07‏/2021

سورين كيركغارد والمعركة ضد الكنيسة

 

سورين كيركغارد والمعركة ضد الكنيسة

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..................


وُلد الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغارد ( 1813_ 1855 ) في كوبنهاغن . نشأ على المذهب البروتستانتي ، وكان لوالده بالغ الأثر فيه، فقد ربَّاه تربية دينية مُتزمِّتة " مليئة بخوف اللَّه ، وبالريبة إزاء العالَم " . قوامها صورة " المسيح المصلوب " والإحساس بالذنب .

عاش حياة ترف ومرح، وكان كثير التردد على المقاهي ، وعلى حلقات المناقشة، واشْتُهِر بخفة ظِلِّه ، وبراعته في المحاورة ، مع أنه كان يختزن إحساسًا عميقًا بالكآبة والحزن .

درس كيركغارد اللاهوت في جامعة كوبنهاجن لمدة طويلة ( 1830 _ 1840 ) . ومع ذلك فقد لعب اللاهوت دورًا ثانويًّا في حياته ، وحَل محله الأدب والمسرح والسياسة والفلسفة وحياة ماجنة اتخذت جزئيًّا شكل التحدي للأفكار المسيحية المتشددة والكئيبة التي غلبت على الحياة في بيته . ولكن بعد الصحوة الدينية عام 1838، ووفاة والده في العام ذاته، عاد كيركغارد مرة أخرى لدراسة اللاهوت . وحصل على شهادة الدكتوراة عام 1841 ، عن أطروحة بعنوان  " تصوُّر التَّهكم المسند باستمرار إلى سقراط "، ونشر كتاباته الأولى تحت أسماء مستعارة ، حاملة لأبعاد رمزية، وكانت في مجملها أعمالاً ذات طابع فلسفي وأدبي ونفسي، ثم توجَّه اهتمامه إلى الظاهرة الدينية، ونشر كتبه فيها باسمه، ولَم يتوانَ عن توجيه النقد لسُلطة الكنيسة التي كانت تسير في نظره على خلاف ما تدعو إليه المسيحية الحقيقية ، وسعى إلى وضع الأسس الإنسانية ( بالمعنى الفلسفي ) للديانة المسيحية . ركَّزت فلسفة كيركغارد على أهمية الفردية والذاتية، فكانت بمثابة الرد على فلسفة هيغل، فالحقيقة عند كيركغارد هي دائمًا ذاتية، حتى في الأخلاق كان كيركغارد يُؤيِّد الفردية والنسبية الأخلاقية. وكان يعتقد أن حياة الإنسان هَشَّة، لأنها مرتبطة بتقلبات الحياة، وليست حياة الإنسان إلا سلسلة من الخوف والقلق والشك واليأس .

تركت أعمال كيركغارد أثرًا مهمًّا في فلاسفة الوجودية، أمثال هايدغر وكارل بارت وياسبرز. وكيركغارد معدود مِن جيل روَّادها ومُؤسِّسيها . هذا فضلاً عن كَوْن تحليلاته للظاهرة الدينية شكَّلت رافدًا مهمًّا لمدارس العلاج النفسي الحديثة، وخاصة مدرسة رولو ماي في أمريكا .

في صيف 1840 ، خطب كيركغارد فتاة تدعى ريجين أولسن تصغره بتسع سنوات. ولكن انطلاقًا من الحس الديني لديه ، وتكريس حياته منذ الطفولة للَّه ، فإنه لَم يتمكن من الزواج من ريجين . وأنهى الخطبة ، وانفصل عنها في أكتوبر 1841 .

تركت هذه العلاقة الغرامية الحزينة أثرًا عميقًا بداخله طوال حياته ، ودفعته إلى تأليف كتاب   " إمَّا / أو " ومقالتين تثقيفيتين نُشرتا في يوم واحد في عام 1843 .

في مطلع عام 1838 ، قام كيركغارد بنشر أول كتبه " من أوراق شخص ما زال على قيد الحياة " ، الذي يُمثِّل تحليلاً نقديًّا لرواية هانز كريستيان أندرسن " مُجرَّد عازف " .

