وُلد الفيلسوف الفرنسي بول ريكور ( 1913 _
2005 ) في مدينة فالنس الفرنسية ، لعائلة بروتستانتية محافظة . تُوُفِّيت أُمُّه
بعد ولادته بستة أشهر . وقُتل والده عام 1915 على جبهة القتال في الحرب العالمية
الأولى . وشكَّل هذا الحادث الأليم بالنسبة إليه تأسيسًا هاجسيًّا لمسألة مُقلقة
ومُزعجة حول إشكالية الشر ، والخطيئة والمعاناة ، وهذا ما جعله يتبنى الشيوعية وهو
شاب مراهق. وهو ما سيدفع به إلى معالجة مشكلة العدالة والذاكرة ، ومسألة
الأيديولوجيا والعنف .
بعد هذا اليُتم المزدوَج، تولَّى جَدَّاه
وعَمُّته تربيته في بيت عُرف بالصرامة والانضباط السلوكي، إلا أنه لَم يكن يخلو من
الحب والحنان ، كما وصفه ريكور نفْسه .
أنهى دراسته الثانوية في رين ، ثم دخل
جامعتها ، وحصل منها على شهادة الماجستير . جُنِّد في عام 1939 للحرب العالمية
الثانية في مواجهة ألمانيا ، وسُجن إلى غاية عام 1945 . وينضاف إلى سلسلة المآسي
السابقة فاجعة وفاة أخته في ريعان شبابها ، وانتحار ابنه .
في السجن استثمر وقته في قراءة الفيلسوف
الألماني كارل ياسبرز ، فكانت بداية مسار التعرُّف على الذات . وترجم كتاب هوسِّرل
" أفكار " ، ويُعتبَر هذا مثالاً نادرًا عن الصداقة مع لغة العدو من
خلال ضحيته. وهذا يعني ترسُّخ مبدأ التعرُّف على الذات من خلال الآخر لدى ريكور .
وهو مثال أيضًا عن الفيلسوف الذي يستمع لفيلسوف آخر،ويُصغي إليه في لُغته.حيث إن
اهتمامه بالآخر يُغذِّي إبداعه للذات ، وفق قاعدة تقول إنه " لا توجد طريقة
للخروج من الذات إلا بالتغرُّب في الغَير " . بعد إطلاق سراحه ، شاركَ مع بعض
الفلاسفة الفرنسيين في التعريف بالفينومينولوجيا الألمانية، واستثمرها في سنوات
الستينيات في حواره مع العلوم الإنسانية ، وعلى الخصوص مع التحليل النفسي ، غير أن
هيمنة البنيوية وأفكار سارتر ولاكان ، حالت دون انتشار أفكاره في فرنسا . اختار
ريكور منفاه الفلسفي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث انتقل إلى جامعة شيكاغو
، وبقي فيها حتى عام 1990 . تعرَّف عن قُرب على الفلسفة الأنجلوسكسونية ، وساهم في
نشر الفلسفة التحليلية الأمريكية بفرنسا ، التي ساعدته على فتح خطابه الفلسفي
ومشروعه في تشييد الذات على الفعل ، وربطه بالفكر داخل دائرة تأويل واحدة . وقد
ظهرت لدى ريكور ملامح مشروع إمكانية التفكير والفعل بواسطة الذات نفسها ، كما
يُوضِّحه عنوان كتابه " الذات عَيْنها كآخر " ( 1990 ) . وهذا المشروع
ليس إلا جُزءًا من حياته ومسيرته في البحث عن ذات الفلسفة من خلال ذاته . ولهذا
اعتبر ريكور أن الأنا أو الذات تثبت في أفعالها . بعد أن نُفِيَ ريكور عن المشهد
الثقافي الفرنسي، عاد إلى فرنسا ، وتَمَّت إعادة اكتشافه من جديد ، ولكن في خضم
الصراعات الفكرية والأيديولوجية العنيفة في فرنسا .
فضَّل ريكور الإصغاء والانتباه للخصوم ،
مُحترمًا حُججهم ، ولَم يكن يهتم بشروط إمكان الفلسفة ، ولا بالبحث عن ميدان يكون
في النهاية مجال عَظَمة وسيادة ، بل اهتمَّ بالمضامين الفلسفية التي تعمل بطريقة
مستترة في الخطابات العلمية ، ذلك أن الفلسفة لا تستغني عن الحوار مع العلوم .
ويُذكِّرنا ريكور بأن الفلسفة تموت إذا قطعنا حوارها مع العلوم الدقيقة ، والعلوم
الطبيعية ، والعلوم الإنسانية .
ساهمَ ريكور في إثراء السجالات والحوارات
التي يقوم بها الخطاب الفلسفي مع العلوم الأخرى، وهذا بفضل قدرة فائقة على القراءة
، حتى سمَّاه أحد الباحثين الفرنسيين " غول القراءة"، وهو ما أفضى إلى
تملكه النص ، وقُدرته على التواصل مع مُحاوريه عبر النصوص ، بطريقة تسمح بالخروج
بنتائج عملية ، كما هو حال دلالة عنوان أحد مؤلفاته"من النص إلى الفِعل".
يرى ريكور أن " الفيلسوف بوصفه مفكرًا
مسؤولاً ، يجب أن يسلك طريقًا وسطًا بين الإلحاد والإيمان ، لأنه لا يُمكنه أن
يكتفيَ بمزاوجة هرمينوطيقا تُطيح بأصنام الآلهة الميتة ، وهرمينوطيقا موضوعية هي
تكرار لموت الإله الأخلاقي وإعادة تجميع الأنبياء والمجتمع المسيحي الأول . إن
مسؤولية الفيلسوف هي التفكير ".
وبهذا فإن الهرمينوطيقا الإنجيلية كانت أقل
حضورًا في أعماله من الهرمينوطيقا الفلسفية ، وإن تضمَّنت نصوصه حوارًا مع ما
يُسمِّيه ريكور " بالفكر الإنجيلي " . أي الفكر الذي يشتغل على تفسير
النصوص الإنجيلية وتأويلها .
لقد تركت الأحداث المؤلمة في حياة ريكور
أثرًا عميقًا في نفْسه، وانعكست فيما بعد على مشروعه الفلسفي المشبع بالنَّزعة
الإنسانية ، والساعي إلى إعادة الإنسان في كَوْنيته إلى إنسانيته .