وُلد الشاعر والدُّبلوماسي الفرنسي سان جون
بيرس ( 1887_ 1975) في إحدى جُزر الأنتيل . اسمه الحقيقي ألكسي سان ليجي . انتقل
إلى فرنسا في 1898للدراسة بمدينة بوردو .
وفي
عام 1914 ، التحق بوزارة الخارجية ، حيث تولى عدة مناصب دبلوماسية في بكين وواشنطن
، ثُمَّ ترقَّى إلى منصب السكرتير العام لوزارة الخارجية .
عاش
بيرس حياة الغربة والترحال الدائم، وهذا الأمر جعله يبتعد في الرؤية الفكرية ،
والمعالجة الشِّعرية . وهذا سبب تَمَيُّزه عن مُعاصريه من شعراء النصف الأول من
القرن العشرين مِثْل : لوركا ، وكفافيس ، وماياكوفسكي .
لقد
حَوَّلته الغربة إلى إنسان عائش في الأحلام والذكريات ، وصار يرى الأمور من منظور
فلسفي مُتميِّز ومُختلف عن الآخرين . كما أنَّ الترحال الدائم جعله يَلتقي بأشخاص
مختلفين دينيًّا وعِرقيًّا وفكريًّا ، كما ساهم في تَعَرُّفه على عادات الشعوب
وثقافاتها . ولا شَكَّ أن هذا الانفتاح على الحضارات في الشرق والغرب ، ساهمَ بشكل
كبير في توسيع ثقافته ، وإبعاده عن النظرة الأحادية الضَّيقة، وزيادة خِبرته
العملية.وهذا انعكسَ إيجابًا على مستواه الفكري وإبداعه الشِّعري.
لقد
كان بيرس شاعرًا شديد الحساسية والتميز . يمتلك إحساسًا بالرِّفعة والعُلُوِّ .
وعلى الرغم من كثرة أسفاره ، واختلاطه بكثير من الناس أثناء ترحاله الدائم،إلا أنه
كان دائم العودة إلى نَفْسه، ولا يَعيش إلا مع ذاته. كان معتزلاً بصورة دائمة ،
وغائبًا باستمرار .
والعُزلةُ والاعتزالُ والغيابُ ، كُلها قيم فكرية ذات تأثير هائل في حياته
الشخصية ، وواضحة في شِعره وأفكاره.لقد انعكست تفاصيل حياته الشخصية على أشعاره.
وصار مَتنه الشِّعري أشبه بوصفة سِحرية، وخليط من الأحلام الضائعة، والذكريات
البعيدة ، والبشر الراحلين في الزمان والمكان . وكأنَّ الشاعر يُقدِّم للبشرية
خطابًا شِعريًّا مترامي الأطراف ، ونمطًا صعبًا وعسيرًا على الفهم ، يمتلأ
بالصياغات اللغوية الغامضة ، ويتحرَّك ضمن صوت مُقنَّع وأفكار لا نهائية .
صاغَ
بيرس خطابًا شِعريًّا شديد التعقيد على الصعيدين اللغوي والفكري ، وكأنه خِطاب من
العالَم القديم لأحد الخطباء الرومان ، تَمَّ إعداده لِيُلقى على الأمراء وعِلية
القَوم . وهذا يدل على أن الشاعر كان نُخبويًّا إلى أبعد درجة ، ولَم يكن معنيًّا
بالوصول إلى الناس ، أو تحقيق جماهيرية ونجومية بينهم . لقد آمنَ أن الشِّعر مِرآة
الرُّوح الغامضة ، وفن نُخبوي سِرِّي لا علاقة للعوام بِه .
يمتاز
شِعر بيرس بغنائية ذات طبيعة ملحمية ، لا نظير لها بين مُعاصريه . كما أنه يُعتبَر
أكبر مُجدِّد في الشِّعر الفرنسي . فعلى المستوى التقني ، نجده يتخلى عن البيت
الشِّعري ، لِيُؤسِّس المقطع الشِّعري المتكامل الذي يُشبِه الفقرة ، كما أنه تخلى
عن بحور الشِّعر الفرنسي التقليدية ، وراحَ يكتب الشِّعر على شكل إيقاعات متتالية
، ذات موسيقى خاصة بها .
إن
الغربة روحيًّا ومكانيًّا تتجلى بكل وضوح في أدق تفاصيل حياة الشاعر . فقد وُلد في
أرض غريبة ( إحدى جُزر الأنتيل ) . وتَقَلَّدَ مناصب دبلوماسية حتى نهاية الحرب
العالمية الثانية في بلادٍ بعيدة . ثُمَّ عاش حياة الاغتراب منذ الحرب العالمية
الثانية في الولايات المتحدة الأمريكية .
وكل
هذا التشرد في المدن والبلاد والجغرافيا ، لَم يفصله روحيًّا عن العالَم ، ولَم
يُؤثِّر سلبًا على حساسيته الشِّعرية، ومرجعيته الفكرية. فقد نشر ديوانه الشِّعري
الأول"مدائح " عام 1911 تحت اسمه الحقيقي. وبعدها يصمت لمدة ثلاثة عشر
عامًا،مع انقطاع عن الوسط الشِّعري الفرنسي، باستثناء صديقيه الشاعر بول كلوديل ،
والكاتب فكتور سيغالين الذي كان دليله لمعرفة العالَم الآسيوي مُمثَّلاً بالمجال
الثقافي الصيني .
وهذا
الابتعاد جعله بمعزل عن التأثر بالتيارات الشِّعرية في عصره كالسريالية ، والشِّعر
الملتزم النضالي. وقد كان كثيرًا ما يَسخر من السرياليين ، ويَعتبرهم عائشين في
الأوهام والخديعة البصرية.
وفي
عام 1924 ، أصدر ديوانه الشِّعري الثاني " صداقة الأمير"تحت اسم سان جون
بيرس ، وهو الاسم الأدبي الذي اختاره لنفسه ، ليتخفى وراءه طيلة حياته الأدبية .
وفي
العام نفسه ، نشر قصيدته الأشهر " آناباز " التي كرَّسته شاعرًا
عالميًّا . و " آناباز " ليس اسْمًا لفتاة كما يُخيَّل إلى البعض . بل
هو تعبير إغريقي قديم يعني " رحلة إلى داخل الذات " .
وبعدها
يصمت مرةً أخرة لمدة ثمانية عشر عامًا ، ثُمَّ يُصدر قصيدته " منفى " التي
نشرها في ثلاث مدن في آنٍ معًا: شيكاغو، وبوينس آيرس ، ومرسيليا ، كما ظهرت بباريس
في طبعة سِرِّية .
ثُمَّ
نشر بشكل متتابع : " قصائد إلى الغريبة " ( 1943 ) ، ويتلوها بقصيدة
" أمطار " ( 1943). ثُمَّ قصيدة " ثلوج " ( 1944) ، ويَتلوها
بقصيدة " رياح " ( 1946) . وفي عام 1953 ، جمع كُل هذه القصائد
المطوَّلة في كتاب واحد عنوانه ( أعمال شِعرية ) .