انقسمت المنشورات الفلسفية والنفسية والدينية والمسيحية التي ألَّفها وحَملت نحو أربعين عنوانًا ، إلى مرحلتين : ( 1843_ 1846 ) و ( 1847 _ 1851 ). تضمنت المرحلة الأولى عناوين مؤلفات مِثل: " الخوف والارتعاش "، و" مفهوم القلق "، و" شذرات فلسفية "، و " اختتام الملاحق غير العلمية " ، حيث يستعرض العمل الأخير الفترة الانتقالية بين المرحلتين .

أمَّا المرحلة الثانية المسيحية فتضمَّنت مؤلفات مِثل: " أعمال الحب "، و" الخطابات المسيحية" و " السقم حتى الموت " ، و " مُمارسات المسيحية " . كُل ذلك إضافة إلى المجلات ، وما يَقرب من 64 مُفكِّرة ومُذكِّرة ، احتفظَ بها كيركغارد في الفترة ( 1833_ 1855 ) ، حيث انطوت على نظرة ثاقبة للطريقة التي يتَّبعها في العمل ( في الكواليس ) .

يصف كيركغارد في أعماله الإمكانات المختلفة للوجود ، وخاصة في مراحلها الثلاث الرئيسية والتي يُطلِق عليها اسم " نطاقات الوجود " . وهذه النطاقات هي الجمالي والأخلاقي والديني ، حيث بيَّنَ كيركغارد قُصورها فِيما يتعلق بكل ما هو مسيحي حقًّا . اعتبر كيركغارد نفْسه أديبًا مُتَدَيِّنًا مهمته "عرض المسيحية على الآخرين". فقد أراد "تنقية الجو العام" بالتخلص من أوهام الحواس وجميع مظاهر النفاق، وإيجاد سبيل للعودة إلى " مسيحية العهد الجديد" . استنادًا لهذه الخلفية، شَنَّ في سنواته الأخيرة هجومًا على مسؤولي الكنيسة والمسيحية التي يُبشِّرون بها رسميًّا .

بدأ كيركغارد معركته مع الكنيسة في أواخر عام 1854 ، وذلك من خلال مجموعة من المقالات الصحفية ، وواصلها بذكاء حاد وآراء متطرفة ونزعة صحفية في منشوراته الشخصية .

في أكتوبر 1855 سقط مَغشيًّا عليه في الشارع، وقد تمكنَ منه الإنهاك والمرض، وتَمَّ نقله إلى المستشفى حيث تُوُفِّيَ بعدها بخمسة أسابيع .

نالت أعماله شهرة عالمية بعد الحرب العالمية الأولى، وأصبحَ مصدر إلهام عظيم لجدلية اللاهوت والفلسفة الوجودية ، وفلسفة الحوار والوجودية اللاهوتية . وكان لفلسفته تأثير حاسم على الفلسفات اللاحقة ، لا سِيَّما فيما سَيُعْرَف بالوجودية المؤمنة ( التي يُمثِّلها كارل ياسبرز وبول ريكور ) مُقارَنةً بالوجودية الملحدة ( التي يُمثِّلها مارتن هايدغر وجان بول سارتر ) .

25‏/07‏/2021

سنكلير لويس وإدمان الكحول

 

سنكلير لويس وإدمان الكحول

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...................

     وُلد الروائي الأمريكي سنكلير لويس ( 1885_ 1951 ) في ولاية مينسوتا . وفي سِن الحادية والعشرين عاشَ فترةً قصيرةً في هيليكن هول ، وهو مركز مجموعة اشتراكية في ولاية نيوجيرسي . وفي عام 1908 تخرَّج من جامعة ييل ، ثُمَّ عمل صحفيًّا . وفي عام 1914 نشر أُولَى رواياته " صاحبنا السيد رن " ، والتي تُمثِّل سَردًا ساخرًا بشكل لطيف عن موظف من نيويورك يذهب في رحلة إلى أوروبا ، ويقوم بمغامرات رومانسية ساذجة .

     انتقلَ لويس إلى العاصمة واشنطن، وكرَّس نَفْسَه للكتابة. وقد كتب أربع روايات ، لكنَّه لَم يُحقِّق نجاحًا كبيرًا . وفي عام 1916 ، بدأ التَّحضير لروايته الجديدة " الشارع الرئيسي " التي تَتحدَّث عن الحياة الواقعية في بلدة صغيرة . وقد أكملها في منتصف عام 1920 ، ونشرها في نفس العام ، ولاقت نجاحًا كبيرًا ، وأثارت تعاطفًا هائلاً مَعَ أفكارها ، وحقَّقت له شُهرةً سريعة .

     أحدثت الروايةُ ضجةً هائلة في المجتمع الأمريكي، وكان صدورها حَدَثًا مثيرًا في التاريخ الثقافي الأمريكي. وكانت التوقعات الأكثر تفاؤلاً أن تَبيع الرواية 25 ألف نسخة في الأشهر الستة الأُولَى ، لكنها باعت 180 ألف نسخة . وفي غضون بِضْع سنوات ، قُدِّرت المبيعات بمليونَي نُسخة . وصار الكاتب من الأغنياء .

     وَجَّهت الروايةُ نقدًا قويًّا لبلادة الذهن ونقص الثقافة في بلدة أمريكية صغيرة ، كما أنَّها سَخِرَت من ضيق التفكير والرضا عن الذات لدى سُكَّانها . وقد كُتبت الرواية بعناية فائقة ، وتَعرَّضت لأدق التفاصيل ، وأظهرت معاناة بطلة الرواية وجهودها الضائعة من أجل تحسين مدينتها، وإيقاظها مِن سُباتها العميق . والكاتبُ يُركِّز على مبدأ غياب الأمل في التغيير ، واستحالة تحقيق نهضة أخلاقية في مجتمع مادي استهلاكي .

     واصلَ لويس سلسلة نجاحاته الأدبية ، فأصدرَ في عام 1925 رواية " أروسميث " ، التي تصف خيبة أمل طبيب شاب مثالي في صراعه مع الفساد والحسد وحب الذات والأذى . فازت الرواية بجائزة بوليتزر للعام 1926 . وقد رفضها لويس لاعتقاده أنه كان من الواجب أن يَحصل على الجائزة قبل ذلك .

     وفي روايته " إلمر جَنْتري " ( 1927) يسخر لويس من النفاق الديني والتزمت في بلاد الغرب الأوسط .

     وكانت روايته دورسورث ( 1929) آخر أعماله الجيدة على المستوى الفني . وهي تتحدث عن التناقضات بين الحياة الأمريكية والحياة الأوروبية، وتصف مصاعب زواج رَجل أعمال أمريكي مشهور خلال جولته الأوروبية .

     وفي عام 1928 تزوج لويس من دوروثي طومسون (1894 – 1961 ) وهي مراسلة أجنبية شهيرة ، وكاتبة عمود صحفي . وانتهى زواجهما بالطلاق عام 1942 .

     حقَّق لويس شُهرةً عالمية بسبب رواياته ، التي هاجم فيها أشكال الضعف في المجتمع الأمريكي، وكشف عوالم الرياء والنفاق . وهذا أهَّله للفوز بجائزة نوبل للآداب عام 1930 ، ليكون أول أمريكي يفوز بهذه الجائزة .

     وقد مُنحت له الجائزة لقدرته الفائقة على رسم الشخصيات، ووصف الأحداث بدقة وعُمق ، مع الطرافة والفُكاهة ، واستخدام أساليب لغوية جديدة . كما يمتاز الكاتب بنقده للرأسمالية الأمريكية المادية في الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين . وقد تَمَّ تكريمه بعد فوزه بالجائزة ، وذلك بوضع اسمه على طابع بريد تذكاري ضمن سلسلة الأمريكيين العظماء .

     والمضحك المبكي أنَّ الكاتب لَم يُعْثَرْ عَلَيه خلال مراسم جائزة نوبل، ليتسلَّم جائزته من يد ملك السويد، ووُجد نائمًا في دَورة المياه التابعة لدار ( الكونسرتو ) ، وهو في أسوأ حالات السُّكر ، وقد أُغلِق عَلَيه باب المرحاض ! .

     بعد فَوزه بجائزة نوبل . كتب لويس أكثر من عشر روايات ، لكنَّ مستواها الفني ضعيف . فهي روايات تُصوِّر الواقعَ بصورة ضحلة وساذجة.يعتبره النقادُ في وقتنا الحالي فنَّانًا دقيق الملاحظة، يمتاز بأسلوب وصفي بارع ، لكنَّه ليس مُبْدِعًا حقيقيًّا لافتقاره إلى الأسلوب الأدبي الرفيع .

     إنَّ المشكلة الرئيسية في حياة لويس هي إدمانه على الكحول . وقد نصحه الأطباء بالتوقف عن الشُّرب إذا كان يُريد أن يَعيش. لكنَّه لَم يتوقف. وتُوُفِّيَ في رُوما من إدمان الكحول في عام 1951 . وتَمَّ حرق جُثته ، ودُفن رُفاته في مسقط رأسه .

     مِن أبرز رواياته: صاحبنا السيد رن ( 1914 ) . الهواء مجاني ( 1919) . الشارع الرئيسي ( 1920) . بابيت ( 1922) . أروسميث ( 1925) . إلمر جَنْتري ( 1927) . دورسورث ( 1929) .

24‏/07‏/2021

الكينونة اللغوية والكيان الإنساني

 

الكينونة اللغوية والكيان الإنساني

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.....................

     البحث عن منظومة لغوية رمزية تستطيع تفسيرَ تاريخ الفِعل الاجتماعي ، وعلاقاته المتشابكة في البيئة المُعاشة ، وانعكاساته  الثقافية على شخصية الإنسان وبُنية المجتمع ، يتطلَّب استنباطَ تراكيب فلسفية مِن الواقع المادي ، ويستلزم إيجادَ رموز معرفية على تماس مباشر مع الحياة العملية . والواقعُ المادي هو منبع فلسفة الأفكار ، والحياةُ العملية هي مصدر التفسيرات للظواهر الاجتماعية الحاكمة على السلوك الإنساني ، الذي يُمثِّل منظومةً عقلانيةً تشتمل على الموضوع ( الإنسان ) والحامل ( الواقع ) والمحمول ( الذهن ) . ومهما كان العقلُ الجمعي مُتَمَيِّزًا ومُتَفَرِّدًا ، سيظل أداةً وظيفيةً للنهوض بالواقع ، لأن العقل الجمعي لَيس بَرَّ الأمان ، وإنما هو وسيلة للوصول إلى بَر الأمان . وهذا يعني أن العقل والواقع كِيانان مستقلان تربطهما مصلحة متبادلة ومصير مُشترك، والعلاقةُ بينهما يتم تحديدها وفق طبيعة التفاعل بين الإنسان واللغة من جهة ، والإنسان والمجتمع من جهة أخرى . وهذا التفاعل المُزْدَوَج يُمثِّل الخُطوةَ الأُولَى لتحويل الإنسان إلى كَينونة لُغوية ، وتحويل المجتمع إلى كِيان إنساني .

2

     مسارُ الظواهر الاجتماعية _ مَهما بَدَا مُتَشَعِّبًا ومُتَفَرِّعًا _ لا يُمكن أن يَخرج عن منظومة ( الكَينونة اللغوية/ الكِيان الإنساني ) . واللغةُ تمنح المجتمعَ الشرعيةَ الزمانية ، والإنسانُ يَمنح المجتمعَ المشروعيةَ المكانية ، وهذا يعني أن المجتمع لغة رمزية تجسَّدت في الكِيان الإنساني رُوحًا وشكلًا . وهذا التَّجَسُّد يَقُود إلى تجسيد القيم الأخلاقية والمعايير الحضارية في وجود المجتمع ووظيفة الإنسان ، مِمَّا يُعطي للتحليل العقلاني مساحةً واسعةً لتكريسِ المشاعر وربطها بالظروف البيئية، وتفعيلِ المبادئ ودمجها مع المصلحة العامَّة والمنفعة الفردية. وبدُون التحليل العقلاني ستنهار الأُطُرُ الاجتماعية الحاضنة للتفاعل الإنساني ، أي إنَّ المشاعر ستسقط في الفراغ ، وتنهار المبادئ في العدم ، وسيجد الإنسانُ نَفْسَه خارجَ دائرة الفِعل الاجتماعي ، ويَدُور المجتمعُ في حَلْقة مُفرَغة ، بحثًا عن كَبش فِدَاء وبشر يُتقِنون لَعِبَ أدوار الضَّحايا . وإذا شَعَرَ الإنسانُ بأنَّه ضَحِيَّة ، فهذا يدلُّ على أنَّه يعيش في مجتمع يحتكم إلى سياسة الأمر الواقع ، ولا يَحتكم إلى سياسة العقل القائمة على تحرُّر الذات وتحرير الموضوع. ولا يُمكن أن يَحصل الإنسانُ على شرعية وجوده في عَالَم المشاعر والمبادئ ، إلا إذا امتلكَ الوَعْيَ بالتحولات الاجتماعية في داخله وخارجه ، واستطاعَ تكوين تفسيرات منطقية للعناصر الوجودية القابلة للمعرفة . وكُل معرفة خاضعة للأحكام العقلية تُمثِّل تجربةً اجتماعيةً بشكل أوْ بآخَر ، لأن المعرفة لا تتحرَّك في الفراغ، ولا تُحمَل على الوَهْم ، وإنَّما تُحمَل على السلوك الإنساني الواعي ، الذي يتحرَّك في المجتمع أفقيًّا ( تغيير الموقع ) وعموديًّا ( تغيير الموقف). وتتبدَّل المواقفُ بتبدُّل المواقع، وهذا يُشير إلى أنَّ الوظيفة الاجتماعية للإنسان في السِّياق الزمني والحَيِّز المكاني ، هي التي تُحدِّد مشاعرَه وأحكامَه ومواقفَه ، وتُكوِّن علاقةً منطقية ديناميكية بين المشاعر والمصالح .

3

     كُل وسيلة معرفية هي أداة وظيفية اجتماعية ، يتم استخدامها للبحث عن معنى للأشياء ، وإيجاد جَوهر للعناصر ، وتكوين ماهيَّة للأفكار ، وتوفير غطاء شرعي لسُلطة الطبيعة الإنسانية على العلاقات الاجتماعية ، لذلك كان المجتمعُ تاريخًا يُولَد باستمرار في الأشياء والعناصر والأفكار والعلاقات، وهذه هي الجُغرافيا المعنوية المُرتبطة بالتفاعلات الاجتماعية الرمزية ، التي تخضع لمركزية اللغة في نظام التوافق الشعوري ، ومنظومةِ التَّكَيُّف الحياتي . والشعورُ مُرتبط بالنظام ( مجموعة العناصر الذهنية والمُكوِّنات الوجودية التي يَفصل بينها علاقات نَفْسِيَّة ودوافع شخصية ). والحياةُ مُرتبطة بالمنظومة ( بُنية ذاتية مُتكاملة ومُترابطة وقائمة على تفسير العمليات العقلية وتوليد الأحداث الواقعية ) . وهذا يعني أن الشعور بيئة مُغلَقة غَير مَفتوحة ، لأنه خاضع للحالة المِزاجية ورَدَّة الفِعل والمُؤثِّرات الخارجية ، في حِين أن الحياة بيئة مَفتوحة غَير مُغلَقة ، لأنها مُتعلِّقة بكثرة الأسئلة الوجودية ، وتعدُّد التجارب الإنسانية ، وتنوُّع العمليات الاجتماعية . ويُمكن القول إنَّ الشعورَ حياةٌ مُغلَقة ، والحياة شُعور مَفتوح .

23‏/07‏/2021

سلمان رشدي وفتوى إهدار الدم

 

سلمان رشدي وفتوى إهدار الدم

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

................

     وُلد الروائي البريطاني سلمان رشدي ( 1947_ ... ) في مومباي بالهند . كان الابن الوحيد لوالده الذي يعمل محاميًا،وهو خريج جامعة كامبردج،وتَحَوَّل إلى رجل اعمال.أمَّا والدته فمُدرِّسة.

     تلقى رشدي تعليمه في مدرسة كاتدرائية جون كونن في مومباي، قبل أن ينتقل إلى مدرسة الرجبي الداخلية في إنجلترا ، ثُمَّ درس التاريخَ في الكلية الملكية في جامعة كامبردج .

     تُعتبَر رواية " غريموس " ( 1975 ) الأولى لرشدي ، ولكنها لَم تحظَ بأي اهتمام أو شهرة . أمَّا الرواية التي أخذت الحيِّز الواسع من الشهرة والتقدير ، فهي روايته الثانية " أطفال منتصف الليل" ( 1980 ) التي حصل رشدي بسببها على جائزة بوكر الإنجليزية الهامة . وبها دخل رشدي تاريخ الأدب، وتُعتبَر اليوم أهم أعماله الأدبية على الإطلاق .

     وعلماء الأدب الإنجليزي أشاروا إلى أن رواية " أطفال منتصف الليل " أثَّرت بشكل كبير على شكل الأدب الهندي _ الإنجليزي ، وتطوره خلال السنوات .

     بعد هذا النجاح ، جاء رشدي برواية جديدة بعنوان " العار " ( 1983) . وبعد هذه الرواية أصدر عمل جديد بُنِيَ على تجربة شخصية، وهو" ابتسامة جكوار "( 1987 ) ، ثم أعمال أخرى كثيرة .

     نشر أشهر رواياته " آيات شيطانية " عام 1988 ، وحازَ عنها على جائزة "ويتبيرد" لكن شهرة الرواية جاءت بسبب تسبُّبها في إحداث ضجة في العالَم الإسلامي ، فقد تَمَّ اعتبارها مُهينة لشخص رسول الإسلام محمد ، عليه الصلاة والسلام . وأدى ذلك إلى حدوث ضجة كبيرة في دول العالَم الإسلامي ، لأن الرواية تعرَّضت لشخص الرسول محمد بالإسفاف، استنادًا إلى بعض روايات الحديث الباطلة .

     ووفق الرواية ، فإن الرسول محمدًا ( ماهوند في الرواية ) ، قام بإضافة آيات في القرآن لتبرير وجود آلهة ثلاثة كانت مُقدَّسة في مكة حِينها . وحَسَب الرواية ، فإن الرسول محمدًا قام بحذف وتغيير هذه الآيات بتبرير أن الشيطان نطق على لسانه هذه الآيات. وهذا ما أثار الغضب في العالَم الإسلامي ، الأمر الذي أدى إلى منع ترجمة وبيع الكتاب في اللغة العربية .

     وفي 14 فبراير 1989 ، صدرت فتوى بإهدار دم الروائي سلمان رشدي عن قائد الثورة الإيرانية الخميني من خلال راديو طهران ، الذي قال فيه : (( يجب إعدام سلمان رشدي )) .

     وفي 3 أغسطس 1989 ، فشلت محاولة لاغتياله بواسطة كتاب مُفخَّخ، حاول تمريره عنصر من " حزب الله " يُدعَى مصطفى مازح . انفجرَ الكتاب بشكل مبكر مِمَّا أدى إلى مقتل الأخير وتدمير طابقين من فندق بادينغتون . ولهذا السبب عاش رشدي مختفيًا عن الأنظار والحياة العامة لمدة عشر سنوات .

     في الفترة اللاحقة لهذه الفتوى ، تلت موجه كبيرة من الهجمات والتهديدات لدور الطباعة والنشر والترجمة. والكثير من المترجمين وأصحاب دور الطباعة تعرَّضوا للتهديد أو القتل على أيدي جماعات إسلامية . والكثير من المكتبات حُرِقت أو تَمَّ تفجيرها . وأُقيمت مسابقات بين بعض المجاميع لإحراق أكبر عدد ممكن من هذه الرواية .

     وأعلن رجل الدين الإيراني أحمد خاتمي، في عام 2007 أن الفتوى بإهدار دم الكاتب البريطاني سلمان رشدي ، التي أصدرها الخميني في عام 1989 بسبب كتابه " آيات شيطانية " ، لا تزال سارية ، مُؤكِّدًا أنها " غير قابلة للتعديل " .

     وفي يونيو 2007 منحت ملكةُ بريطانيا رُشدي لقب " فارس "، مِمَّا أثار ضجة جديدة في العالَم الإسلامي. أدَّى ذلك إلى توجيه الانتقادات من بعض الدول الإسلامية لهذا الحدث، حيث اعتبرته إيران "ضد الإسلام" ، أمَّا في باكستان فقد أدان المجلس الوطني الباكستاني هذا القرار ، وطالب بريطانيا بسحب هذا التكريم فورًا ، وقام أعضاء مجلس العلماء بمنح أسامة بن لادن لقب  " سيف الله " .

22‏/07‏/2021

سلمى لاغرلوف وروحانية القدس

 

سلمى لاغرلوف وروحانية القدس

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...................

وُلدت الروائية السويدية سلمى لاغرلوف ( 1858_ 1940) في قرية تابعة لمقاطعة فارملاند في شمال السويد البارد. وقد عانت من عَيْب خَلْقي في وِركها، سَبَّبَ لها الشَّلَل ، ثُمَّ تعافت منه بعد ذلك،ولكنها بَقِيَت تعاني عَرَجًا بسيطًا. وعلى الرغم من هذه الإعاقة إلا أنها عاشت طفولة سعيدة. بدأت حياتها كمُعلِّمة في بلدة لاند سكرونا في الفترة ( 1885 _ 1895 ) . ولمع اسمها في عالَم الأدب لأول مرة بعد أن نشرت روايتها الأولى"ملحمة غوستا برلنغ " عام 1891 ، والتي بشَّرت بالنهضة الرومنطيقية في الأدب السويدي .

وفي عام 1895 ، قرَّرت ترك مهنة التدريس ، والتفرغ للأدب . وقامت برحلة إلى فلسطين في مطلع القرن العشرين ، وأقامت في القدس. وقد انبهرت بالمكان ، وتأثَّرت بالأجواء الروحانية، وأثَّرت فيها هذه الزيارة التاريخية ، التي كانت أشْبَه ما تكون بالحج المقدَّس . وعندما عادت إلى بلادها ، أصدرت كتابًا تضمَّن انطباعاتها عن هذه البقعة الفريدة من العالم .

وقد قرَّرت الأكاديمية السويدية منحها جائزة نوبل للآداب في عام 1909 ، تقديرًا لإبداعها في تصوير مشاعر النَّفْس الإنسانية ، والنظرة الروحية ، والخيال الحي المفعَم بالحيوية ، والنابض بالمثالية النبيلة . وفي عام 1928، حصلت على الدكتوراة الفخرية في الآداب من جامعة جريفس فالد الألمانية . وقد تَمَّ تحويل منزلها الذي عاشت فيه إلى متحف يضم مقتنياتها .

تدور أحداث غالبية أعمالها الأدبية في مقاطعة فارملاند(على الحدود السويدية_ النرويجية  ). ومعَ هذا ، فإِن رحلاتها إلى خارج بلادها قد ألْهَمَتْها العديد من الأعمال ، مثل عجائب المسيح الدَّجال ( 1897 ) التي تدور أحداثها في جزيرة صِقِلِّية . كما أن زيارتها لفلسطين ألهمتها كتابة رواية القدس ( 1901 ) ، التي حُوِّلت إلى فيلم سينمائي لاقى استحسانًا عالميًّا .

اندمجت لاغرلوف معَ الطبيعة بشكل واضح ، فكتبت عن الكهوف ، واستلهمت الأساطير التي كانت تستمع إليها وهي صغيرة ، وعاشت في أجواء الملاحم الشعبية ، واستحضرت أغاني المزارعين البسطاء ، واعتمدت على توظيف التراث الإسكندنافي ، وكشفت عن صراع الإنسان مع نفْسه ، وأبرزتْ ميوله ورغباته ومشاعره كالحب والكراهية والطمع . واستخدمتْ في كتاباتها الحيوانات والأقزام ، والأبطال الخارقين. وعاشت في أجواء الثقافة التراثية الشعبية المشتملة على ثنائية ( خير الطبيعة / الأرواح الشريرة ) .

وعلى الرغم من كثرة أعمالها الأدبية ، إلا أن رواية " مغامرات نيلز المدهشة " ( 1906) تظل أعظم أعمالها على الإطلاق . وسبب كتابة هذه الرواية هو أن هيئة المعلمين الوطنية قد كَلَّفت الكاتبة لاغرلوف بتأليف كتاب جغرافيا للمدارس السويدية في عام 1902. وقد قضت لاغرلوف عِدَّة سنوات تَبحث في المناظر الطبيعية ، وتدرس حياة الحيوانات والنباتات ، وتُحلِّل تفاصيل الحياة الريفية ، وتبحث في الأساطير السويدية.وقامت بمزج هذه العناصر في قصة نيلز ، ذلك الصَّبي الذي عُوقِب بسبب سُوء معاملته للحيوانات مِن قِبَل قزم المزرعة ، فصارَ قزمًا صغيرًا. مِمَّا جعله قادرًا على مُحادَثة الحيوانات ، والتعامل معها ، ثُمَّ صار يسافر عبر أراضي السويد على ظهر إِوَزَّة كبيرة . وخلال هذه الرحلة يتعرف على السويد، وجغرافيتها، وتاريخها ، وتراثها الشعبي ، وحكاياتها الأسطورية . وقد حقَّق الكتاب نجاحًا ساحقًا في أنحاء العالَم ، وتُرْجِم إلى أكثر من ثلاثين لغة مِنها اللغة العربية ، وتَمَّ تحويله إلى مسلسل كرتوني للأطفال . وقد عزَّز الرمزيةَ في الأدب المحلي والعالمي على حَدٍّ سَواء . وفي عام 1992 ، قرَّرت الحكومة السويدية وضع صورة الصَّبي نيلز خلف العملة السويدية ( فئة 20 كرونا )، وسلمى لاغرلوف في الأمام ، اعترافًا بمكانة هذه الكاتبة ، وتخليدًا لذكراها وإنجازاتها .

ساهمت لاغرلوف في الحراك الاجتماعي ، والدفاع عن قضايا مجتمعها وحقوق المرأة . فدعمتْ حق المرأة في الانتخاب ، كما ألقت العديد من المحاضرات التي تدعم حقوق المرأة في السويد .

وفي نهاية حياتها ، أصبحت نظرتها للعالَم والإنسان سَوداوية ، وانعزلت في بَيتها القديم ، ولَم تعد تختلط بالناس . وقد تُوُفِّيَت في عام 1940 ، وهي تعمل على كتابة رواية جديدة .

تُعتبَر أول امرأة في التاريخ تفوز بجائزة نوبل للآداب ( 1909 ) . وهي أول كاتبة سويدية تفوز بهذه الجائزة العالمية التي بَدأت بمنح جوائزها منذ العام 1901 .وهذا يعني أنها فَتحت باب الجائزة أمام أدباء بلدها. وقد أصبحت في عام 1914 عضوًا في الأكاديمية التي تمنح جوائز نوبل التي يتبنَّاها بلدها السويد . فصارت بذلك أول كاتبة تحصل على جائزة نوبل ‏وعضوية الأكاديمية . كما يُنظَر إليها كواحدة من أبرز الكاتبات في الأدب السويدي الحديث .

مِن أبرز أعمالها : ملحمة غوستا برلنغ ( 1891) ، روابط خفية ( 1894) ، عجائب المسيح الدجال ( 1897) ، القدس ( 1901) ، كنز السيد آرنز ( 1904) ، مغامرات نيلز المدهشة ( 1906) ، ذكريات من طفولتي ( 1930) .